في عيني أيوب تسكن صورة القمر. يستعيره ضوءاً يشق له درباً في السماء وريحها الباردة. يركض كمن يطير في الهواء. يلاعبه القمر، يقفز أمامه كل لحظة، فاتحاً له درباً في عتمة تشارين.

تحت سرير من حديد، محشور بين جدران لم يصلها الدهان يوماً، خبّأ أيوب أوراق الصحف العتيقة. صفراء هي، مثل سجادة من ورق شجر الخريف. جمع لها خشباً صغيراً من شجرة لوز انتظر موعد تبديل ثوبها السنوي.

ذات مساء، استلّ خيطاً من عباءة أمه. ومشى صوب التل الأخضر. وقف على شرفة فلسطين، أشاح وجهه خفراً، ثم صار يركض في العشب المديد. رأسه مرفوع إلى السماء. وعيناه تلحقان طائرته الورقية، وقد رسم على أجنحتها صور رفاقه الذين أسقطتهم طائرة من حديد ونار.

على حافة تلك الأرض، وقف أيوب طويلاً، يخاطب الله وحدَه. واثق بأنه ينصت إليه وحدَه. يستجيره باسم ايوب. يناجيه طالباً الصبر بعد صبر. سائلاً إياه ألّا يجعل الوقت مملاً. لا ينفع معه سكون الليل وصمت ساكنيه، ولا طعن السكاكين. رجاه أن يعينه في السير عكس الريح.

رسم أيوب لنفسه صورة عصفور طيب. يذكره طفلاً عندما كان يسبقه إلى كوز التين. ثم صادقه طيراً يقفز من غصن إلى غصن. ثم كبر معه نسراً يرتفع إلى أعلى من ناظريه في السماء. كان ينتظره كل صباح وكل مساء. وعتبه على طيوره أنهم رفضوا كشف سرّهم له. كان سؤال يؤرقه: كيف ينام الصقر في غيمة؟

خشي أيوب العار، إن لم يشفع له اسمه عند الطيور لمساكنتها، أو صداقتها على الأقل، كان مستعداً لأي شيء مقابل رحلة واحدة معها. احتال على كل شيء. رسم نفسه على شكل حبة قمح، زهرة لوز، وكوز رمان مكسور. ولما طوى جسده على شكل أوراق الصنوبر، صار عشاً سكنته العصافير. كان يسترق السمع إلى أمهم تقصّ عليهم حكاية الصقر والغيمة.

أفاقت العصافير وبقي أيوب غافياً. لا هواء يفتح له العينين. ولا شتاء يوقظه من حلمه الأجمل. صوت وحيد يلفه كله. صوت عصفورة تمنحه البشارة. قالت له: صنعتُ لك جناحين، واستعرت لك من النسر عينه. وجمعت لك ريش الأسراب كلها. ثم قبّلته باسم الله، وهمست في أذنه:

قم يا أيوب، قم يا طير الله الجميل، اذهب بعيداً واصرخ ملء السماء...

  • فريق ماسة
  • 2012-10-12
  • 10314
  • من الأرشيف

الصقر النائم في غيمة

في عيني أيوب تسكن صورة القمر. يستعيره ضوءاً يشق له درباً في السماء وريحها الباردة. يركض كمن يطير في الهواء. يلاعبه القمر، يقفز أمامه كل لحظة، فاتحاً له درباً في عتمة تشارين. تحت سرير من حديد، محشور بين جدران لم يصلها الدهان يوماً، خبّأ أيوب أوراق الصحف العتيقة. صفراء هي، مثل سجادة من ورق شجر الخريف. جمع لها خشباً صغيراً من شجرة لوز انتظر موعد تبديل ثوبها السنوي. ذات مساء، استلّ خيطاً من عباءة أمه. ومشى صوب التل الأخضر. وقف على شرفة فلسطين، أشاح وجهه خفراً، ثم صار يركض في العشب المديد. رأسه مرفوع إلى السماء. وعيناه تلحقان طائرته الورقية، وقد رسم على أجنحتها صور رفاقه الذين أسقطتهم طائرة من حديد ونار. على حافة تلك الأرض، وقف أيوب طويلاً، يخاطب الله وحدَه. واثق بأنه ينصت إليه وحدَه. يستجيره باسم ايوب. يناجيه طالباً الصبر بعد صبر. سائلاً إياه ألّا يجعل الوقت مملاً. لا ينفع معه سكون الليل وصمت ساكنيه، ولا طعن السكاكين. رجاه أن يعينه في السير عكس الريح. رسم أيوب لنفسه صورة عصفور طيب. يذكره طفلاً عندما كان يسبقه إلى كوز التين. ثم صادقه طيراً يقفز من غصن إلى غصن. ثم كبر معه نسراً يرتفع إلى أعلى من ناظريه في السماء. كان ينتظره كل صباح وكل مساء. وعتبه على طيوره أنهم رفضوا كشف سرّهم له. كان سؤال يؤرقه: كيف ينام الصقر في غيمة؟ خشي أيوب العار، إن لم يشفع له اسمه عند الطيور لمساكنتها، أو صداقتها على الأقل، كان مستعداً لأي شيء مقابل رحلة واحدة معها. احتال على كل شيء. رسم نفسه على شكل حبة قمح، زهرة لوز، وكوز رمان مكسور. ولما طوى جسده على شكل أوراق الصنوبر، صار عشاً سكنته العصافير. كان يسترق السمع إلى أمهم تقصّ عليهم حكاية الصقر والغيمة. أفاقت العصافير وبقي أيوب غافياً. لا هواء يفتح له العينين. ولا شتاء يوقظه من حلمه الأجمل. صوت وحيد يلفه كله. صوت عصفورة تمنحه البشارة. قالت له: صنعتُ لك جناحين، واستعرت لك من النسر عينه. وجمعت لك ريش الأسراب كلها. ثم قبّلته باسم الله، وهمست في أذنه: قم يا أيوب، قم يا طير الله الجميل، اذهب بعيداً واصرخ ملء السماء...

المصدر : الاخبار /ابراهيم الأمين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة