تجد تركيا نفسها أمام حزام من نار يمتد من باريس إلى بغداد، يضاف إلى أحزمة، بعضها ناري وبعضها برتقالي، لكنها في النهاية تشدد الخناق على الدور التركي، وتضع أنقرة في مواجهة تحديات غير مسبوقة، بعد سنوات قليلة فقط على تصفير أنقرة مشاكلها مع جيرانها.

لم تخسر تركيا فقط حلفاء قدماء، بل أضافت إليهم من كان في لحظة ما حليفا غير متوقع. لا يشك احد بأن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يجرّم منكري «الإبادة» الأرمنية لأسباب انتخابية، لكن وصف اردوغان تصويت مجلس الشيوخ الفرنسي على القانون بأنه «مجزرة لحرية الفكر» لا يستقيم مع الواقع التركي، ولا سير العلاقات مع أرمينيا.

يقول سميح ايديز في صحيفة «ميللييت» ان توصيف اردوغان هذا «يتناقض مع واقع الاضطهاد الواسع للحريات الفكرية والاعلامية في تركيا حيث عشرات الصحافيين يقبعون في السجن بتهمة دعم الارهاب». ويضيف «لو كان البروتوكول الذي وقعته تركيا مع ارمينيا قد عرف طريقه الى التنفيذ، ولم تتخل تركيا عنه كرمى لعيون اذربيجان التي لم تتحمس كثيرا للدفاع عن تركيا في وجه فرنسا، لما كان لتركيا ان تصل الى وضع ضعيف في المسألة الأرمنية. وإذا كان يمكن التباين في الرأي حول معاقبة منكري «الإبادة» فإن الجميع في أوروبا، وفي العالم العربي حيث أحفاد الأرمن لا يزالون يعيشون في لبنان وسوريا ومصر وحتى ايران، يعترفون بحصول كارثة كبيرة بحق الأرمن».

ويقول ايديز انه «في النهاية على الدبلوماسية أن تدرك خطأ الخيارات التي تتغذى من الدين والايديولوجيا. وبالتالي، فإن يد تركيا ضعيفة، وتوجد شكوك في كسب شيء من الذهاب الى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان. والطريق السليم لتقوية موقف تركيا هو ان تمضي الى مزيد من الديموقراطية والتنمية وحرية الفكر وحقوق الانسان، وان تسلك طريقا اكثر عقلانية وإلا فسيستمر سيف ديموقليس مرفوعا في وجه تركيا».

ورغم تهديد تركيا بأنها ستفرض عقوبات جدية على فرنسا فإن أحدا لا يصدق ذلك، ويرى أن المصالح الاقتصادية واعتبارات أخرى لا يمكن ان تدفع تركيا الى المجازفة برفع سيف المقاطعة لفرنسا. وحتى لو فعلت ذلك، فإن النتيجة على الأرض لن تكون مطابقة للتدابير، خصوصا في مرحلة الازمة الاقتصادية العالمية.

ومن باريس الى بغداد يكتمل طوق انهيار تصفير المشكلات، مع فارق انه في العلاقات مع العراق تطرح علامات استفهام كبيرة حول أسباب انهيارها السريع بعد مرحلة اتفاقات واعدة بتعاونات استراتيجية.

لكن من الملاحظ انه اذا كان أحد أوجه الصراع في العراق مذهبيا، فإن الأمر ليس كارثيا الى الدرجة التي تدعو اردوغان الى القول بأن العراق يتجه الى حرب مذهبية. ثم يعيد ذلك في خطبة اول من امس امام نواب حزبه باستخدام مفردات مثيرة للحساسيات، عندما يحذّر اردوغان رئيس وزراء العراق نوري المالكي من ألا يسير على خطى يزيد، معتبرا ان موقف تركيا من الوضع في العراق هو انطلاقا من قول الإمام علي «الساكت عن الحق شيطان أخرس». وقال اردوغان انه «اذا لم يأخذ المالكي العبرة من حادثة كربلاء، والدم المراق منذ قرون، ومن القيم الدينية، فعليه ان يعتبر بما قاله الإمام علي، وأن يمتنع من ان يكون شيطانا أخرس، ومن السير على خطى يزيد».

وفي هذا التوصيف «اليزيدي» يستعيد اردوغان لغة تبدو ملاصقة له وملازمة، وهي الإبحار في مفردات التاريخ الحساسة تماما، كما التذكير منذ بداية الأزمة السورية بعلوية الرئيس السوري بشار الأسد وسنّية زوجته، ثم اعتبار الأزمة في سوريا أنها بين سلطة علوية ومعارضة سنية.

وكما يدعو ايديز تركيا الى مواقف أكثر عقلانية تجاه المسألة الارمنية وغير الأرمنية، فإن السلطة السياسية في تركيا مدعوة الى التخلي عن الزاوية المذهبية التي تنظر منها الى الأوضاع في العراق، كما في سوريا وفي لبنان. اذ كما ان الحديث عن مجازر الحريات يرتد على تركيا، فإن الحديث عن «صدام المذاهب» على طريقة هنتنغتون في «صدام الحضارات» يضع تركيا في موقع هو الأضعف، نظرا الى انها كانت السباقة الى «النهج اليزيدي» في مقاربة مشكلة الأقليات المذهبية منذ بداية القرن الخامس عشر. وهذا النهج لم يتغير حتى الآن سواء في عهد العلمانيين المتشددين، او العسكريين او الاسلاميين الجدد. بل أضيف اليه نهج «يزيدي ديني» عندما وصف اردوغان الحضارة البيزنطية بأنها «سوداء».

ولا يبدو ان الدبلوماسية التركية بعد كل هذه العثرات قد توقفت عند مقاربة نقدية لسياساتها السابقة التي أفضت إلى تشكيل طوق من الأعداء حولها، جنوبا وشرقا وشمالا وغربا، وصولا الى فرنسا. اذ ليس من المعقول ان يكون هؤلاء كلهم على خطأ وانقرة وحدها على حق.

وتركيا الموجودة في منطقة حساسة ومعقدة، وفي خط تقاطع إقليمي ودولي، يمكن لها ان تستفيد من كل هذا الأزمات لممارسة أدوار توفيقية تزيد من نفوذها نفوذا ومن ثقلها ثقلا، لو انها لم تغلّب العوامل الدينية والايديولوجية والقومية، كما ذكر سميح ايديز، في سياساتها في السنة الأخيرة. وإذا كانت حسابات الحقل لم توافق حسابات البيدر وسقطت الرهانات في اكثر من قضية، فهذا يجب الا يكون مدعاة لأنقرة لمزيد من التدخلات ونبش التاريخ، بل في محاسبة شجاعة وجريئة وعقلانية للذات، وتصفير المشاكل فعلا أولا في الداخل ومن ثم مع الآخرين، ولهذا شروط لا يبدو ان «النظام» في تركيا مستعد بعد للنظر فيها.

 

 

  • فريق ماسة
  • 2012-01-25
  • 9171
  • من الأرشيف

حزام النار التركي من باريس إلى بغداد

  تجد تركيا نفسها أمام حزام من نار يمتد من باريس إلى بغداد، يضاف إلى أحزمة، بعضها ناري وبعضها برتقالي، لكنها في النهاية تشدد الخناق على الدور التركي، وتضع أنقرة في مواجهة تحديات غير مسبوقة، بعد سنوات قليلة فقط على تصفير أنقرة مشاكلها مع جيرانها. لم تخسر تركيا فقط حلفاء قدماء، بل أضافت إليهم من كان في لحظة ما حليفا غير متوقع. لا يشك احد بأن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يجرّم منكري «الإبادة» الأرمنية لأسباب انتخابية، لكن وصف اردوغان تصويت مجلس الشيوخ الفرنسي على القانون بأنه «مجزرة لحرية الفكر» لا يستقيم مع الواقع التركي، ولا سير العلاقات مع أرمينيا. يقول سميح ايديز في صحيفة «ميللييت» ان توصيف اردوغان هذا «يتناقض مع واقع الاضطهاد الواسع للحريات الفكرية والاعلامية في تركيا حيث عشرات الصحافيين يقبعون في السجن بتهمة دعم الارهاب». ويضيف «لو كان البروتوكول الذي وقعته تركيا مع ارمينيا قد عرف طريقه الى التنفيذ، ولم تتخل تركيا عنه كرمى لعيون اذربيجان التي لم تتحمس كثيرا للدفاع عن تركيا في وجه فرنسا، لما كان لتركيا ان تصل الى وضع ضعيف في المسألة الأرمنية. وإذا كان يمكن التباين في الرأي حول معاقبة منكري «الإبادة» فإن الجميع في أوروبا، وفي العالم العربي حيث أحفاد الأرمن لا يزالون يعيشون في لبنان وسوريا ومصر وحتى ايران، يعترفون بحصول كارثة كبيرة بحق الأرمن». ويقول ايديز انه «في النهاية على الدبلوماسية أن تدرك خطأ الخيارات التي تتغذى من الدين والايديولوجيا. وبالتالي، فإن يد تركيا ضعيفة، وتوجد شكوك في كسب شيء من الذهاب الى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان. والطريق السليم لتقوية موقف تركيا هو ان تمضي الى مزيد من الديموقراطية والتنمية وحرية الفكر وحقوق الانسان، وان تسلك طريقا اكثر عقلانية وإلا فسيستمر سيف ديموقليس مرفوعا في وجه تركيا». ورغم تهديد تركيا بأنها ستفرض عقوبات جدية على فرنسا فإن أحدا لا يصدق ذلك، ويرى أن المصالح الاقتصادية واعتبارات أخرى لا يمكن ان تدفع تركيا الى المجازفة برفع سيف المقاطعة لفرنسا. وحتى لو فعلت ذلك، فإن النتيجة على الأرض لن تكون مطابقة للتدابير، خصوصا في مرحلة الازمة الاقتصادية العالمية. ومن باريس الى بغداد يكتمل طوق انهيار تصفير المشكلات، مع فارق انه في العلاقات مع العراق تطرح علامات استفهام كبيرة حول أسباب انهيارها السريع بعد مرحلة اتفاقات واعدة بتعاونات استراتيجية. لكن من الملاحظ انه اذا كان أحد أوجه الصراع في العراق مذهبيا، فإن الأمر ليس كارثيا الى الدرجة التي تدعو اردوغان الى القول بأن العراق يتجه الى حرب مذهبية. ثم يعيد ذلك في خطبة اول من امس امام نواب حزبه باستخدام مفردات مثيرة للحساسيات، عندما يحذّر اردوغان رئيس وزراء العراق نوري المالكي من ألا يسير على خطى يزيد، معتبرا ان موقف تركيا من الوضع في العراق هو انطلاقا من قول الإمام علي «الساكت عن الحق شيطان أخرس». وقال اردوغان انه «اذا لم يأخذ المالكي العبرة من حادثة كربلاء، والدم المراق منذ قرون، ومن القيم الدينية، فعليه ان يعتبر بما قاله الإمام علي، وأن يمتنع من ان يكون شيطانا أخرس، ومن السير على خطى يزيد». وفي هذا التوصيف «اليزيدي» يستعيد اردوغان لغة تبدو ملاصقة له وملازمة، وهي الإبحار في مفردات التاريخ الحساسة تماما، كما التذكير منذ بداية الأزمة السورية بعلوية الرئيس السوري بشار الأسد وسنّية زوجته، ثم اعتبار الأزمة في سوريا أنها بين سلطة علوية ومعارضة سنية. وكما يدعو ايديز تركيا الى مواقف أكثر عقلانية تجاه المسألة الارمنية وغير الأرمنية، فإن السلطة السياسية في تركيا مدعوة الى التخلي عن الزاوية المذهبية التي تنظر منها الى الأوضاع في العراق، كما في سوريا وفي لبنان. اذ كما ان الحديث عن مجازر الحريات يرتد على تركيا، فإن الحديث عن «صدام المذاهب» على طريقة هنتنغتون في «صدام الحضارات» يضع تركيا في موقع هو الأضعف، نظرا الى انها كانت السباقة الى «النهج اليزيدي» في مقاربة مشكلة الأقليات المذهبية منذ بداية القرن الخامس عشر. وهذا النهج لم يتغير حتى الآن سواء في عهد العلمانيين المتشددين، او العسكريين او الاسلاميين الجدد. بل أضيف اليه نهج «يزيدي ديني» عندما وصف اردوغان الحضارة البيزنطية بأنها «سوداء». ولا يبدو ان الدبلوماسية التركية بعد كل هذه العثرات قد توقفت عند مقاربة نقدية لسياساتها السابقة التي أفضت إلى تشكيل طوق من الأعداء حولها، جنوبا وشرقا وشمالا وغربا، وصولا الى فرنسا. اذ ليس من المعقول ان يكون هؤلاء كلهم على خطأ وانقرة وحدها على حق. وتركيا الموجودة في منطقة حساسة ومعقدة، وفي خط تقاطع إقليمي ودولي، يمكن لها ان تستفيد من كل هذا الأزمات لممارسة أدوار توفيقية تزيد من نفوذها نفوذا ومن ثقلها ثقلا، لو انها لم تغلّب العوامل الدينية والايديولوجية والقومية، كما ذكر سميح ايديز، في سياساتها في السنة الأخيرة. وإذا كانت حسابات الحقل لم توافق حسابات البيدر وسقطت الرهانات في اكثر من قضية، فهذا يجب الا يكون مدعاة لأنقرة لمزيد من التدخلات ونبش التاريخ، بل في محاسبة شجاعة وجريئة وعقلانية للذات، وتصفير المشاكل فعلا أولا في الداخل ومن ثم مع الآخرين، ولهذا شروط لا يبدو ان «النظام» في تركيا مستعد بعد للنظر فيها.    

المصدر : السفير/محمد نور الدين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة