ما أبعد بيروت، ومعها دمشق وبغداد وطرابلس الغرب وتونس و... عن القاهرة في هذه اللحظة الفاصلة في تاريخ الأمة..

وما أبعدنا في لبنان، تحديداً، عن المستقبل الذي طالما حلمت به أجيال من المناضلين، ثم استهلكتها ـ مع الأحلام ـ آفة الانقسام على قاعدة طائفية أو مذهبية..

أما سوريا الغارقة في دماء أبنائها فتكاد تضيع عن الطريق لحماية "الدولة" فيها، وتتهاوى الآمال في استنقاذ غدها الذي صار رهينة الصراع الدولي والمصالح المتناقضة للاعبين الكبار الذين يقامرون بمستقبلها..

إن لبنان يكاد يتحول إلى شاهد زور في مرحلة الانتفاضات والثورات العربية التي تحاول شق الطريق إلى الغد في قلب الصعوبة..

طويت صفحة "لبنان الدور"، وغرق الوطن الجميل في دوامة خوفه على وحدته وكيانه السياسي الذي يتهدده التمزق كانتونات طائفية ومذهبية، خصوصاً وقد صارت سوريا التي "تعهدت أمنه" في زمن مضى تبحث عمن يستنقذ وحدتها وسلامة شعبها.. قبل فوات الأوان.

من أقصى الشمال إلى أدنى الجنوب مروراً بعاصمته التي كانت "أميرة"، ومن البقاع الذي قسمته الأغراض والمصالح إلى "كانتونات" متنافرة يعيش الناس حالة من الاضطراب والقلق على المستقبل تدفع "القادرين" إلى البحث عن "ملجأ آمن"، في ظل "تسهيلات خاصة" تقدم ـ للسوريين واللبنانيين معاً ـ على قاعدة طائفية.

لقد احتل رجال الدين الواجهة وأخذوا يتصرفون وكأنهم مركز القرار.

بالمقابل، صار "الدولاب" وسيلة التعبير الديموقراطي: إقطع طريقاً تصبح زعيماً أو وجيهاً أو وكيل زعيم، ويتوجه إليك الوسطاء طالبين عفوك وكرم أخلاقك للوصول إلى المطار أو إلى الجنوب أو إلى البقاع أو إلى الشمال، بل حتى من حي إلى حي في "الأميرة بيروت"..

المفارقة التي نعيشها على المستوى القومي الآن: أن مصر تستند إلى تجربتها العريقة لمحاولة تجديد الدولة، وسط ظروف هائلة في الصعوبة، بينما العديد من "الدول" العربية تتهاوى في أتون مقدمات حروب أهلية يكاد يستحيل وقفها، وإن أمكن تأجيل الانفجار المدمر لشهور معدودة.

وحدها مصر تتقدم بخطوات واسعة على طريق العودة إلى ذاتها، إلى دورها المفتقد، والذي لا يعوّضها فيه أية دولة عربية أخرى، آتية من البعيد البعيد.

ولو لم تكن مؤسسة "الدولة" عريقة في مصر وثابتة في الضمير الجمعي وفي السلوك الفردي في الاحتياج وفي السعي إلى المستقبل الأفضل، لكانت الانتفاضة الشعبية قد أطاحتها لتغرق البلاد في فوضى مدمرة، كما حصل في ليبيا، وكما يحصل في سوريا، وكما كاد يحصل في اليمن، وما زال خطر حصوله قائماً في العراق.

لقد دمر الطغيان "الأوطان" ودولها. وفي ما خص العراق فإن الاحتلال الأميركي قد نجح في إلغاء "الدولة" بتوزيع أشلائها على الطوائف، أو على الجوار، حيث صارت المشيخات دولاً عظمى تشارك في تقرير مصير الشعوب العريقة التي أعطت المنطقة هويتها.

أما في ليبيا فقد كان "قائدها الأبدي" وتلامذته من الأقارب والأصهار ينظرون إلى "الدولة" على أنها بدعة غربية، وكل بدعة ضلالة، وهكذا لم يجد الحلف الأطلسي "الذي "حررها" من الطغيان" ضرورة لوجود "الدولة" فترك القبائل تتناهب السلطة وتصطرع على النفوذ وتقاسم "الولايات" تارة باسم النسب الشريف وطوراً باسم القوة الحاكمة ودائماً في ظل التدخل الخليجي بدوله المذهبة. وأساس الانقسام المفتوح على المجهول: النفط، وهو هو الذي جاء "بالدول" وليست سلامة الشعب الليبي، أو إعادة بناء دولته.

وحدها ثورة الميدان في مصر تكاد تنجز التغيير العظيم من دون أن تدمر "الدولة". وحتى عندما اصطدم "الميدان" بنظام الطغيان فإن شباب الثورة تصرفوا بالحرص الكامل على "دولتهم"، واستنقذوا التغيير بالديموقراطية وبمواجهة الغلط الذي تورط فيه المجلس العسكري في أكثر من قرار.

وبالتأكيد فإن صورة الرئيس المصري الجديد وهو يقف أمام قضاة المحكمة الدستورية العليا ليقسم يمين الولاء للنظام الجمهوري وللدستور ويتعهد بحماية المؤسسات الدستورية التي مكنته من الفوز، تقدم نموذجاً فذاً لرسوخ الدولة، التي تبقى فوق الانقسامات السياسية، ضامنة المساواة بين المواطنين، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والحزبية.

لقد أثبت الشعب المصري أن الفقر قد يأخذه إلى مطالبة الدولة بالعدالة، ولكنه لا يأخذه خارجها، وأن الدستور (والقانون) هو المرجعية التي لا يمكن تجاوزها...

وما تبقى من مطالب حول العلمانية والمؤسسات الديموقراطية وصيغة الدولة الجديدة المؤهلة والقادرة على تحقيق تطلعات شعبها، كل ذلك أهداف سيجري العمل لتحقيقها تحت رقابة "الميدان" الذي سلم باللعبة الديموقراطية التي أوصلت إلى سدة السلطة مرشحاً لم يصوت له.. لكنه اليوم "الرئيس الشرعي"، والحساب معه مفتوح.

الدولة هي الأساس. ولا ديموقراطية ولا عدالة ولا حرية في غياب الدولة، بغض النظر عن هوية رئيسها الذي مر أمام سلفه الطاغية السجين في مستشفى المعادي في الذهاب والإياب، وفي ذلك عبرة لمن يعتبر.

 

السفير

  • فريق ماسة
  • 2012-07-01
  • 10267
  • من الأرشيف

من بيروت إلى القاهرة: الدولة كضامن للوحدة الوطنية .

  ما أبعد بيروت، ومعها دمشق وبغداد وطرابلس الغرب وتونس و... عن القاهرة في هذه اللحظة الفاصلة في تاريخ الأمة.. وما أبعدنا في لبنان، تحديداً، عن المستقبل الذي طالما حلمت به أجيال من المناضلين، ثم استهلكتها ـ مع الأحلام ـ آفة الانقسام على قاعدة طائفية أو مذهبية.. أما سوريا الغارقة في دماء أبنائها فتكاد تضيع عن الطريق لحماية "الدولة" فيها، وتتهاوى الآمال في استنقاذ غدها الذي صار رهينة الصراع الدولي والمصالح المتناقضة للاعبين الكبار الذين يقامرون بمستقبلها.. إن لبنان يكاد يتحول إلى شاهد زور في مرحلة الانتفاضات والثورات العربية التي تحاول شق الطريق إلى الغد في قلب الصعوبة.. طويت صفحة "لبنان الدور"، وغرق الوطن الجميل في دوامة خوفه على وحدته وكيانه السياسي الذي يتهدده التمزق كانتونات طائفية ومذهبية، خصوصاً وقد صارت سوريا التي "تعهدت أمنه" في زمن مضى تبحث عمن يستنقذ وحدتها وسلامة شعبها.. قبل فوات الأوان. من أقصى الشمال إلى أدنى الجنوب مروراً بعاصمته التي كانت "أميرة"، ومن البقاع الذي قسمته الأغراض والمصالح إلى "كانتونات" متنافرة يعيش الناس حالة من الاضطراب والقلق على المستقبل تدفع "القادرين" إلى البحث عن "ملجأ آمن"، في ظل "تسهيلات خاصة" تقدم ـ للسوريين واللبنانيين معاً ـ على قاعدة طائفية. لقد احتل رجال الدين الواجهة وأخذوا يتصرفون وكأنهم مركز القرار. بالمقابل، صار "الدولاب" وسيلة التعبير الديموقراطي: إقطع طريقاً تصبح زعيماً أو وجيهاً أو وكيل زعيم، ويتوجه إليك الوسطاء طالبين عفوك وكرم أخلاقك للوصول إلى المطار أو إلى الجنوب أو إلى البقاع أو إلى الشمال، بل حتى من حي إلى حي في "الأميرة بيروت".. المفارقة التي نعيشها على المستوى القومي الآن: أن مصر تستند إلى تجربتها العريقة لمحاولة تجديد الدولة، وسط ظروف هائلة في الصعوبة، بينما العديد من "الدول" العربية تتهاوى في أتون مقدمات حروب أهلية يكاد يستحيل وقفها، وإن أمكن تأجيل الانفجار المدمر لشهور معدودة. وحدها مصر تتقدم بخطوات واسعة على طريق العودة إلى ذاتها، إلى دورها المفتقد، والذي لا يعوّضها فيه أية دولة عربية أخرى، آتية من البعيد البعيد. ولو لم تكن مؤسسة "الدولة" عريقة في مصر وثابتة في الضمير الجمعي وفي السلوك الفردي في الاحتياج وفي السعي إلى المستقبل الأفضل، لكانت الانتفاضة الشعبية قد أطاحتها لتغرق البلاد في فوضى مدمرة، كما حصل في ليبيا، وكما يحصل في سوريا، وكما كاد يحصل في اليمن، وما زال خطر حصوله قائماً في العراق. لقد دمر الطغيان "الأوطان" ودولها. وفي ما خص العراق فإن الاحتلال الأميركي قد نجح في إلغاء "الدولة" بتوزيع أشلائها على الطوائف، أو على الجوار، حيث صارت المشيخات دولاً عظمى تشارك في تقرير مصير الشعوب العريقة التي أعطت المنطقة هويتها. أما في ليبيا فقد كان "قائدها الأبدي" وتلامذته من الأقارب والأصهار ينظرون إلى "الدولة" على أنها بدعة غربية، وكل بدعة ضلالة، وهكذا لم يجد الحلف الأطلسي "الذي "حررها" من الطغيان" ضرورة لوجود "الدولة" فترك القبائل تتناهب السلطة وتصطرع على النفوذ وتقاسم "الولايات" تارة باسم النسب الشريف وطوراً باسم القوة الحاكمة ودائماً في ظل التدخل الخليجي بدوله المذهبة. وأساس الانقسام المفتوح على المجهول: النفط، وهو هو الذي جاء "بالدول" وليست سلامة الشعب الليبي، أو إعادة بناء دولته. وحدها ثورة الميدان في مصر تكاد تنجز التغيير العظيم من دون أن تدمر "الدولة". وحتى عندما اصطدم "الميدان" بنظام الطغيان فإن شباب الثورة تصرفوا بالحرص الكامل على "دولتهم"، واستنقذوا التغيير بالديموقراطية وبمواجهة الغلط الذي تورط فيه المجلس العسكري في أكثر من قرار. وبالتأكيد فإن صورة الرئيس المصري الجديد وهو يقف أمام قضاة المحكمة الدستورية العليا ليقسم يمين الولاء للنظام الجمهوري وللدستور ويتعهد بحماية المؤسسات الدستورية التي مكنته من الفوز، تقدم نموذجاً فذاً لرسوخ الدولة، التي تبقى فوق الانقسامات السياسية، ضامنة المساواة بين المواطنين، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والحزبية. لقد أثبت الشعب المصري أن الفقر قد يأخذه إلى مطالبة الدولة بالعدالة، ولكنه لا يأخذه خارجها، وأن الدستور (والقانون) هو المرجعية التي لا يمكن تجاوزها... وما تبقى من مطالب حول العلمانية والمؤسسات الديموقراطية وصيغة الدولة الجديدة المؤهلة والقادرة على تحقيق تطلعات شعبها، كل ذلك أهداف سيجري العمل لتحقيقها تحت رقابة "الميدان" الذي سلم باللعبة الديموقراطية التي أوصلت إلى سدة السلطة مرشحاً لم يصوت له.. لكنه اليوم "الرئيس الشرعي"، والحساب معه مفتوح. الدولة هي الأساس. ولا ديموقراطية ولا عدالة ولا حرية في غياب الدولة، بغض النظر عن هوية رئيسها الذي مر أمام سلفه الطاغية السجين في مستشفى المعادي في الذهاب والإياب، وفي ذلك عبرة لمن يعتبر.   السفير

المصدر : السفير : طلال سلمان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة