ثمة ظاهرة لا يمكن ان تخفى على احد - اذا كان يملك قدرة التفكير الموضوعي بلا انحياز ولا تطرف ازاء احداث سوريا - هي ان استعداد العالم الغربي المتحد ضد سوريا لزيادة قدراته العدوانية يرتبط بتراجع مواقف وأحوال القوى التي تقاتل لمصلحته ونيابة عنه داخل الاراضي السورية.

بمعنى انه كلما بدا ان سوريا قادرة على إلحاق هزيمة حاسمة بهذه القوى القتالية المدعومة عربياً وغربياً كلما تصاعدت المساعدات العربية والغربية بالمال والرجال والسلاح لإطالة أمد الحرب. في الوقت نفسه تتصاعد الحملة الإعلامية العربية والغربية التي تصور ان هدف هذه الحرب هو انهيار سوريا بنظامها وأسسها الاجتماعية والسياسية والشعبية. ولا حديث بعد ذلك على الإطلاق عن تصور بديل لسوريا يبنى على أنقاض سوريا التي يعرفها العالم. وسوريا القائمة رغم المحنة يعرفها العالم جيداً، وإلا لكان التدخل الاميركي الاطلسي الخليجي، وربما اكثر، هو البديل المطروح منذ وقت غير قصير.

وحتى اللحظة الراهنة فإن الغرب وحلفاءه العرب الخليجيين بالذات يجيدون ادارة الحملة الدعائية ضد سوريا، بما يوحي بأن الحرب الدائرة ستستمر وتتصاعد الى نقطة تحقيق الهدف التدميري المراد. ولقد استطاعت الولايات المتحدة - الحليف الاكبر في هذه الحرب، لقوى التنظيمات الاسلامية المتطرفة والارهابية التي تقاتل ضد سوريا - ان تستخدم الهزائم السياسية التي منيت بها افضل استخدام دعائي ممكن، لتصور للعالم ان وراءها سداً منيعاً من التأييد الدولي الذي يهدف مثلها الى تقويض سوريا ولا يهم ماذا يقوم محلها اذا تحقق هذا الهدف. ولعلّ اقبح الأمثلة على هذا التوجه الدعائي الغربي يظهر جلياً في الاستخدام الدعائي الاميركي لقرار الجمعية العامة للامم المتحدة في الاسبوع الماضي، بناء على مشروع القرار الذي قدمته اثنتان من الدول التابعة للمخطط الغربي والاكثر طغياناً في العالم المعاصر - هما السعودية وقطر -، والذي ينص على انتقال سياسي في سوريا نحو حكم موال لأهداف اميركا والغرب والنظم العربية التي تحكم فعلاً بالحديد والنار، لتضمن تدفق النفط لاميركا بشروط اميركية خالصة.

لقد تجاهلت دول التحالف العربي الغربي ضد سوريا حقيقة ان التصويت لهذا القرار في الجمعية العامة انما عكس ارادة عددية وقعت تحت اوهام التزييف والتهويل والكذب الصريح. نعم لقد صوتت 133 دولة عضوا في الجمعية العامة مع قرار صاغته السعودية وقطر وصوتت 12 دولة ضده بينما امتنعت عن التصويت 31 دولة. وتعمد الضجيج الاعلامي الغربي، الذي صاحب التصويت لهذا القرار، ان يتجاهل تماما حقيقة ان الدول التي صوتت ضده تمثل وحدها الغالبية الواضحة لسكان العالم، جماهير الدول التي تدري حقيقة ما يجري في سوريا باعتباره جزءا من خطة عالمية الأبعاد لضمان احتكار الغرب للهيمنة في منطقة الشرق الاوسط.

لقد شملت الدول التي صوتت ضد القرار الذي تبنته اميركا واوروبا ودول الاطلسي كلاً من الصين وروسيا والهند وايران والعراق وكوبا وباكستان وجنوب أفريقيا والبرازيل وبوليفيا وفنزويلا وكوريا الشمالية وبيلا روسيا (روسيا البيضاء) ونيكاراغوا وميانمار وزيمبابوي. وتكفي نظرة واحدة الى هذه القائمة لإدراك حقيقة ان هذه الدول تمثل اكثر من نصف تعداد سكان العالم. كما تكفي لإدراك انها - في معظمها - تمثل الدول التي تشكل جبهة مواجهة ضد الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة على الشؤون الدولية. وهو امر يعكس بحد ذاته حقيقة ان الذين صوتوا ضد مشروع القرار السعودي القطري انما يكشفون حقيقة هيمنة الحكومات الموالية للغرب على الحكم في الغالبية العددية لدول العالم. ويعكس في الوقت نفسه المدى الذي وصلت اليه هيمنة الامبريالية الاميركية على قرارات غالبية حكومات العالم الثالث التي تشكل الغالبية العظمى العددية لدول العالم.

وهذا يعني ان الحرب الدائرة في سوريا في الوقت الحاضر تكشف ان الوضع العالمي برمته اختلف عما كان عليه في ستينيات القرن الماضي، حينما كان من المستحيل تمرير قرار تؤيده الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد دولة تعارض الهيمنة الامبريالية على دول العالم. ولا يكمن اختلاف هذين الواقعين باختلاف الزمان بين ستينيات القرن الماضي حينما لم يكن للغرب كل النفوذ الذي يملكه الآن على الامم المتحدة، انما يكمن ايضا في زيف الزعم الغربي الاميركي بشكل خاص العمل لدعم الديموقراطية في بلدان مثل السعودية وقطر وليبيا. ان الوضع العالمي الراهن يكشف عن تراجع كبير في مصائر الديموقراطية في العالم تأكيدا لهيمنة جديدة تفرض ارادة الاستعماريين القدامى مجدداً. ان الغالبية الكبيرة لمندوبي الدول الاعضاء في الجمعية العامة بنمط تصويتهم على قضايا تهم شعوبهم ومصالحها القومية والوطنية -السياسية والاقتصادية والثقافية بالدرجة الاولى - انما يدل على ان الصلة بين هؤلاء المندوبين وشعوبهم تكاد تكون منعدمة، بل انها منعدمة، وتحل محلها الصلات الجانبية بينهم وبين مندوبي الولايات المتحدة وبريطانيا ودول حلف الاطلسي ... الى آخر المنظومة العالمية الحاكمة.

مع ذلك فإن قرار الجمعية العامة للامم المتحدة الاخير بشأن سوريا، لم يستطع ان يخدع كل الاعلام الغربي عن حقيقته ومغزاه وأهدافه. ان الاعلام الغربي نفسه لا يزال يشمل اصواتا وصفحات كثيرة تنطق باسم الحقيقة وتؤثر ان تكشف نيات الدول التي تصدر فيها. ولهذا امكن ان نجد في صفحات الاعلام الغربي ان استقالة كوفي عنان من المهمة التي كان قد عهد بها اليه قبل شهور طويلة، انما تعني انهيار هذه الخطة للسلام، باعتبارها نتيجة لانهيار عملية الاطلسي الخاصة بسوريا والتي اطلق عليها الحلف اسم «عملية بركان دمشق» (تعليق كتبه المعلق الاميركي توني كارتالوتشي ويشير فيه الى تقلص واضح ومتواصل في اعداد مشاهدي قنوات «السي ان ان» و«البي بي سي» و«الجزيرة» القطرية، وهي القنوات التي تحاول إقناع مشاهديها بوجهات نظر بشأن احداث سوريا لا تلبث ان تكذبها تطورات الايام التالية). ويزيد كارتالوتشي على ذلك ان ليبيا الآن مرشحة للانضمام الى الدول التي ترسل مقاتلين من الارهابيين المتطرفين الى سوريا للمشاركة في المشروع الغربي الفاشل لتدمير سوريا وتقويض نظامها (...).

ومن المهم للغاية في هذا الصدد ان نشير الى ما كتبه معلق غربي آخر عن الحقائق الغائبة عن كتابات الاعلام الغربي الرسمي وشبه الرسمي عن احداث سوريا. فإن ما كتبه ألكس طومسون في موقع «غلوبال ريسيرش» الالكتروني، ليكون بمثابة مرشد للاجابة على التساؤلات التي يثيرها في الاذهان ما يواصل ترديده الاعلام الغربي، جدير بما يتسم به من وضوح ومباشرة بان ينقل الى القارئ العربي الحائر. تحت عنوان ما الذي سيحدث في حلب؟ يقول مجيباً: الارجح ان يحدث ما حدث في دمشق، وهو ان يخسر المتمردون. فالجيش السوري يملك انواعاً من الاسلحة الثقيلة ويتفوق بصورة كاملة على المتمردين في كل نوع من انواع الحرب الحديثة. وبإضافة القوة الجوية فإن لهم (للجيش السوري) سيطرة مطلقة، والامر هنا لا يختلف كثيراً عن الوضع الارضي.

ويتساءل طومسون: «ولكن المتمردين يبدون في صورة من يؤدي اداءً جيداً على شاشات التلفزيون؟ «ويجيب: ذلك لأنهم يكسبون حرب الدعاية اكثر مما يكسبون الحرب الحقيقية ...ان هذه الدعاية تصور المتمردين وقد دمروا دبابة واحدة ثم تقول لك القليل او تضللك عن عمد بشأن مسار الهجمات المطولة التي تجري داخل المدن. ويعود ليتساءل: معنى هذا ان الحياة لا بد ان تكون جحيماً الآن في حلب؟ ويجيب: انك تستطيع ان تجلس في فندق في حمص لا يبعد اكثر من مسيرة عشر دقائق من القتال ولكنك تستطيع ان تستمتع بوجبتك وكأن شيئاً لا يحدث. الامر يتوقف على الجزء من المدينة الذي تجلس فيه. ان النظام لا يقصف مناطق بأكملها من المدن وهو لم يفعل هذا ابداً. إنهم (الجيش النظامي) يعرفون اين يقاتل المتمردون وهناك تقع المعارك. سيبدو باقي المدينة كما تراه وكما تحسه عادياً بصورة مذهلة. اما داخل مناطق القتال فإنها بالطبع مثيرة للفزع وخطيرة بدرجة استثنائية. ويؤكد المعلق نفسه ان الرهان الرابح هو الرهان على ان النظام يتمتع بتأييد واسع عبر كثير من المناطق الحضرية (المدن).

مع ذلك فلا بد من التأكيد بأن مقاتلين من التنظيمات الاعلامية، التي اعتاد الاعلام الرسمي على اعتبارهم ارهابيين، يتدفقون بأعداد كبيرة الى داخل سوريا ليؤدوا - من اجل المال بالدرجة الاولى ومن اجل العقيدة بالدرجة الثانية - واجب القتال من اجل اهداف عدوهم السابق الولايات المتحدة الاميركية. وستستمر واشنطن في تزويد هؤلاء بالأسلحة والأموال التي حصّلتها واشنطن مسبقا من السعودية وقطر وغيرهما من حكومات الشرق الاوسط الحليفة لها. ولا تزال الولايات المتحدة على الرغم من هذا النشاط الكثيف على الارض لا تعرف - او هي ربما لا تحدد - ما الذي تقصد اليه بعد ذلك. لقد اقامت الولايات المتحدة، ما وصف في الاعلام الاميركي المناهض للخطة الاميركية، «المركز العصبي» للعمليات ضد سوريا في منطقة اضنه التركية، حيث تقع قاعدة «انسيرليك» الجوية الاميركية لتكون مركزاً للمتمردين فيما يعد اكبر منشأة عسكرية ومخابراتية اميركية في المنطقة. وهي تقع على بعد يقل عن مئة كيلو متر الى الشمال من الحدود السورية.

وتفيد المعلومات المنشورة في مواقع الكترونية اميركية، معارضة لسياسة الادارة الاميركية، ان «المقاتلين الذين تتهيأ القاعدة الاميركية لارسالهم الى سوريا يضمون جنسيات عديدة، فهم من افغانستان ومن العراق وليبيا والجزائر والشيشان وباكستان. ومعظم هؤلاء يصلون الى القاعدة الاميركية في تركيا بمساعدة تنظيم «القاعدة» الذي يساعد ايضاً في ادخالهم الى سوريا».

ومهما بدا من تناقض في حقيقة ان الولايات المتحدة لا تزال تحارب ضد هذا التنظيم في افغانستان، بينما تنسق معه حربها غير المباشرة على سوريا، فإن هذا التناقض لا ينفي حقيقة التعاون بين اميركا و«القاعدة» ضد سوريا. وربما يخفف من هذا التناقض واقع ان اميركا لم تنجح في حربها في افغانستان كما لم تنجح في حربها في سوريا مع اختلاف الاستراتيجيتين. ويستمر الرئيس الاميركي اوباما في حملته، من اجل الفوز بفترة رئاسة ثانية، في الزعم بأن ادارته لا تزود «المقاتلين» في سوريا بمساعدات فتاكة اي لا تزودهم بأسلحة، ولكن الحقيقة المؤكدة التي تكذب مزاعم اوباما هي ان الولايات المتحدة «تشن حرباً اهلية وحشية عن طريق وسطاء وهي حرب كبدت (سوريا) عشرات آلاف من الارواح وشردت مئات الآلاف من البشر»، حسب معلومات مصادر اميركية رسمية نقلتها نشرات اميركية غير رسمية.

تقف الولايات المتحدة وكانها مجرد متفرج على الحرب الدائرة في سوريا، لانها لم تخسر جندياً واحداً، ولأن قتلى هذه الحرب كلهم من السوريين من ناحية، والعرب والمسلمين الذين يقاتلون من اجل اهداف اميركية من ناحية اخرى. فهل يمكن الزعم بأن هذه ليست حرباً اميركية؟ هل يمكن الزعم بأن الاهداف الاميركية العديدة في منطقة الشرق الاوسط ستظل بعيدة عن هذه الحرب، وفي مقدمتها القواعد الاميركية سواء كانت في الاراضي التركية او الخليجية او هناك في الهدوء النسبي الذي يعيشه المغرب العربي؟

كلما طالت الحرب في سوريا زمنياً كلما زادت احتمالات امتدادها الى خارج سوريا مكانياً.

  • فريق ماسة
  • 2012-08-09
  • 6912
  • من الأرشيف

ما بعد الحرب على سورية

ثمة ظاهرة لا يمكن ان تخفى على احد - اذا كان يملك قدرة التفكير الموضوعي بلا انحياز ولا تطرف ازاء احداث سوريا - هي ان استعداد العالم الغربي المتحد ضد سوريا لزيادة قدراته العدوانية يرتبط بتراجع مواقف وأحوال القوى التي تقاتل لمصلحته ونيابة عنه داخل الاراضي السورية. بمعنى انه كلما بدا ان سوريا قادرة على إلحاق هزيمة حاسمة بهذه القوى القتالية المدعومة عربياً وغربياً كلما تصاعدت المساعدات العربية والغربية بالمال والرجال والسلاح لإطالة أمد الحرب. في الوقت نفسه تتصاعد الحملة الإعلامية العربية والغربية التي تصور ان هدف هذه الحرب هو انهيار سوريا بنظامها وأسسها الاجتماعية والسياسية والشعبية. ولا حديث بعد ذلك على الإطلاق عن تصور بديل لسوريا يبنى على أنقاض سوريا التي يعرفها العالم. وسوريا القائمة رغم المحنة يعرفها العالم جيداً، وإلا لكان التدخل الاميركي الاطلسي الخليجي، وربما اكثر، هو البديل المطروح منذ وقت غير قصير. وحتى اللحظة الراهنة فإن الغرب وحلفاءه العرب الخليجيين بالذات يجيدون ادارة الحملة الدعائية ضد سوريا، بما يوحي بأن الحرب الدائرة ستستمر وتتصاعد الى نقطة تحقيق الهدف التدميري المراد. ولقد استطاعت الولايات المتحدة - الحليف الاكبر في هذه الحرب، لقوى التنظيمات الاسلامية المتطرفة والارهابية التي تقاتل ضد سوريا - ان تستخدم الهزائم السياسية التي منيت بها افضل استخدام دعائي ممكن، لتصور للعالم ان وراءها سداً منيعاً من التأييد الدولي الذي يهدف مثلها الى تقويض سوريا ولا يهم ماذا يقوم محلها اذا تحقق هذا الهدف. ولعلّ اقبح الأمثلة على هذا التوجه الدعائي الغربي يظهر جلياً في الاستخدام الدعائي الاميركي لقرار الجمعية العامة للامم المتحدة في الاسبوع الماضي، بناء على مشروع القرار الذي قدمته اثنتان من الدول التابعة للمخطط الغربي والاكثر طغياناً في العالم المعاصر - هما السعودية وقطر -، والذي ينص على انتقال سياسي في سوريا نحو حكم موال لأهداف اميركا والغرب والنظم العربية التي تحكم فعلاً بالحديد والنار، لتضمن تدفق النفط لاميركا بشروط اميركية خالصة. لقد تجاهلت دول التحالف العربي الغربي ضد سوريا حقيقة ان التصويت لهذا القرار في الجمعية العامة انما عكس ارادة عددية وقعت تحت اوهام التزييف والتهويل والكذب الصريح. نعم لقد صوتت 133 دولة عضوا في الجمعية العامة مع قرار صاغته السعودية وقطر وصوتت 12 دولة ضده بينما امتنعت عن التصويت 31 دولة. وتعمد الضجيج الاعلامي الغربي، الذي صاحب التصويت لهذا القرار، ان يتجاهل تماما حقيقة ان الدول التي صوتت ضده تمثل وحدها الغالبية الواضحة لسكان العالم، جماهير الدول التي تدري حقيقة ما يجري في سوريا باعتباره جزءا من خطة عالمية الأبعاد لضمان احتكار الغرب للهيمنة في منطقة الشرق الاوسط. لقد شملت الدول التي صوتت ضد القرار الذي تبنته اميركا واوروبا ودول الاطلسي كلاً من الصين وروسيا والهند وايران والعراق وكوبا وباكستان وجنوب أفريقيا والبرازيل وبوليفيا وفنزويلا وكوريا الشمالية وبيلا روسيا (روسيا البيضاء) ونيكاراغوا وميانمار وزيمبابوي. وتكفي نظرة واحدة الى هذه القائمة لإدراك حقيقة ان هذه الدول تمثل اكثر من نصف تعداد سكان العالم. كما تكفي لإدراك انها - في معظمها - تمثل الدول التي تشكل جبهة مواجهة ضد الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة على الشؤون الدولية. وهو امر يعكس بحد ذاته حقيقة ان الذين صوتوا ضد مشروع القرار السعودي القطري انما يكشفون حقيقة هيمنة الحكومات الموالية للغرب على الحكم في الغالبية العددية لدول العالم. ويعكس في الوقت نفسه المدى الذي وصلت اليه هيمنة الامبريالية الاميركية على قرارات غالبية حكومات العالم الثالث التي تشكل الغالبية العظمى العددية لدول العالم. وهذا يعني ان الحرب الدائرة في سوريا في الوقت الحاضر تكشف ان الوضع العالمي برمته اختلف عما كان عليه في ستينيات القرن الماضي، حينما كان من المستحيل تمرير قرار تؤيده الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد دولة تعارض الهيمنة الامبريالية على دول العالم. ولا يكمن اختلاف هذين الواقعين باختلاف الزمان بين ستينيات القرن الماضي حينما لم يكن للغرب كل النفوذ الذي يملكه الآن على الامم المتحدة، انما يكمن ايضا في زيف الزعم الغربي الاميركي بشكل خاص العمل لدعم الديموقراطية في بلدان مثل السعودية وقطر وليبيا. ان الوضع العالمي الراهن يكشف عن تراجع كبير في مصائر الديموقراطية في العالم تأكيدا لهيمنة جديدة تفرض ارادة الاستعماريين القدامى مجدداً. ان الغالبية الكبيرة لمندوبي الدول الاعضاء في الجمعية العامة بنمط تصويتهم على قضايا تهم شعوبهم ومصالحها القومية والوطنية -السياسية والاقتصادية والثقافية بالدرجة الاولى - انما يدل على ان الصلة بين هؤلاء المندوبين وشعوبهم تكاد تكون منعدمة، بل انها منعدمة، وتحل محلها الصلات الجانبية بينهم وبين مندوبي الولايات المتحدة وبريطانيا ودول حلف الاطلسي ... الى آخر المنظومة العالمية الحاكمة. مع ذلك فإن قرار الجمعية العامة للامم المتحدة الاخير بشأن سوريا، لم يستطع ان يخدع كل الاعلام الغربي عن حقيقته ومغزاه وأهدافه. ان الاعلام الغربي نفسه لا يزال يشمل اصواتا وصفحات كثيرة تنطق باسم الحقيقة وتؤثر ان تكشف نيات الدول التي تصدر فيها. ولهذا امكن ان نجد في صفحات الاعلام الغربي ان استقالة كوفي عنان من المهمة التي كان قد عهد بها اليه قبل شهور طويلة، انما تعني انهيار هذه الخطة للسلام، باعتبارها نتيجة لانهيار عملية الاطلسي الخاصة بسوريا والتي اطلق عليها الحلف اسم «عملية بركان دمشق» (تعليق كتبه المعلق الاميركي توني كارتالوتشي ويشير فيه الى تقلص واضح ومتواصل في اعداد مشاهدي قنوات «السي ان ان» و«البي بي سي» و«الجزيرة» القطرية، وهي القنوات التي تحاول إقناع مشاهديها بوجهات نظر بشأن احداث سوريا لا تلبث ان تكذبها تطورات الايام التالية). ويزيد كارتالوتشي على ذلك ان ليبيا الآن مرشحة للانضمام الى الدول التي ترسل مقاتلين من الارهابيين المتطرفين الى سوريا للمشاركة في المشروع الغربي الفاشل لتدمير سوريا وتقويض نظامها (...). ومن المهم للغاية في هذا الصدد ان نشير الى ما كتبه معلق غربي آخر عن الحقائق الغائبة عن كتابات الاعلام الغربي الرسمي وشبه الرسمي عن احداث سوريا. فإن ما كتبه ألكس طومسون في موقع «غلوبال ريسيرش» الالكتروني، ليكون بمثابة مرشد للاجابة على التساؤلات التي يثيرها في الاذهان ما يواصل ترديده الاعلام الغربي، جدير بما يتسم به من وضوح ومباشرة بان ينقل الى القارئ العربي الحائر. تحت عنوان ما الذي سيحدث في حلب؟ يقول مجيباً: الارجح ان يحدث ما حدث في دمشق، وهو ان يخسر المتمردون. فالجيش السوري يملك انواعاً من الاسلحة الثقيلة ويتفوق بصورة كاملة على المتمردين في كل نوع من انواع الحرب الحديثة. وبإضافة القوة الجوية فإن لهم (للجيش السوري) سيطرة مطلقة، والامر هنا لا يختلف كثيراً عن الوضع الارضي. ويتساءل طومسون: «ولكن المتمردين يبدون في صورة من يؤدي اداءً جيداً على شاشات التلفزيون؟ «ويجيب: ذلك لأنهم يكسبون حرب الدعاية اكثر مما يكسبون الحرب الحقيقية ...ان هذه الدعاية تصور المتمردين وقد دمروا دبابة واحدة ثم تقول لك القليل او تضللك عن عمد بشأن مسار الهجمات المطولة التي تجري داخل المدن. ويعود ليتساءل: معنى هذا ان الحياة لا بد ان تكون جحيماً الآن في حلب؟ ويجيب: انك تستطيع ان تجلس في فندق في حمص لا يبعد اكثر من مسيرة عشر دقائق من القتال ولكنك تستطيع ان تستمتع بوجبتك وكأن شيئاً لا يحدث. الامر يتوقف على الجزء من المدينة الذي تجلس فيه. ان النظام لا يقصف مناطق بأكملها من المدن وهو لم يفعل هذا ابداً. إنهم (الجيش النظامي) يعرفون اين يقاتل المتمردون وهناك تقع المعارك. سيبدو باقي المدينة كما تراه وكما تحسه عادياً بصورة مذهلة. اما داخل مناطق القتال فإنها بالطبع مثيرة للفزع وخطيرة بدرجة استثنائية. ويؤكد المعلق نفسه ان الرهان الرابح هو الرهان على ان النظام يتمتع بتأييد واسع عبر كثير من المناطق الحضرية (المدن). مع ذلك فلا بد من التأكيد بأن مقاتلين من التنظيمات الاعلامية، التي اعتاد الاعلام الرسمي على اعتبارهم ارهابيين، يتدفقون بأعداد كبيرة الى داخل سوريا ليؤدوا - من اجل المال بالدرجة الاولى ومن اجل العقيدة بالدرجة الثانية - واجب القتال من اجل اهداف عدوهم السابق الولايات المتحدة الاميركية. وستستمر واشنطن في تزويد هؤلاء بالأسلحة والأموال التي حصّلتها واشنطن مسبقا من السعودية وقطر وغيرهما من حكومات الشرق الاوسط الحليفة لها. ولا تزال الولايات المتحدة على الرغم من هذا النشاط الكثيف على الارض لا تعرف - او هي ربما لا تحدد - ما الذي تقصد اليه بعد ذلك. لقد اقامت الولايات المتحدة، ما وصف في الاعلام الاميركي المناهض للخطة الاميركية، «المركز العصبي» للعمليات ضد سوريا في منطقة اضنه التركية، حيث تقع قاعدة «انسيرليك» الجوية الاميركية لتكون مركزاً للمتمردين فيما يعد اكبر منشأة عسكرية ومخابراتية اميركية في المنطقة. وهي تقع على بعد يقل عن مئة كيلو متر الى الشمال من الحدود السورية. وتفيد المعلومات المنشورة في مواقع الكترونية اميركية، معارضة لسياسة الادارة الاميركية، ان «المقاتلين الذين تتهيأ القاعدة الاميركية لارسالهم الى سوريا يضمون جنسيات عديدة، فهم من افغانستان ومن العراق وليبيا والجزائر والشيشان وباكستان. ومعظم هؤلاء يصلون الى القاعدة الاميركية في تركيا بمساعدة تنظيم «القاعدة» الذي يساعد ايضاً في ادخالهم الى سوريا». ومهما بدا من تناقض في حقيقة ان الولايات المتحدة لا تزال تحارب ضد هذا التنظيم في افغانستان، بينما تنسق معه حربها غير المباشرة على سوريا، فإن هذا التناقض لا ينفي حقيقة التعاون بين اميركا و«القاعدة» ضد سوريا. وربما يخفف من هذا التناقض واقع ان اميركا لم تنجح في حربها في افغانستان كما لم تنجح في حربها في سوريا مع اختلاف الاستراتيجيتين. ويستمر الرئيس الاميركي اوباما في حملته، من اجل الفوز بفترة رئاسة ثانية، في الزعم بأن ادارته لا تزود «المقاتلين» في سوريا بمساعدات فتاكة اي لا تزودهم بأسلحة، ولكن الحقيقة المؤكدة التي تكذب مزاعم اوباما هي ان الولايات المتحدة «تشن حرباً اهلية وحشية عن طريق وسطاء وهي حرب كبدت (سوريا) عشرات آلاف من الارواح وشردت مئات الآلاف من البشر»، حسب معلومات مصادر اميركية رسمية نقلتها نشرات اميركية غير رسمية. تقف الولايات المتحدة وكانها مجرد متفرج على الحرب الدائرة في سوريا، لانها لم تخسر جندياً واحداً، ولأن قتلى هذه الحرب كلهم من السوريين من ناحية، والعرب والمسلمين الذين يقاتلون من اجل اهداف اميركية من ناحية اخرى. فهل يمكن الزعم بأن هذه ليست حرباً اميركية؟ هل يمكن الزعم بأن الاهداف الاميركية العديدة في منطقة الشرق الاوسط ستظل بعيدة عن هذه الحرب، وفي مقدمتها القواعد الاميركية سواء كانت في الاراضي التركية او الخليجية او هناك في الهدوء النسبي الذي يعيشه المغرب العربي؟ كلما طالت الحرب في سوريا زمنياً كلما زادت احتمالات امتدادها الى خارج سوريا مكانياً.

المصدر : الماسة السورية/ سمير كرم


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة