ما الذي يمكن أن يفعله "المفكرون" العرب الذين يمتطون اليوم حصان الثورة لكي يطمئنوا إلى استمرار تدفق المال النفطي إلى جيوبهم؟ لا شيء غير التركيز على شحذ أفكارهم وإجهاد أنفسهم لكي تبقى تلك الأفكار في أعلى مستويات التوثب والثاقبية.

لذا وبدلاً من التحلي بفضيلة الاعتراف بالجهل كمقدمة ـ باعتراف العلماء ـ لتحصيل نزر قليل من العلم، نراهم يتخذون وضعية العارفين ولا يصرفون معرفتهم حيثما اتفق. بل يغدقونها على الكبار من المسؤولين في هذا العالم بقصد إرشادهم إلى حلول المشكلات المستعصية.

من أواخر بنات افكارهم في هذا المجال فكرة غير جديدة نبتت أرومتها في لبنان أيام رواج الدعوات المشبوهة إلى تحييده عن صراعات المنطقة وكأنه رقعة فوق كوكب بعيد لم تصل إليه المسابر الفضائية بعد. فكرة "المفكرين" العرب تلك تتجشم إرشاد الولايات المتحدة والعالم إلى ما ينبغي فعله لضمان ما يسمى بـانتصار "الثورة السورية" وسقوط النظام القائم. وما ينبغي فعله، على ما يقوله هؤلاء، هو النظر إلى مشكلة سورية على أنها مستقلة عن أوضاع المنطقة والعالم. أيضاً كما ولو أن سورية رقعة فوق كوكب بعيد لم تصل إليه المسابر الفضائية بعد.

في هذا المقام لا يستطيع المرء أن يطرد من ذهنه فكرة يجر إليها ترابط الأفكار: كان أشعب، الظريف العربي الشهير، ضمن حلقة تحلقت حول أحد علماء الكلام. وكان هذا الأخير، قبل ولادة الفيلسوف الإنكليزي دافيد هيوم بمئات السنين، يستفيض في تقديم براهينه على عدم ترابط الظواهر الموضوعية التي تبدو مترابطة فيما بينها. فما كان من أشعب إلا أن أفحم المتكلم بأربع كلمات جاءت مصداقاً لقول من قال بأن "البلاغة الإيجاز". تلك الكلمات تعبر عن التلازم الإجباري لوظيفتين فيزيولوجيتين يقوم بهما الجسم البشري أكثر من مرة يومياً. (وقد أعرضنا عن ذكر ما قاله أشعب لأن كلمتين من الكلمات الأربع مثيرة للتقزز).

تركيا، لبنان، الأردن، "إسرائيل"، العراق، إيران، قطر، السعودية، الإمارات، الكويت، مصر، الشيشان، البوسنة، ليبيا، تونس، الصين، روسيا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، الولايات المتحدة، وعشرات الدول التي تحضر مؤتمرات "أصدقاء سورية"، كلها معنية بهذا الشكل أو ذاك بما يجري في سورية. وبينها دول تتدخل مباشرة في الشأن السوري، وتدخلها ليس رائده التسلية وتزجية الوقت بل المصالح الحيوية والحرص الاستراتيجي على حماية هذه المصالح.

ومع هذا، لا يجد "المفكرون" العرب الذين يمتطون حصان ما يسمى بـ"الثورة السورية" حرجاً في إرشاد الولايات المتحدة والعالم إلى الحل السحري القاضي بضرورة النظر إلى المشكلة في سورية على أنها مستقلة عن أوضاع المنطقة والعالم.

الواضح أن آخر همومهم ما قد يقوله العقل السليم عن فكرتهم. لأن أول تلك الهموم هو الاطمئنان إلى استمرار تدفق المال النفطي إلى جيوبهم. واطمئنانهم مرجعه إلى كون من يمدونهم بالمال لا يعرفون القراءة، وإن كانوا من القارئين فإنهم يسأمون سريعاً ويعودون إلى مباهجهم المعتادة المعروفة.

وعلى افتراض أن هنالك ثورة سورية، لا مجرد فلتة تورط فيها بعض الناس من المضللين، أو تسلل إليها بعض الحاقدين أو استثمر فيها بعض اللصوص والمرتزقين، ألا يجدر بهذه الثورة أن يكون لها فكر تستلهمه وتسير على هداه؟ وما القول في ثورة فكر مفكريها بهذا المستوى من الإدقاع؟

لندع أفكار هؤلاء المفكرين، وهي حقاً كثيرة لا يتسع المجال للإحاطة بها وكلها من المستوى المذكور آنفاً، ولنعد إلى الواقع. الدعوات الملحة لتدخل عسكري في سورية تحت الفصل السابع أصبحت مثيرة للملل لكثرة ما ترددت. ومثلها الدعوات إلى إقامة منطقة حظر جوي.

فالمعروف أن حلف الناتو لا يجرؤ، لألف سبب وسبب، على التدخل العسكري المباشر في سورية لا تحت غطاء الشرعية الدولية كما في ليبيا ولا من دون غطاء كما في يوغوسلافيا السابقة. علماً بأن دول الحلف تتلهف إلى إسقاط النظام السوري، وتضع كل ثقلها في الضغط السياسي والاقتصادي على سورية، وتقدم السلاح وشتى أنواع المساعدات، بما فيها الاستخباراتية، إلى الجماعات المسلحة على أمل أن تتمكن تلك الجماعات من تحقيق هذا الهدف أو، أقله، أن تخرج سورية من الحرب أقل قوة من ذي قبل.

والمعروف أن أعداء سورية، من كبيرهم إلى صغيرهم، لا يمكنهم الاستمرار في الكذب إلى ما لا نهاية عبر القول، منذ عشرين شهراً، بالسقوط الوشيك لنظام الأسد، في وقت يجمع فيه المراقبون على ما يسمونه، كذباً وتضليلاً، بتوازن القوى بين الجماعات المسلحة والنظام وإمكانية استمرار الحرب لسنوات طويلة وانتقالها إلى بلدان مجاورة وأبعد من مجاورة.

فالحقيقة، ولأن سورية قلب المنطقة والعالم، لا رقعة فوق كوكب بعيد لم تصل إليه المسابر الفضائية بعد، أن جميع الظروف المحيطة بالحرب على سوريا تشير إلى أن الحسم بات في متناول الشعب والجيش السوريين، وأن منطق الهزائم التي أحاقت بالولايات المتحدة وحلفائها وأدواتها خلال السنوات الأخيرة في إيران وأفغانستان والعراق ولبنان، سيفرض نفسه أيضاً في الحالة السورية، وأن سورية ستخرج من الحرب أكثر قوة من ذي قبل، وأن انتصارها الوشيك سيغير شكل المنطقة والعالم.

  • فريق ماسة
  • 2012-10-05
  • 14514
  • من الأرشيف

المفكرون" العرب... عندما يرشدون أميركا إلى كيفية القضاء على سورية!

ما الذي يمكن أن يفعله "المفكرون" العرب الذين يمتطون اليوم حصان الثورة لكي يطمئنوا إلى استمرار تدفق المال النفطي إلى جيوبهم؟ لا شيء غير التركيز على شحذ أفكارهم وإجهاد أنفسهم لكي تبقى تلك الأفكار في أعلى مستويات التوثب والثاقبية. لذا وبدلاً من التحلي بفضيلة الاعتراف بالجهل كمقدمة ـ باعتراف العلماء ـ لتحصيل نزر قليل من العلم، نراهم يتخذون وضعية العارفين ولا يصرفون معرفتهم حيثما اتفق. بل يغدقونها على الكبار من المسؤولين في هذا العالم بقصد إرشادهم إلى حلول المشكلات المستعصية. من أواخر بنات افكارهم في هذا المجال فكرة غير جديدة نبتت أرومتها في لبنان أيام رواج الدعوات المشبوهة إلى تحييده عن صراعات المنطقة وكأنه رقعة فوق كوكب بعيد لم تصل إليه المسابر الفضائية بعد. فكرة "المفكرين" العرب تلك تتجشم إرشاد الولايات المتحدة والعالم إلى ما ينبغي فعله لضمان ما يسمى بـانتصار "الثورة السورية" وسقوط النظام القائم. وما ينبغي فعله، على ما يقوله هؤلاء، هو النظر إلى مشكلة سورية على أنها مستقلة عن أوضاع المنطقة والعالم. أيضاً كما ولو أن سورية رقعة فوق كوكب بعيد لم تصل إليه المسابر الفضائية بعد. في هذا المقام لا يستطيع المرء أن يطرد من ذهنه فكرة يجر إليها ترابط الأفكار: كان أشعب، الظريف العربي الشهير، ضمن حلقة تحلقت حول أحد علماء الكلام. وكان هذا الأخير، قبل ولادة الفيلسوف الإنكليزي دافيد هيوم بمئات السنين، يستفيض في تقديم براهينه على عدم ترابط الظواهر الموضوعية التي تبدو مترابطة فيما بينها. فما كان من أشعب إلا أن أفحم المتكلم بأربع كلمات جاءت مصداقاً لقول من قال بأن "البلاغة الإيجاز". تلك الكلمات تعبر عن التلازم الإجباري لوظيفتين فيزيولوجيتين يقوم بهما الجسم البشري أكثر من مرة يومياً. (وقد أعرضنا عن ذكر ما قاله أشعب لأن كلمتين من الكلمات الأربع مثيرة للتقزز). تركيا، لبنان، الأردن، "إسرائيل"، العراق، إيران، قطر، السعودية، الإمارات، الكويت، مصر، الشيشان، البوسنة، ليبيا، تونس، الصين، روسيا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، الولايات المتحدة، وعشرات الدول التي تحضر مؤتمرات "أصدقاء سورية"، كلها معنية بهذا الشكل أو ذاك بما يجري في سورية. وبينها دول تتدخل مباشرة في الشأن السوري، وتدخلها ليس رائده التسلية وتزجية الوقت بل المصالح الحيوية والحرص الاستراتيجي على حماية هذه المصالح. ومع هذا، لا يجد "المفكرون" العرب الذين يمتطون حصان ما يسمى بـ"الثورة السورية" حرجاً في إرشاد الولايات المتحدة والعالم إلى الحل السحري القاضي بضرورة النظر إلى المشكلة في سورية على أنها مستقلة عن أوضاع المنطقة والعالم. الواضح أن آخر همومهم ما قد يقوله العقل السليم عن فكرتهم. لأن أول تلك الهموم هو الاطمئنان إلى استمرار تدفق المال النفطي إلى جيوبهم. واطمئنانهم مرجعه إلى كون من يمدونهم بالمال لا يعرفون القراءة، وإن كانوا من القارئين فإنهم يسأمون سريعاً ويعودون إلى مباهجهم المعتادة المعروفة. وعلى افتراض أن هنالك ثورة سورية، لا مجرد فلتة تورط فيها بعض الناس من المضللين، أو تسلل إليها بعض الحاقدين أو استثمر فيها بعض اللصوص والمرتزقين، ألا يجدر بهذه الثورة أن يكون لها فكر تستلهمه وتسير على هداه؟ وما القول في ثورة فكر مفكريها بهذا المستوى من الإدقاع؟ لندع أفكار هؤلاء المفكرين، وهي حقاً كثيرة لا يتسع المجال للإحاطة بها وكلها من المستوى المذكور آنفاً، ولنعد إلى الواقع. الدعوات الملحة لتدخل عسكري في سورية تحت الفصل السابع أصبحت مثيرة للملل لكثرة ما ترددت. ومثلها الدعوات إلى إقامة منطقة حظر جوي. فالمعروف أن حلف الناتو لا يجرؤ، لألف سبب وسبب، على التدخل العسكري المباشر في سورية لا تحت غطاء الشرعية الدولية كما في ليبيا ولا من دون غطاء كما في يوغوسلافيا السابقة. علماً بأن دول الحلف تتلهف إلى إسقاط النظام السوري، وتضع كل ثقلها في الضغط السياسي والاقتصادي على سورية، وتقدم السلاح وشتى أنواع المساعدات، بما فيها الاستخباراتية، إلى الجماعات المسلحة على أمل أن تتمكن تلك الجماعات من تحقيق هذا الهدف أو، أقله، أن تخرج سورية من الحرب أقل قوة من ذي قبل. والمعروف أن أعداء سورية، من كبيرهم إلى صغيرهم، لا يمكنهم الاستمرار في الكذب إلى ما لا نهاية عبر القول، منذ عشرين شهراً، بالسقوط الوشيك لنظام الأسد، في وقت يجمع فيه المراقبون على ما يسمونه، كذباً وتضليلاً، بتوازن القوى بين الجماعات المسلحة والنظام وإمكانية استمرار الحرب لسنوات طويلة وانتقالها إلى بلدان مجاورة وأبعد من مجاورة. فالحقيقة، ولأن سورية قلب المنطقة والعالم، لا رقعة فوق كوكب بعيد لم تصل إليه المسابر الفضائية بعد، أن جميع الظروف المحيطة بالحرب على سوريا تشير إلى أن الحسم بات في متناول الشعب والجيش السوريين، وأن منطق الهزائم التي أحاقت بالولايات المتحدة وحلفائها وأدواتها خلال السنوات الأخيرة في إيران وأفغانستان والعراق ولبنان، سيفرض نفسه أيضاً في الحالة السورية، وأن سورية ستخرج من الحرب أكثر قوة من ذي قبل، وأن انتصارها الوشيك سيغير شكل المنطقة والعالم.

المصدر : الماسة السورية/ عقيل الشيخ حسين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة