ليس ثمة حاجة لإعادة نعي سياسة "صفر مشاكل" التي أُعلن مؤخراً انهيارها بشكل نهائي بعد أن اكتسبت زخماً جيو – استراتيجياً جديداً في مرحلة "الربيع العربي" الأولى، كما لا داعي للتأكيد على أن شعار "النموذج التركي هو الحلّ"، بات ككلام رومنسي جعل أنقرة في فترة من فترات الثورة تتوهّم أن بإمكانها ضبط شؤون المنطقة العربية بـ"القوة الناعمة".

فمع اندلاع الأزمة السورية، في الفناء الخلفي لتركيا، أدرك المسؤولون في حزب "العدالة والتنمية" أن الانخراط في سياسات المنطقة يتطلّب أكثر من مجرّد إرسال بعثات تجارية إلى العالم العربي أو إنتاج المسلسلات التلفزيونية.. أو حتى الدفاع عن القضية الفلسطينية. وباختصار، لقد حسمت الأزمة في سوريا بشكل فاضح موقف أنقرة، فكان طلاقاً تركياً بائناً مع سياسة الاعتدال التي بدأها رئيس الوزراء رجب طيّب أردوغان منذ عام 2002، لا سيما مع طهران ودمشق، في خطوة بدت واشنطن المستفيد الأكبر منها، وربما إسرائيل.

 

سوريا.."مكسيك تركيا"

لقد أقحمت الأزمة المحتدمة في سوريا الجارة أنقرة في ثقب السياسة الأسود الذي يتطلّب أكثر من "قوة ناعمة" لحسم الأمور. ويشبّه تقرير لمجلة "ذا ناشيونال إنترست" حجم ما يواجهه الأتراك من تحديات في ظلّ الأزمة التي ترزح تحت وطأتها جارتها الجنوبية، التي تتشارك معها أطول حدود، بحجم الاستنفار الذي كانت ستقوم به واشنطن فيما لو كانت الجارة المكسيك مهددة بالانزلاق في حرب أهلية مفتوحة.

في الواقع، مرّت العلاقات التركية – السورية في العديد من المراحل، وإن كان طابعها العام هو التوتر على خلفية دعم دمشق لحزب العمال الكردستاني الذي أوصل إلى ما يشبه الحرب بين البلدين، كما كان السبب المباشر وراء التعاون العسكري الوثيق بين تركيا وإسرائيل.

في عام 2003، شهدت العلاقات الثنائية انفراجها الأوسع بعد أن وجدت تركيا نفسها غارقة في سلسلة من المشاكل مع واشنطن بشأن سياساتها في الشرق الأوسط، وقد بلغت ذروتها في رفض أنقرة للغزو الأميركي للعراق. أما مع وصول أردوغان إلى السلطة فقد تحسن التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين إلى حدّ كبير نتيجة لتغيّر الرؤية التركية للمصالح الوطنية. فحاول أردوغان التوفيق بين تحسين علاقاته مع سوريا والحفاظ عليها مع إسرائيل من خلال تسهيل عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين عام 2008، وهي مبادرة ما لبثت أن انهارت بعد الهجوم الإسرائيلي على "مافي مرمرة".

ولكن منذ بداية الأزمة في سوريا خلال العام الماضي، وعندما فشل وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو في أن يكون "كسينجر السياسة التركية" بعد اجتماع دام ست ساعات عجز خلاله عن إقناع الأسد بضرورة وقف العنف، أعطى أردوغان الضوء الأخضر لمساعدة المعارضة السورية والجيش السوري الحرّ، كما أدلى بتصريحات شديدة اللهجة تضمنت أوامر بإلغاء مشاريع التنقيب المشترك عن النفط وغيرها من المشاريع الاقتصادية بين البلدين، فضلا عن التهديد بوقف إمدادات الكهرباء.

وقد أخذت التهديدات التركية بعداً أكثر خطورة، عندما وضعت الدعوات الغربية المتكررة للتدخل العسكري في سوريا تركيا على رأس حربة الهجوم، لا سيما أنها بلد مسلم لديه ثاني أكبر حجم للقوات المسلحة في حلف شمال الأطلسي، بعد الولايات المتحدة، وواحد من أكبر الجيوش في العالم.

وكانت صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" أكدت أن أي تحرك عسكري ضدّ سوريا يتعيّن على تركيا أن تكون في مقدمته، لا سيما أن دور الأخيرة كان مفصلياً خلال العام الماضي في ليبيا، مشيرة إلى أن هذا الأمر يمكن أن يناقشه داوود أوغلو خلال لقائه نظيرته الأميركية هيلاري كلينتون اليوم.

 

إلى الحضن الأميركي..مجدّداً

صحيح أن العلاقات التركية – الأميركية دخلت في فترة مضطربة بعد غزو العراق، ولكن هذه المرحلة الصعبة يبدو أنها انتهت مع بداية "الربيع العربي". العام الماضي فقط، كانت العلاقات الأميركية - التركية في حالة سيئة، حيث كان ثمة خلافات بين الجانبين حول عدد من المواضيع، مثل علاقات تركيا مع إسرائيل، وكيفية التعامل مع ملف إيران النووي، العقوبات على إيران... أما اليوم، فيمكن القول، إن الولايات المتحدة وتركيا تعيشان شهر عسل بعد أن نسج الرئيس الأميركي باراك أوباما وأردوغان أفضل علاقة ربما بين رئيس أميركي ورئيس وزراء تركي منذ عقود.

يذكّر الباحث سونر كاغابتاي، في تقرير نشره "معهد دراسات الشرق الأوسط"، بتصويت تركيا في حزيران عام 2010 في مجلس الأمن الدولي ضد مقترح يدعو إلى فرض عقوبات على طهران، معتبراً بأن هذه الخطوة ظهرت كما لو أنها ستقطع العلاقات الأميركية - التركية. ولكن الحديث الصريح والمباشر الذي أجراه أوباما مع أردوغان على هامش قمة مجموعة العشرين في تموز من العام نفسه غيَّر كل شيء، حيث أخبر الرئيس الأميركي أردوغان بمدى الاستياء الذي يشعر به بعد تصويت تركيا في الأمم المتحدة ضد المقترح، وقد "ساعدت صراحته على تنقية الأجواء بين الرجلين، ثم سرعان ما تغيرت سياسة تركيا، حيث توقفت أنقرة عن الدفاع عن طهران وبدأت العمل مع واشنطن".

ومنذ الصيف الماضي، اتخذت العلاقة بين البلدين مساراً تصاعدياً، إذ كثيراً ما يتحدث الزعيمان في ما بينهما، اثنتي عشرة مرة على الأقل هذا العام فقط، ويتفقان على السياسات في كثير من الأحيان، ويظهر ذلك في إجماعهما حول قضايا "الربيع العربي".

وفي حين ساعدت العلاقات الشخصية بين الرئيسين على وضع الأسس النظرية للعلاقات الثنائية، أتى "الربيع العربي" ليجعلها واقعاً بشكل غير متوقع وذلك عبر التقاء المصالح الأميركية والتركية في الشرق الأوسط. وكانت الأزمة السورية بمثابة الاختبار الفاصل للسياسة التي بدأها حزب "العدالة والتنمية" بعد انتخابه عام 2002 القائمة على الانخراط في سياسات المنطقة والتكامل مع الدول المجاورة.

وبعد أن خلصت أنقرة إلى أن الحكام المستبدين مثل القذافي في ليبيا سيسقطون لا محالة، بدأ البلدان تنسيق سياساتهما حول المنطقة، ولكن التعاون كان عميقاً بشكل خاص بخصوص سوريا، حيث صعدت تركيا إلى الواجهة باعتبارها الخصم الرئيسي في المنطقة للقمع الوحشي الذي يواجه به نظام الأسد المتظاهرين، وهو ما يناسب جيداً أوباما الذي يركز حالياً على مواضيع داخلية في أفق انتخابات 2012.

وفي هذا الخصوص، يشير كاغابتاي إلى أن كلاً من واشنطن وأنقرة تأملان في "هبوط سلس" في سوريا، أي في نهاية لحكم بشار من دون انزلاق البلاد إلى الفوضى. كما يقدر أوباما استعداد أنقرة لتحمل عبء سياسي تجاه سوريا، من فرض عقوبات ضد الأسد إلى دعم المعارضة.

 

إيران في الميزان التركي – الأميركي- الإسرائيلي

عندما وصل أردوغان إلى السلطة عام 2002، أطلقت أنقرة سياسة تقارب تجاه طهران، ومع بداية الغزو على العراق عام 2003، ونتيجة لشعورها بأنها محاصرة من قبل الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق، أدركت طهران من جهتها أن عليها كسب ود تركيا لكسر العزلة المفروضة حولها. فأصبح البلدان، بشكل أو بآخر، بمثابة أصدقاء.

غير أن عودة تركيا كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط أدى إلى تنافس مع البلد الآخر في المنطقة الذي يسعى إلى الهيمنة: إيران. وهكذا، بدأ تنافس "ناعم" بين البلدين عندما دعم كل واحد منهما فصائل متعارضة في انتخابات 2010 في العراق. ثم فسح هذا الصراع المجال أمام منافسة صريحة حول سوريا، حيث تقوم طهران بدعم وتمويل نظام الأسد في حين تستضيف أنقرة أعضاء من المعارضة وتدعمهم.

وتسعى سوريا جاهدة لوضع حدّ لحرب تركيا على الأسد، فيما تخوض تركيا وإيران لعبة الصراع على السلطة في سوريا، علماً أن طهران هددت بإخراج سلاح حزب العمال الكردستاني مجدداً لحماية حليفها الأهم في المنطقة من خطر العضو الأكبر في حلف شمال الأطلسي. ومهما كانت نتيجة الصراع، يعتبر كاغابتاي أن التنافس التركي - الإيراني على المدى الطويل سيقرِّب أنقرة أكثر من واشنطن، وربما حتى من إسرائيل.

وعودة المياه إلى مجاريها مع إسرائيل نتيجة يفرضها فشل سياسة "صفر مشاكل" مع دول الجوار، من الحرب على سوريا إلى التصادم مع إيران والمنافسة التركية - الإيرانية في العراق، علماً أن عودة التحالف بين البلدين لن يكون على أسس الصداقة السابقة بقدر استناده إلى قاعدة المصالح المتبادلة. ويعزّز هذه الفرضية أن المبادلات التجارية بين البلدين ما زالت في أوجها، كما أن هناك تقارير دبلوماسية تشير إلى اتجاه الأمور في هذا المنحى.

وفي النهاية، وفي حين أن التوتر ما زال قائماً بين واشنطن وأنقرة حول عدد من المواضيع، ومن ذلك مستقبل العلاقات التركية - الإسرائيلية، فإنه بعد عقد من الخلاف عادت تركيا إلى أحضان حلفائها، وإذا كانت علاقة أوباما - أردوغان قد أسست لقاعدة جديدة للعلاقات الأميركية - التركية، فعلى ما يبدو أن البلدين سيكونان مرتبطين بمصالح مشتركة في الشرق الأوسط حتى بعد أن يغادر هذان الزعيمان السلطة.

  • فريق ماسة
  • 2012-02-12
  • 9764
  • من الأرشيف

لهذه الأسباب طلّقت تركيا "الاعتدال" ..وعادت إلى أحضان حلفاء الماضي

ليس ثمة حاجة لإعادة نعي سياسة "صفر مشاكل" التي أُعلن مؤخراً انهيارها بشكل نهائي بعد أن اكتسبت زخماً جيو – استراتيجياً جديداً في مرحلة "الربيع العربي" الأولى، كما لا داعي للتأكيد على أن شعار "النموذج التركي هو الحلّ"، بات ككلام رومنسي جعل أنقرة في فترة من فترات الثورة تتوهّم أن بإمكانها ضبط شؤون المنطقة العربية بـ"القوة الناعمة". فمع اندلاع الأزمة السورية، في الفناء الخلفي لتركيا، أدرك المسؤولون في حزب "العدالة والتنمية" أن الانخراط في سياسات المنطقة يتطلّب أكثر من مجرّد إرسال بعثات تجارية إلى العالم العربي أو إنتاج المسلسلات التلفزيونية.. أو حتى الدفاع عن القضية الفلسطينية. وباختصار، لقد حسمت الأزمة في سوريا بشكل فاضح موقف أنقرة، فكان طلاقاً تركياً بائناً مع سياسة الاعتدال التي بدأها رئيس الوزراء رجب طيّب أردوغان منذ عام 2002، لا سيما مع طهران ودمشق، في خطوة بدت واشنطن المستفيد الأكبر منها، وربما إسرائيل.   سوريا.."مكسيك تركيا" لقد أقحمت الأزمة المحتدمة في سوريا الجارة أنقرة في ثقب السياسة الأسود الذي يتطلّب أكثر من "قوة ناعمة" لحسم الأمور. ويشبّه تقرير لمجلة "ذا ناشيونال إنترست" حجم ما يواجهه الأتراك من تحديات في ظلّ الأزمة التي ترزح تحت وطأتها جارتها الجنوبية، التي تتشارك معها أطول حدود، بحجم الاستنفار الذي كانت ستقوم به واشنطن فيما لو كانت الجارة المكسيك مهددة بالانزلاق في حرب أهلية مفتوحة. في الواقع، مرّت العلاقات التركية – السورية في العديد من المراحل، وإن كان طابعها العام هو التوتر على خلفية دعم دمشق لحزب العمال الكردستاني الذي أوصل إلى ما يشبه الحرب بين البلدين، كما كان السبب المباشر وراء التعاون العسكري الوثيق بين تركيا وإسرائيل. في عام 2003، شهدت العلاقات الثنائية انفراجها الأوسع بعد أن وجدت تركيا نفسها غارقة في سلسلة من المشاكل مع واشنطن بشأن سياساتها في الشرق الأوسط، وقد بلغت ذروتها في رفض أنقرة للغزو الأميركي للعراق. أما مع وصول أردوغان إلى السلطة فقد تحسن التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين إلى حدّ كبير نتيجة لتغيّر الرؤية التركية للمصالح الوطنية. فحاول أردوغان التوفيق بين تحسين علاقاته مع سوريا والحفاظ عليها مع إسرائيل من خلال تسهيل عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين عام 2008، وهي مبادرة ما لبثت أن انهارت بعد الهجوم الإسرائيلي على "مافي مرمرة". ولكن منذ بداية الأزمة في سوريا خلال العام الماضي، وعندما فشل وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو في أن يكون "كسينجر السياسة التركية" بعد اجتماع دام ست ساعات عجز خلاله عن إقناع الأسد بضرورة وقف العنف، أعطى أردوغان الضوء الأخضر لمساعدة المعارضة السورية والجيش السوري الحرّ، كما أدلى بتصريحات شديدة اللهجة تضمنت أوامر بإلغاء مشاريع التنقيب المشترك عن النفط وغيرها من المشاريع الاقتصادية بين البلدين، فضلا عن التهديد بوقف إمدادات الكهرباء. وقد أخذت التهديدات التركية بعداً أكثر خطورة، عندما وضعت الدعوات الغربية المتكررة للتدخل العسكري في سوريا تركيا على رأس حربة الهجوم، لا سيما أنها بلد مسلم لديه ثاني أكبر حجم للقوات المسلحة في حلف شمال الأطلسي، بعد الولايات المتحدة، وواحد من أكبر الجيوش في العالم. وكانت صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" أكدت أن أي تحرك عسكري ضدّ سوريا يتعيّن على تركيا أن تكون في مقدمته، لا سيما أن دور الأخيرة كان مفصلياً خلال العام الماضي في ليبيا، مشيرة إلى أن هذا الأمر يمكن أن يناقشه داوود أوغلو خلال لقائه نظيرته الأميركية هيلاري كلينتون اليوم.   إلى الحضن الأميركي..مجدّداً صحيح أن العلاقات التركية – الأميركية دخلت في فترة مضطربة بعد غزو العراق، ولكن هذه المرحلة الصعبة يبدو أنها انتهت مع بداية "الربيع العربي". العام الماضي فقط، كانت العلاقات الأميركية - التركية في حالة سيئة، حيث كان ثمة خلافات بين الجانبين حول عدد من المواضيع، مثل علاقات تركيا مع إسرائيل، وكيفية التعامل مع ملف إيران النووي، العقوبات على إيران... أما اليوم، فيمكن القول، إن الولايات المتحدة وتركيا تعيشان شهر عسل بعد أن نسج الرئيس الأميركي باراك أوباما وأردوغان أفضل علاقة ربما بين رئيس أميركي ورئيس وزراء تركي منذ عقود. يذكّر الباحث سونر كاغابتاي، في تقرير نشره "معهد دراسات الشرق الأوسط"، بتصويت تركيا في حزيران عام 2010 في مجلس الأمن الدولي ضد مقترح يدعو إلى فرض عقوبات على طهران، معتبراً بأن هذه الخطوة ظهرت كما لو أنها ستقطع العلاقات الأميركية - التركية. ولكن الحديث الصريح والمباشر الذي أجراه أوباما مع أردوغان على هامش قمة مجموعة العشرين في تموز من العام نفسه غيَّر كل شيء، حيث أخبر الرئيس الأميركي أردوغان بمدى الاستياء الذي يشعر به بعد تصويت تركيا في الأمم المتحدة ضد المقترح، وقد "ساعدت صراحته على تنقية الأجواء بين الرجلين، ثم سرعان ما تغيرت سياسة تركيا، حيث توقفت أنقرة عن الدفاع عن طهران وبدأت العمل مع واشنطن". ومنذ الصيف الماضي، اتخذت العلاقة بين البلدين مساراً تصاعدياً، إذ كثيراً ما يتحدث الزعيمان في ما بينهما، اثنتي عشرة مرة على الأقل هذا العام فقط، ويتفقان على السياسات في كثير من الأحيان، ويظهر ذلك في إجماعهما حول قضايا "الربيع العربي". وفي حين ساعدت العلاقات الشخصية بين الرئيسين على وضع الأسس النظرية للعلاقات الثنائية، أتى "الربيع العربي" ليجعلها واقعاً بشكل غير متوقع وذلك عبر التقاء المصالح الأميركية والتركية في الشرق الأوسط. وكانت الأزمة السورية بمثابة الاختبار الفاصل للسياسة التي بدأها حزب "العدالة والتنمية" بعد انتخابه عام 2002 القائمة على الانخراط في سياسات المنطقة والتكامل مع الدول المجاورة. وبعد أن خلصت أنقرة إلى أن الحكام المستبدين مثل القذافي في ليبيا سيسقطون لا محالة، بدأ البلدان تنسيق سياساتهما حول المنطقة، ولكن التعاون كان عميقاً بشكل خاص بخصوص سوريا، حيث صعدت تركيا إلى الواجهة باعتبارها الخصم الرئيسي في المنطقة للقمع الوحشي الذي يواجه به نظام الأسد المتظاهرين، وهو ما يناسب جيداً أوباما الذي يركز حالياً على مواضيع داخلية في أفق انتخابات 2012. وفي هذا الخصوص، يشير كاغابتاي إلى أن كلاً من واشنطن وأنقرة تأملان في "هبوط سلس" في سوريا، أي في نهاية لحكم بشار من دون انزلاق البلاد إلى الفوضى. كما يقدر أوباما استعداد أنقرة لتحمل عبء سياسي تجاه سوريا، من فرض عقوبات ضد الأسد إلى دعم المعارضة.   إيران في الميزان التركي – الأميركي- الإسرائيلي عندما وصل أردوغان إلى السلطة عام 2002، أطلقت أنقرة سياسة تقارب تجاه طهران، ومع بداية الغزو على العراق عام 2003، ونتيجة لشعورها بأنها محاصرة من قبل الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق، أدركت طهران من جهتها أن عليها كسب ود تركيا لكسر العزلة المفروضة حولها. فأصبح البلدان، بشكل أو بآخر، بمثابة أصدقاء. غير أن عودة تركيا كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط أدى إلى تنافس مع البلد الآخر في المنطقة الذي يسعى إلى الهيمنة: إيران. وهكذا، بدأ تنافس "ناعم" بين البلدين عندما دعم كل واحد منهما فصائل متعارضة في انتخابات 2010 في العراق. ثم فسح هذا الصراع المجال أمام منافسة صريحة حول سوريا، حيث تقوم طهران بدعم وتمويل نظام الأسد في حين تستضيف أنقرة أعضاء من المعارضة وتدعمهم. وتسعى سوريا جاهدة لوضع حدّ لحرب تركيا على الأسد، فيما تخوض تركيا وإيران لعبة الصراع على السلطة في سوريا، علماً أن طهران هددت بإخراج سلاح حزب العمال الكردستاني مجدداً لحماية حليفها الأهم في المنطقة من خطر العضو الأكبر في حلف شمال الأطلسي. ومهما كانت نتيجة الصراع، يعتبر كاغابتاي أن التنافس التركي - الإيراني على المدى الطويل سيقرِّب أنقرة أكثر من واشنطن، وربما حتى من إسرائيل. وعودة المياه إلى مجاريها مع إسرائيل نتيجة يفرضها فشل سياسة "صفر مشاكل" مع دول الجوار، من الحرب على سوريا إلى التصادم مع إيران والمنافسة التركية - الإيرانية في العراق، علماً أن عودة التحالف بين البلدين لن يكون على أسس الصداقة السابقة بقدر استناده إلى قاعدة المصالح المتبادلة. ويعزّز هذه الفرضية أن المبادلات التجارية بين البلدين ما زالت في أوجها، كما أن هناك تقارير دبلوماسية تشير إلى اتجاه الأمور في هذا المنحى. وفي النهاية، وفي حين أن التوتر ما زال قائماً بين واشنطن وأنقرة حول عدد من المواضيع، ومن ذلك مستقبل العلاقات التركية - الإسرائيلية، فإنه بعد عقد من الخلاف عادت تركيا إلى أحضان حلفائها، وإذا كانت علاقة أوباما - أردوغان قد أسست لقاعدة جديدة للعلاقات الأميركية - التركية، فعلى ما يبدو أن البلدين سيكونان مرتبطين بمصالح مشتركة في الشرق الأوسط حتى بعد أن يغادر هذان الزعيمان السلطة.

المصدر : السفير /هيفاء زعيتر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة