منذ بداية الأزمة السورية، احتلت تركيا مقدمة الحملات المطالبة بالتدخل الدولي في سورية، وكان آخرها دعوة رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان إلى فتح ممرات إنسانية لحماية المدنيين، محرقة بذلك جميع المراكب مع سورية الجارة والحليف القديم.

موقف أنقرة بفقدان الأسد لشرعيته حُسم في وقت مبكر. في تلك الظروف، كان لدى القادة الأتراك ما يبرّر ذلك من اعتبارات دبلوماسية واستراتيجية، حتى بدأ يتجلى في الأيام اللاحقة، لا سيما مع امتداد عمر الأزمة، أن التسرّع كان حينها صفة الدبلوماسية التركية التي وجدت نفسها مهددة بخسارة مكانتها في الشرق الأوسط بعد أن بلغت أوجها في زمن «الربيع العربي». فهل ربحت تركيا بموقفها ذاك شيئاً لتخسر أشياء؟

في مقاله الذي نُشر في مجلة «ذا ناشيونال ريبابليك»، كتب الباحث في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» سونر كاغابتاي مفنّداً أسباب عدم التدخل العسكري لتركيا في سوريا، في وقت استبعد لجوء تركيا لخيار مماثل يهدّد مكانتها، «فهي تفضّل أن تحافظ على موقع القيادة من الخلف».

واعتبر كاغابتاي أن»من ينتظر أن يقترن خطاب أنقرة العدائي بإجراءات أكثر حزماً يكون واهماً. فإن كان لدى تركيا أولوية اليوم تكون تعزيز قوتها الناعمة وشعبيتها في الشرق الأوسط، فيما يهدّد أي تدخّل عسكري بتقويض جهودها في هذا الإطار».

ويدعم كاغابتاي خلاصته تلك بنتائج البحث الذي أجرته مؤسسة الدراسات الاقتصادية والسياسية التركية «تيسيف» الذي أكد انخفاض مكانة تركيا في الأوساط السورية من 93 في المئة كانوا يفضلون تركيا في العام 2010 إلى 44 في المئة. وهذا هو الحال مع السوريين العلويين وحتى الدروز والمسيحيين والأكراد «الذين يعارضون التدخل التركي ولو كان معناه تحريرهم من نظام ديكتاتوري». ويعلّق الباحث التركي قائلاً «ولو نجح التدخل بإسقاط الأسد، فالأتراك سيتحولون إلى مستعمرين عثمانيين جدد».

من جهته، يؤكد مراسل «لوس أنجلس تايمز» مايكل كينيدي في تقرير أعدّه من اسطنبول أن تركيا، التي كانت تجمعها علاقات صداقة مع الدول الثلاث المجاورة سوريا وإيران والعراق، تمر باختبار حاسم لتلك العلاقات، فيما تحاول وقف العنف المحتدم في سوريا.

ويقول «إن تركيا تنظر إلى نفسها بوصفها قوة في الشرق الأوسط وديموقراطية إسلامية ديناميكية تتمتع باقتصاد مزدهر يمنحها القدرة على تولي مهمة إرشاد وقيادة المنطقة»، معلّقاً «لكن أنقرة تعثرت في هذه المرحلة في جهودها لوقف العنف الدائر داخل جارتها وحليفتها القديمة سوريا».

وفي وقت أمعن المسؤولون الأتراك بانتقاد ردّ فعل الأسد العنيف، يتخوّف هؤلاء من اتخاذ موقف أكثر تشدداً قد يأتي بنتائج عكسيّة «فتضييق الخناق على سوريا يشعل غضب القوى غير العربيّة الأخرى بما تملكه من طموحات خاصة بالمنطقة، في إشارة واضحة إلى إيران، من دون إغفال تلويح النظام السوري بإثارة الفوضى والاضطراب داخل تركيا نفسها، مما يجعل من الأزمة كابوسا لعلاقات تركيا الدبلوماسية بالمنطقة».

ما سبق وصفه الخبير في العلاقات الدولية من جامعة «قادر هاس» التركية سولي أوزيل قائلاً إن «تركيا تحولت بطريقة ما إلى ضحية للصورة الخاصة التي رسمتها لنفسها».

ونقل كينيدي عن مدير مركز بحوث الشرق الأوسط في جامعة غازي عنتاب زيرف كوخان باجيك قوله إن «تركيا لم تفهم فعلاً ديناميات العالم العربي المعقدة. فهي كانت تغاضت عن النظام السوري ذي القبضة الحديدية مقابل ضمان السلام على حدودهما المشتركة والتعاملات التجارية الضخمة، فضلاً عن حماية الممرات الآمنة لنقل البضائع التي تساوي ملايين الدولارات إلى الخليج العربي». ويضيف موضحاً « لقد كانت استراتيجية ناجحة مع الاستمرار بتجاهل المشاكل، وقد آمن الجميع بان الأمر سهل، لكن تبيّن أنه ليس كذلك اليوم». وعزا الباحث التركي ذلك إلى «بدء أنقرة بالسياسة القاسية في أول الأمر لتغلق الباب أمام أية مناورات دبلوماسية، علماً أنها تسرعت في تحديد موقفها النهائي من سوريا»، واصفاُ ذلك بـ«الخطأ الفادح».

ويؤكد التقرير أنه على الرغم من أن تركيا لديها أحد أكبر الجيوش في المنطقة إلى جانب خبرة طويلة في مهمات حفظ السلام، إلا أن عدم رغبتها في التدخل في الوضع السوري واضح بشكل ظاهر.

وفي الوقت نفسه، تنظر تركيا إلى موضوع تدخلها في سوريا من منظار المسألة الكردية، حيث تتخوف من أن يدفع أي تدخل كبير لها في سوريا الأسد إلى تنفيذ ما لوّح به مراراَ بتسليح المقاتلين الأكراد الموجودين على حدود البلدين، مشعلاً فتيل الصراع الدائم بين تركيا والأكراد الذين شكلوا ورقة رابحة لسوريا أيام حكم الأسد الأب، والتي تمّ تنحيتها مع تحسن العلاقات على خط دمشق أنقرة خلال الفترة الماضية.

يُذكر أن المسألة الكردية تؤثر من جهة ثانية على العلاقات التركية ـ العراقية، بسبب تحالف أنقرة مع أكراد الشمال كما مع التحالف السني السياسي الذي يختلف مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي.

وحول صراع النفوذ بين أنقرة وطهران في العراق ودمشق يقول التقرير إن «انحياز إيران للنظام السوري وحكومة المالكي فتح الباب أمام صراع النفوذ الإيراني التركي، خصوصا أن طهران حريصة على حفاظها على سوريا بسبب موقعها الاستراتيجي بين لبنان وإسرائيل».

واختتم التقرير بكلام للمحلل السياسي سابان كارداس الذي اعتبر أن تركيا اليوم بمواجهة تحدي الأزمة السورية، مردفاً «في بعض الأحيان تقترن هذه التحديات بفرص معينة، لكن لم يتضح حتى الساعة إن كانت الأمور ستسلك هذا الاتجاه».

(«السفير»)

  • فريق ماسة
  • 2012-03-13
  • 7660
  • من الأرشيف

خبراء حول موقف أنقرة من دمشق... أحرقت المراكب باكراً.. وسقطت ضحية «التسرّع»!

منذ بداية الأزمة السورية، احتلت تركيا مقدمة الحملات المطالبة بالتدخل الدولي في سورية، وكان آخرها دعوة رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان إلى فتح ممرات إنسانية لحماية المدنيين، محرقة بذلك جميع المراكب مع سورية الجارة والحليف القديم. موقف أنقرة بفقدان الأسد لشرعيته حُسم في وقت مبكر. في تلك الظروف، كان لدى القادة الأتراك ما يبرّر ذلك من اعتبارات دبلوماسية واستراتيجية، حتى بدأ يتجلى في الأيام اللاحقة، لا سيما مع امتداد عمر الأزمة، أن التسرّع كان حينها صفة الدبلوماسية التركية التي وجدت نفسها مهددة بخسارة مكانتها في الشرق الأوسط بعد أن بلغت أوجها في زمن «الربيع العربي». فهل ربحت تركيا بموقفها ذاك شيئاً لتخسر أشياء؟ في مقاله الذي نُشر في مجلة «ذا ناشيونال ريبابليك»، كتب الباحث في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» سونر كاغابتاي مفنّداً أسباب عدم التدخل العسكري لتركيا في سوريا، في وقت استبعد لجوء تركيا لخيار مماثل يهدّد مكانتها، «فهي تفضّل أن تحافظ على موقع القيادة من الخلف». واعتبر كاغابتاي أن»من ينتظر أن يقترن خطاب أنقرة العدائي بإجراءات أكثر حزماً يكون واهماً. فإن كان لدى تركيا أولوية اليوم تكون تعزيز قوتها الناعمة وشعبيتها في الشرق الأوسط، فيما يهدّد أي تدخّل عسكري بتقويض جهودها في هذا الإطار». ويدعم كاغابتاي خلاصته تلك بنتائج البحث الذي أجرته مؤسسة الدراسات الاقتصادية والسياسية التركية «تيسيف» الذي أكد انخفاض مكانة تركيا في الأوساط السورية من 93 في المئة كانوا يفضلون تركيا في العام 2010 إلى 44 في المئة. وهذا هو الحال مع السوريين العلويين وحتى الدروز والمسيحيين والأكراد «الذين يعارضون التدخل التركي ولو كان معناه تحريرهم من نظام ديكتاتوري». ويعلّق الباحث التركي قائلاً «ولو نجح التدخل بإسقاط الأسد، فالأتراك سيتحولون إلى مستعمرين عثمانيين جدد». من جهته، يؤكد مراسل «لوس أنجلس تايمز» مايكل كينيدي في تقرير أعدّه من اسطنبول أن تركيا، التي كانت تجمعها علاقات صداقة مع الدول الثلاث المجاورة سوريا وإيران والعراق، تمر باختبار حاسم لتلك العلاقات، فيما تحاول وقف العنف المحتدم في سوريا. ويقول «إن تركيا تنظر إلى نفسها بوصفها قوة في الشرق الأوسط وديموقراطية إسلامية ديناميكية تتمتع باقتصاد مزدهر يمنحها القدرة على تولي مهمة إرشاد وقيادة المنطقة»، معلّقاً «لكن أنقرة تعثرت في هذه المرحلة في جهودها لوقف العنف الدائر داخل جارتها وحليفتها القديمة سوريا». وفي وقت أمعن المسؤولون الأتراك بانتقاد ردّ فعل الأسد العنيف، يتخوّف هؤلاء من اتخاذ موقف أكثر تشدداً قد يأتي بنتائج عكسيّة «فتضييق الخناق على سوريا يشعل غضب القوى غير العربيّة الأخرى بما تملكه من طموحات خاصة بالمنطقة، في إشارة واضحة إلى إيران، من دون إغفال تلويح النظام السوري بإثارة الفوضى والاضطراب داخل تركيا نفسها، مما يجعل من الأزمة كابوسا لعلاقات تركيا الدبلوماسية بالمنطقة». ما سبق وصفه الخبير في العلاقات الدولية من جامعة «قادر هاس» التركية سولي أوزيل قائلاً إن «تركيا تحولت بطريقة ما إلى ضحية للصورة الخاصة التي رسمتها لنفسها». ونقل كينيدي عن مدير مركز بحوث الشرق الأوسط في جامعة غازي عنتاب زيرف كوخان باجيك قوله إن «تركيا لم تفهم فعلاً ديناميات العالم العربي المعقدة. فهي كانت تغاضت عن النظام السوري ذي القبضة الحديدية مقابل ضمان السلام على حدودهما المشتركة والتعاملات التجارية الضخمة، فضلاً عن حماية الممرات الآمنة لنقل البضائع التي تساوي ملايين الدولارات إلى الخليج العربي». ويضيف موضحاً « لقد كانت استراتيجية ناجحة مع الاستمرار بتجاهل المشاكل، وقد آمن الجميع بان الأمر سهل، لكن تبيّن أنه ليس كذلك اليوم». وعزا الباحث التركي ذلك إلى «بدء أنقرة بالسياسة القاسية في أول الأمر لتغلق الباب أمام أية مناورات دبلوماسية، علماً أنها تسرعت في تحديد موقفها النهائي من سوريا»، واصفاُ ذلك بـ«الخطأ الفادح». ويؤكد التقرير أنه على الرغم من أن تركيا لديها أحد أكبر الجيوش في المنطقة إلى جانب خبرة طويلة في مهمات حفظ السلام، إلا أن عدم رغبتها في التدخل في الوضع السوري واضح بشكل ظاهر. وفي الوقت نفسه، تنظر تركيا إلى موضوع تدخلها في سوريا من منظار المسألة الكردية، حيث تتخوف من أن يدفع أي تدخل كبير لها في سوريا الأسد إلى تنفيذ ما لوّح به مراراَ بتسليح المقاتلين الأكراد الموجودين على حدود البلدين، مشعلاً فتيل الصراع الدائم بين تركيا والأكراد الذين شكلوا ورقة رابحة لسوريا أيام حكم الأسد الأب، والتي تمّ تنحيتها مع تحسن العلاقات على خط دمشق أنقرة خلال الفترة الماضية. يُذكر أن المسألة الكردية تؤثر من جهة ثانية على العلاقات التركية ـ العراقية، بسبب تحالف أنقرة مع أكراد الشمال كما مع التحالف السني السياسي الذي يختلف مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. وحول صراع النفوذ بين أنقرة وطهران في العراق ودمشق يقول التقرير إن «انحياز إيران للنظام السوري وحكومة المالكي فتح الباب أمام صراع النفوذ الإيراني التركي، خصوصا أن طهران حريصة على حفاظها على سوريا بسبب موقعها الاستراتيجي بين لبنان وإسرائيل». واختتم التقرير بكلام للمحلل السياسي سابان كارداس الذي اعتبر أن تركيا اليوم بمواجهة تحدي الأزمة السورية، مردفاً «في بعض الأحيان تقترن هذه التحديات بفرص معينة، لكن لم يتضح حتى الساعة إن كانت الأمور ستسلك هذا الاتجاه». («السفير»)

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة