دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
راشيل كوري. فتاة أميركية، أحبّها معظم الفلسطينيين من دون أن يعرفوها. ومع أنّهم يحبون كل ضيوفهم، لكن كوري لم تكن ضيفةً عادية، بل بطلة استثنائية. لم تأت إلى فلسطين سائحة. جاءتها وهي في ربيع العمر مناضلة في سبيل القضية. عاشت مع أهل فلسطين لتُعاين وجعهم عن قرب قبل أن تقضي نحبها فداءهم. دافعت عن الفلسطينيين بجسدها النحيل، عارية من الأسلحة، مقاومة في سبيل عدالة القضية، فاستشهدت كما الفلسطينيون. دهسها جندي صهيوني بجرافته كي يشق طريقه لهدم البيت الذي احتضنها. داسها مرتين كي يشبع من موتها. تاريخ لن تنساه فلسطين 16 آذار 2003، تاريخ يمثّل دليلاً على همجية لا تفرّق بين فلسطيني وأجنبي
تصدر المحكمة المركزية في حيفا، اليوم، حكمها في الدعوى المدنية المقدّمة منذ عام 2005 ضدّ إسرائيل بشأن استشهاد المتضامنة مع الشعب الفلسطيني راشيل كوري قبل تسعة أعوام. الدعوة المقدّمة من أسرة راشيل، التي يمثلها المحامي حسين أبو حسين، تتهم دولة الاحتلال بالمسؤولية عن مقتل ابنتها والتقاعس عن إجراء تحقيق كامل وموثوق بشأن القضية.
وكانت راشيل، وهي مواطنة أميركية من مدينة أولمبيا في ولاية واشنطن، قد استشهدت في مدينة رفح بقطاع غزة، بينما كانت تحتج بصفة سلمية على هدم منازل مدنيين فلسطينيين، فسحقتها جرافة صهيونية من نوع «كاتربلر» طراز «D9 ــ R».
وقال والد راشيل، كريج كوري، إن «الدعوى القضائية هي خطوة صغيرة فقط في العملية التي انهمكت فيها أسرتنا للبحث عن الحقيقة والعدالة. وتؤكد الأدلة المتزايدة المقدمة للمحكمة على تعطُّل نظام المساءلة، وهو أمر تغاضت عنه سلطات الولايات المتحدة على الرغم من استنتاجها أن التحقيق الإسرائيلي العسكري لم يكن شاملاً أو موثوقاً أو شفافاً». وأضاف أن «القضية التي رفعتها العائلة مجرد خطوة صغيرة في بحث عمره 10 سنوات تقريباً عن الحقيقة والعدالة». وأكد أن الأدلة التي قُدمت أمام المحكمة تثبت أنّه لا وجود للصدقية، وأن العائلة ستفعل كل ما بوسعها للوصول إلى حقيقة ما حدث لراشيل، ومعاقبة المسؤول.
وكانت الشهادات الشفهية في القضية قد بدأت في 10 آذار 2010. وعقدت المحكمة 15 جلسة منذ ذلك الوقت أدلى بها 23 شاهداً بشهاداتهم. وقد كشفت المحكمة عن قصور خطير في التدريج القيادي العسكري في ما يتعلق بمقتل المدنيين والتدمير العشوائي لممتلكاتهم على أيدي الجيش الصهيوني في جنوب غزة.
وقال المحامي حسين أبو حسين: «لا تسعى هذه المحاكمة إلى محاسبة الأشخاص الذين أخفقوا في حماية حياة راشيل فحسب، بل أيضاً نظام التحقيقات العسكرية المعيب الذي يفتقر إلى الحياد والشمول. وثمة التزام على دولة إسرائيل بموجب القانون الدولي بأن تطبق كافة الإجراءات الاحتياطية الممكنة لتجنيب المدنيين مخاطر العمليات العسكرية. وقد انتهك الجيش الإسرائيلي هذا المبدأ انتهاكاً صارخاً عندما سبب مقتل راشيل كوري، ويجب إخضاعه للمحاسبة».
إذاً، صباح اليوم، يقرأ القاضي عوديد غيرشون حكم المحكمة، لتنفض بعدها أسرة كوري إلى عقد مؤتمر صحافي. ومن المتوقع أن تلقي المرحلة الثانية من المحاكمة المزيد من الضوء على ظروف وفاتها وعلى فشل الحكومة الاسرائيلية في إجراء تحقيق شامل يتسم بالصدقية والشفافية حول ظروف قتلها، وقدمت دولة الاحتلال ثلاث عشرة شهادة، بما في ذلك شهادة سائق الجرافة التي سحقتها والقائد الميداني المسؤول حينها، بالإضافة الى شهادة عسكريين آخرين أشرفوا على عملية هدم البيوت.
الحكم سيعيد إلى الفلسطينيين ذكرى صديقتهم راشيل، من مواليد 1979. الطالبة والناشطة الأميركية والمدافعة عن حقوق الانسان، التي كانت عضواً في حركة التضامن العالمية «ISM»، حين قررت الذهاب لقطاع غزة في فلسطين المحتلة خلال الانتفاضة الثانية.
عُرفت راشيل كوري بأنها «صديقة الأطفال». وقالت قبل استشهادها بأيام: «ثمة عدد غير محدود من الوسائل يعاني من خلالها هؤلاء الأطفال، أريد أن أدعم هؤلاء الأطفال». منذ أن وصلت إلى غزة أقامت في منزل عائلة نصر الله التي تبنّتها. لم تكن رحّالة أو مغامرة تبحث عن الإثارة، ولم تكن لديها رغبة في الموت، بل كانت هناك لأنها شعرت بأن في استطاعتها التأثير وإحداث تغيير، فشاركت في نشاطات للمساعدة في التخفيف من أوضاع الفلسطينيين المعيشية، كمساعدة المزارعين في حصد الغلال، ومرافقة الأطفال الى المدارس، وإبقاء الطرق مفتوحة أمام سيارات الإسعاف والقيام بأعمال احتجاج سلمية.
في السادس عشر من آذار 2003، وصلت قوات الاحتلال بجرافاتها، لتهدم منزل العائلة التي أقامت لديها راشيل، فهبت مباشرة لتقف في طريق الجرافة، ظناً منها أنها تستطيع منعها، لكن الجندي الإسرائيلي الذي يقود الجرافة لم يتوقف، بل صدمها عمداً ثم داسها، لتلقى مصرعها في الحال.
ملابسات مقتل راشيل ليست موضع جدل، فقد أكد شهود عيان وصحافيون أجانب كانوا يغطون عملية هدم منازل المواطنين الفلسطينيين، أن سائق الجرافة الإسرائيلية تعمد دهس راشيل والمرور على جسدها بالجرافة مرّتين أثناء محاولتها إيقافه، قبل أن يتابع تقدمه لهدم منزل مدنيين. وزعمت إسرائيل أن سائق الجرافة لم يكن في إمكانه رؤية كوري، وأنّ الناشطة تصرّفت بطريقة طائشة.
مما كتبته كوري في رسائلها إلى أصدقائها في العالم خلال وجودها في فلسطين: «اعتقد أن أي عمل اكاديمي أو اي قراءة أو اي مشاركة بمؤتمرات أو مشاهدة أفلام وثائقية أو سماع قصص وروايات، لم تكن لتسمح لي بإدراك الواقع هنا، ولا يمكن تخيل ذلك إذا لم تشاهده بنفسك، وحتى بعد ذلك تفكر طوال الوقت بما إذا كانت تجربتك تعبر عن واقع حقيقي».
وكانت راشيل قد أرسلت لوالدتها الكثير من الرسائل الإلكترونية، وقيل إن أهم ما قالت فيها: «كل ما أردته هو أن أكتب لأمي لأقول لها إني أشهد هذا التطهير العرقي المزمن وخائفة جداً، وأراجع معتقداتي الأساسية عن الطبيعة الإنسانية الخيّرة، هذا يجب أن يتوقف». وتابعت كوري: «أرى أنها فكرة جيدة أن نترك كل شيء ونكرّس حياتنا لجعل هذا يتوقف، أشعر بالرعب وعدم التصديق، وأشعر بخيبة الأمل أن يكون هذا هو أساس حقيقة عالمنا وأننا نشارك فيه بالفعل، ليس هذا أبداً ما أتيت من أجله إلى هذا العالم، ليس هذا أبداً ما أراده الناس عندما أتوا إلى هذا العالم». وختمت رسالتها: «هذا ليس العالم الذي أردت أنتِ وأبي أن آتي إليه عندما قررتما أن تنجباني، هذا ليس ما عنيتِه عندما نظرت إلى بحيرة كابيتول وقلت: هذا هو العالم الكبير وأنا آتية إليه».
واشنطن غير راضية عن التحقيقات
اعتبرت واشنطن، على لسان سفيرها لدى تل أبيب دان شابيرو، أن التحقيقات الإسرائيلية بشأن مقتل راشيل كوري لم تكن شفافة أو كافية أو ذات صدقية. لكن هذا الموقف في الوقت نفسه، لم يستطع التأثير على التحقيق الإسرائيلي. وأخبر السفير عائلة كوري في لقاء معهم الأسبوع الماضي داخل السفارة بتل أبيب، أن حكومة الولايات المتحدة ليست راضية عن سير التحقيق الذي أجراه الجيش الإسرائيلي، ولا عن قرار أغلاق التحقيق.
وتدّعي الحكومة الإسرائيلية ان مقتل راشيل وقع أثناء «نزاع مسلح في منطقه عسكرية مغلقة»، وبناءً عليه يجب أن يدرج تحت تعريف «عملية قتالية» أو «فعل حربي»، وأن يغلق ملف هذه القضية ويعفى الجنود المتورطون من كل المسؤولية، بموجب القانون الإسرائيلي. وتزعم حكومة الاحتلال أنّها تحظى بحصانة من مثل هذه الدعاوى، اذ تستند الى نظرية مثيرة للجدل فحواها أن عمليات الجنود الاسرائيليين في رفح يجب اعتبارها «عمليات دولة».
إســــمي راشــــيـل كـــــوري
تركت الرسائل التي بعثت بها راشيل كوري لأهلها خلال فترة وجودها في غزة أثراً بالغاً لدى الرأي العالمي منذ انفردت صحيفة «الغارديان» البريطانية بنشرها. في التالي بعض المقاطع من الرسائل الأولى والأخيرة، التي تصف فيها مشاعر الود والقلق التي كان يبديها إزاءها كل الفلسطينيين الذين تقاسمهم حياتهم ومخاوفهم:
من الصعب عليّ أن أفكر في ما يحدث هنا وأنا جالسة أكتب للولايات المتحدة. إنه شيء لا علاقة له بالبوابة الافتراضية للرفاهية، لا أعلم إن كان أي من الأطفال هنا قد عاش بدون ثقوب أحدثتها طلقات الدبابات في حوائط بيوتهم أو أبراج جيش محتل تراقبهم باستمرار.
عندما أكون مع أصدقائي الفلسطينيين أصبح أقل خوفاً مما عندما أحاول أن ألعب دور المراقبة أو الناشطة. أنا مندهشة من مدى قدرتهم على الدفاع عن إنسانيتهم وقدرتهم على الضحك وحسن الضيافة ضدّ الرعب الفظيع المحيط بهم وشبح الموت الذي لا يفارقهم. أظن أن هذا الأمر هو ما يُعرف بالكرامة.
أشعر بالغثيان من نفسي، لأن هؤلاء الناس الذين يواجهون الجحيم يهتمون بي بهذا القدر من اللطف. أعلم أن كل هذا يبدو مبالغا فيه في الولايات المتحدة.
بصراحة، الطيبة الشديدة للناس بالإضافة إلى الأدلة الدامغة على التدمير المتعمد لحياتهم، تجعل الأمر لا يمكن تصوره. بالنسبة لي لا أصدق حقيقة أن شيئا كهذا من الممكن أن يحدث في العالم بدون احتجاج أكبر عليه. أعتقد أن هذا يمثل تطهيرا عرقيا.
هذا يجب أن يتوقف. أرى أنها فكرة جيدة أن نترك كل شيء ونكرس حياتنا لجعل هذا يتوقف. أشعر بالرعب وعدم التصديق. خيبة أمل. أشعر بخيبة الأمل أن هذا هو أساس حقيقة عالمنا وأننا نشارك فيه بالفعل. ليس هذا أبدا ما أتيت من أجله إلى هذا العالم.
أعتقد أن الحرية للفلسطينيين ستكون مصدر أمل لهذا الشعب المناضل، وإلهام لكل الشعوب العربية التي تعاني من نظام مدعوم من أميركا. وأتطلع إلى اليوم الذي يستيقظ فيه المجتمع المدني الأميركي الذي يهتم بمعاناة الشعوب الأخرى.
(«السفير»)
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة