دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
في الأمم المتحدة لم تعتد سورية سوى أن تكون المدافع عن الحقوق العربية كافة، لا أن تكون هدفاً من الدول العربية نفسها. كان مندوبها بشار الجعفري في كل المناسبات عملاقاً في المواقف، لا في طوله وحسب. إنه أكثر من سفير وأكاديمي ومتبحر في السياسة وحقوق الإنسان. برزت ثقافته ومطالعاته الرفيعة في كل المناسبات، ولا سيما حين كان يكرر طلب حق الردّ على مندوبي العدو في المحافل الدولية بعيداً عن جمود الخطابة الحزبية العربية والتصاقاً بالقوانين الدولية المتبحّر فيها، وبذخيرة من مخزون تاريخي يقل نظيره، فهو يعشق القراءة، وأفضل هدية له هي الكتاب.
في اللقاءات الخاصة، لا ينكر العيوب والأخطاء الكثيرة التي يعانيها الوضع السوري ويحلم بتغييرها بوسائل وأساليب عصرية. لكنه وجد نفسه في الأمم المتحدة بعد حرب لبنان عام 2006، ومشاريع عزل سوريا في السنوات التي سبقتها وتلتها، في عين العاصفة. فهو لسان الحكومة السورية الأول بعد وزارة الخارجية في دمشق، ولا يكاد جفناه يعرفان النوم وهو يتصدى في الجلسات والاجتماعات لخصومه من الشرق والغرب والعرب، وأيضاً في إيصال الرسائل العلنية وغير العلنية لأرفع الجهات في المحافل الدولية. الجعفري لا يتوانى عن زيارة الأمين العام بان كي مون ومساعديه مراراً لكي ينقل استياء، بل اشمئزاز، قيادته من تجاهل الخطابات الكثيرة التي تُرسَل عن الجولان والحالة في سوريا في التقارير.
وفي الجلسة الأخيرة التي عقدت في أواخر كانون الأول الماضي، رفع الصوت عالياً منتقداً بان ومساعديه على إهمال حال السوريين في الجولان، رغم رسائله العديدة بشأن معاناتهم مع الاحتلال. لكنه يعرف حدود الأمين العام وأزمة المنظمة الدولية التي باتت أداة لشرعنة العدوان والحروب، بدلاً من أن تكون حارساً وصائناً للسلم.
في الأزمة الأخيرة، وقف الجعفري وقفة قيادية ممثلاً رئيسه وسياسة بلاده وشعبه متصدياً لحملة دبلوماسية غربية ـــــ عربية من أثقل الأعيرة. مستعيناً برباطة جأش نادرة، وبملفات كثيرة، وخلفيات سياسية قلّ نظيرها، فتح كل نيرانه السياسية على مجموعة من وزراء الخارجية قدموا من واشنطن ولندن وباريس وبرلين ولشبونة، فضلاً عن الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي ورئيس وزراء قطر حمد بن جاسم آل ثاني. وكان لكلمته في تلك الجلسة، التي عقدت في مجلس الأمن الدولي يوم الثلاثاء 31 كانون الثاني الماضي، صدىً قوي في النفوس بين محبيه ومبغضيه. لم تستطع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ونظيرها البريطاني وليام هيغ الردّ عليه، وعندما ردّ عليه وزير خارجية قطر، كان عليه أن يتحمل ما تلقاه.
كلمته في تلك الجلسة المدعّمة بالمستندات، حجّمت الأمين العام للجامعة العربية، وأظهرته متلبساً بجريمة التواطؤ مع المؤامرات القطرية ـــــ الغربية في إخفاء التقارير. فيها سأل الجعفري حمد بن جاسم مرتجلاً: «هل قطر عضو في حلف الأطلسي أم في الجامعة العربية؟». وسخر من أولئك الذين يتحدثون من جيوبهم، لا من عقولهم وأفواههم، مذكّراً إياه بأطفال سوريا الذين كانوا يتبرعون لإخوتهم المحتلين في الخليج من مصروفهم الضئيل لكي يكافحوا الاستعمار ويتحرروا من نيره. شرف تبرّأ المسؤول القطري منه، زاعماً أن قطر لم تكن محتلة (من بريطانيا) في يوم من الأيام. بل كانت بينها وبين المملكة المتحدة «اتفاق وانتهى»، وبأنها ليست ملزمة بأن تقف موقفاً معادياً لإسرائيل لكونها ليست من دول المواجهة التي تعاني من الاحتلال، لكنها «لا تقصّر في مساعدة الفلسطينيين من دون منّة». بالطبع أغفل حمد القول إنه يساعد الإسرائيليين أيضاً على قدم وساق و«بحيادية» من دون تمييز بين عربي واسرائيلي. كذلك ذكّر حمد والعربي وبقية سفراء العرب بأن أطفال سوريا كانوا ينشدون نشيد الثورة الجزائرية صبيحة كل يوم دراسي.
بشار الجعفري مولود في دمشق في 1956 متزوج وله ثلاثة أولاد. هو خريج الأدب الفرنسي من جامعة دمشق وحائز ثلاث شهادات دكتوراه، واحدة من الحلقة الثالثة في العلوم السياسية من جامعة سيو في باريس، ودكتوراه دولة في العلوم السياسية من جامعة السوربون الفرنسية، وفي تاريخ الحضارة الإسلامية في جامعة شريف هداية الله في جاكرتا. وهو يتقن الفرنسية والإنكليزية والفارسية.
عمل الجعفري في الخارجية السورية منذ 32 عاماً ومثّل بلاده كأمين ثم مستشار لدى باريس، وكسفير فوق العادة مفوض لدى جاكرتا على مدى خمسة أعوام، وعاد بعدها إلى دمشق عام 2003 حيث تولى منصب مدير المنظمات الدولية في الخارجية. وفي عام 2004 تولى منصب سفير فوق العادة مفوض في مقر الأمم المتحدة في جنيف حتى 6 تموز 2006، حين انتقل نيويورك فوجد نفسه في خضم الحرب الكبرى على لبنان وسوريا والقضية الفلسطينية. وتعين عليه تلك الفترة أن يتجرع بحسرة وقهر سموم الدبلوماسية العربية التي وقفت في موقع بعيد عن الوطنية والقومية.
كان أصعب ما مرّ به إضطراره أن يحمي ظهره من غدر بعض العرب وهو يتصدى للمؤامرات على قضاياهم، وأن يرى أولئك يُفشلون مساعي رئيس الجمعية العامة النيكاراغوي، الأب ميغيل ديسكوتو بروكمان، لمساعدة الشعب الفلسطيني خلال عدوان إسرائيل عام 2008 ـــــ 2009 على غزة.
إلى جانب قائمة طويلة من النشاطات السياسية والدبلوماسية والإنسانية، يتميز المندوب السوري بأسلوبه الأدبي الذي يمزج فيه بين الفكر والسياسة، ينهل مستشهداً من الثقافات العربية والغربية والشرقية. نشر أخيراً كتابه التاريخي «أولياء الشرق البعيد»، يروي فيه بأسلوب قصصي شيق، حكاية انتشار الإسلام في شرق آسيا منذ 1400 سنة، بما في ذلك في الصين وإندونيسيا وماليزيا، فضلاً عن شبه القارة الهندية.
يتحسر على الفرص التاريخية الضائعة حين قبلت سوريا بأن تتمثّل بعد الحرب العالمية الأولى بزعماء لا باع لهم في السياسة من الحجاز، بينما كانت سوريا تتفرد، دون كل العرب، بمندوبين في «مجلس المبعوثين» في تركيا.
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة