تكاد «الهوامش اللبنانية» لأطراف الصراع الداخلي تنتفي كليا لصالح الاصطفاف الكامل على ضفتي الأزمة السورية، الأمر الذي جعل مستقبل «الدور السياسي» لكل فريق مرتبطا عضويا وكليا بمصير النظام السوري، بعدما جاهر الجميع بخياراتهم فوق السطح ووقف كل منهم على ضفة النهر ينتظر مرور جثة خصمه.

من هنا، فإن كل ما يدور على مستوى المشهد المحلي أصبح مجرد لعب او تسال في الوقت الضائع، في انتظار حسم المعادلات على الساحة السورية التي انتقلت اليها المعركة الإقليمية والدولية، بكل أثقالها، بعدما كانت الساحة اللبنانية تحتكر هذا النوع من المعارك القاسية.

وفي انتظار ان تتبلور صورة موازين القوى الجديدة في المنطقة، يمسك كل من الأطراف الداخلية الروزنامة ويعد الأيام التي تفصله عن موعد.. «احتفاله الكبير». بالنسبة الى حلفاء النظام السوري في لبنان، لا شيء يزعزع القناعة الراسخة لديهم بأن بشار الاسد سيخرج من هذه المواجهة الكبرى منتصرا، ولو بالنقاط، في مدة أقصاها نهاية السنة الحالية، مع اكتمال الانسحاب الاميركي من العراق.

في المقابل، وصل الخصوم المحليون للنظام السوري في تموضعهم ضده الى نقطة اللاعودة تقريبا، وهم الذين قرروا ان يذهبوا في «المقامرة السياسية» الى الحد الأقصى، على قاعدة إما ان يربحوا كل شيء إذا فاز رهانهم على سقوط بشار الأسد، وإما ان يفقدوا كل شيء إذا خسروا هذا الرهان، مفترضين في قرارة أنفسهم ان الأسد لن ينجو هذه المرة أو انه في أسوأ الحالات سيخرج «مروّضا» ومنزوع «المخالب» من الأزمة الحالية، بما يعطل الكثير من عناصر القوة التي كان يملكها، ويقلص تأثيره على معادلات الوضع اللبناني.

هذا النوع من الحسابات، كان موضع نقاش بين نائبين بارزين ينتميان الى 8 و14 آذار قبل أيام قليلة، حيث حذر الأول زميله من ان فريقه يلعب لعبة خطيرة، «لأنه إذا بقي نظام الأسد فإنكم ستدفعون ثمنا كبيرا في السياسة، وإذا سقط فستدفعون ايضا الثمن ذاته ولن تملكوا الفرصة للاستمتاع بالنصر المفترض، خصوصا إذا انزلق البلد نحو حرب أهلية».

وصلت «الرسالة» الى النائب المعارض، ورد عليها بدعوة خصمه الأكثري الى الخروج من حالة «الرهاب السوري»، والكف عن التسليم بأن «دمشق هي البعبع الذي يستطيع ان يفرض علينا، تحت ضغط التخويف، اتخاذ خيارات او مواقف لا تنسجم مع قناعاتنا».

وفي ما خص التداعيات المحتملة لسقوط النظام السوري على الداخل اللبناني، أكد النائب المعارض لزميله في 8 آذار ان فريق 14 آذار، ولا سيما تيار المستقبل، لن ينجر الى أي مواجهة في الشارع مهما حصل في سورية، «وبالتالي فإن الفتنة مستبعدة لان حدوثها يحتاج الى طرفين، وهناك على الأقل طرف واحد ليس بوارد الانزلاق اليها.. فلماذا القلق المسبق من فرضية نظرية، ولماذا الإيحاء بأن حماية الاستقرار الداخلي مرتبطة ببقاء نظام الأسد؟».

وإذا كان حلفاء دمشق يؤكدون ان استمرار وجود الرئيس الاسد في السلطة هو أحد الشروط الاساسية لمنع انزلاق لبنان الى المجهول، إلا ان هناك في 14 آذار من يرى ان العكس هو الصحيح، معتبرا ان بقاء الأسد في موقعه هو الذي يهدد الاستقرار الداخلي ويبقيه رهينة المصالح السورية ومتطلباتها.

وانطلاقا من هذه القراءة المسكونة بـ«الأشباح السورية»، تبين مؤخرا ان أي خلل أمني ـ ومهما كان محدودا او فرديا ـ أصبح يملك قابلية أن يكتسب حجما منتفخا بفعل تأثير «كورتيزون» نظرية المؤامرة، الجاهزة للاستخدام عند الحاجة.

وضمن هذا السياق، يشير البعض في المعارضة الى ان الحوداث الأمنية المتنقلة بين مختلف المناطق، تندرج على الارجح في إطار توجيه «رسائل» مشفرة الى الخارج، يريد أصحابها القول انهم قادرون على إغراق لبنان في الفوضى، وبالتالي تهديد «اليونيفيل» واسرائيل متى لزم الأمر، إذا اشتد الضغط الإقليمي والدولي الذي يستهدف بشار الاسد لدفعه الى التنحي عن السلطة.

ويذهب هذا البعض في اجتهاداته الى حد الافتراض أن هناك كذلك «وجها آخر» لهذه الرسائل يهدف الى استثارة مخاوف الأقليات، وتحديدا المسيحيين، من خلال الإيحاء لهم بأن النظام السوري وحده يشكل الضمانة لأمنهم ومستقبلهم، وأن سقوطه سيطلق العنان للفوضى التي سيكونون في طليعة ضحاياها.

ويتساءل أصحاب هذا الاستنتاج عما إذا كان من المصادفة ان تطال معظم الحوادث الأخيرة أهدافا مسيحية، سواء في المتن أو في بيروت أو في صور وغيرها من المناطق، مرجحين انها تتجاوز الطابع الفردي، وتحمل في طياتها وتوقيتها ما يدفع الى الارتياب والتوجس.

وبمعزل عن الخلفيات الحقيقية للثغرات الأمنية، يبدو واضحا ان لا تحولات جذرية في المشهد اللبناني راهنا، بانتظار تبيان نتيجة السباق المحموم الذي تخوضه دمشق وواشنطن مع الوقت، في ظل سعي كل منهما الى كسب معركته قبل اكتمال الانسحاب الاميركي في نهاية العام الحالي.

ولأن الاسد يعلم هذه الحقيقة فهو يحاول تجنب الانفعال في ردود فعله، ويستخدم تجربة «النموذج اللبناني» خلال الحرب (التجاوب مع أدبيات وقف اطلاق النار، وانتشار المراقبين، وسحب المظاهر المسلحة وإطلاق الحوار..) في مواجهة محاولة جره الى «النموذج الليبي»، وهذا ما اتضح عبر تعاطيه بمرونة وواقعية مع المبادرة العربية ثم قرارات الجامعة العربية، برغم انها صيغت بشكل استفزازي لدفعه الى رفضها، مستعيدا بذلك سيناريو 2005 حين اتخذ قرارا بسحب الجيش السوري من لبنان في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بما يخالف توقعات خصومه آنذاك.

أما الولايات المتحدة فهي تسعى الى اختصار المسافات في ضغطها على الأسد وتنتقل من مرحلة الى أخرى بسرعة، بالتعاون والتنسيق مع حلفائها في الجامعة العربية، لعلها تنجح في إسقاط النظام قبيل مغادرتها العراق، وحينها تستطيع ان تطمئن الى ان المحور الإيراني ـ العراقي ـ السوري ـ اللبناني قد كُسر في وسطه، ولن يكون قادرا على ملء الفراغ بعد انسحابها، واستلام زمام المبادرة في المنطقة.

  • فريق ماسة
  • 2011-11-17
  • 10975
  • من الأرشيف

بقاء الأسد.. ضمانة أم تهديد للاستقرار الداخلي؟ / بقلم عماد مرمل

تكاد «الهوامش اللبنانية» لأطراف الصراع الداخلي تنتفي كليا لصالح الاصطفاف الكامل على ضفتي الأزمة السورية، الأمر الذي جعل مستقبل «الدور السياسي» لكل فريق مرتبطا عضويا وكليا بمصير النظام السوري، بعدما جاهر الجميع بخياراتهم فوق السطح ووقف كل منهم على ضفة النهر ينتظر مرور جثة خصمه. من هنا، فإن كل ما يدور على مستوى المشهد المحلي أصبح مجرد لعب او تسال في الوقت الضائع، في انتظار حسم المعادلات على الساحة السورية التي انتقلت اليها المعركة الإقليمية والدولية، بكل أثقالها، بعدما كانت الساحة اللبنانية تحتكر هذا النوع من المعارك القاسية. وفي انتظار ان تتبلور صورة موازين القوى الجديدة في المنطقة، يمسك كل من الأطراف الداخلية الروزنامة ويعد الأيام التي تفصله عن موعد.. «احتفاله الكبير». بالنسبة الى حلفاء النظام السوري في لبنان، لا شيء يزعزع القناعة الراسخة لديهم بأن بشار الاسد سيخرج من هذه المواجهة الكبرى منتصرا، ولو بالنقاط، في مدة أقصاها نهاية السنة الحالية، مع اكتمال الانسحاب الاميركي من العراق. في المقابل، وصل الخصوم المحليون للنظام السوري في تموضعهم ضده الى نقطة اللاعودة تقريبا، وهم الذين قرروا ان يذهبوا في «المقامرة السياسية» الى الحد الأقصى، على قاعدة إما ان يربحوا كل شيء إذا فاز رهانهم على سقوط بشار الأسد، وإما ان يفقدوا كل شيء إذا خسروا هذا الرهان، مفترضين في قرارة أنفسهم ان الأسد لن ينجو هذه المرة أو انه في أسوأ الحالات سيخرج «مروّضا» ومنزوع «المخالب» من الأزمة الحالية، بما يعطل الكثير من عناصر القوة التي كان يملكها، ويقلص تأثيره على معادلات الوضع اللبناني. هذا النوع من الحسابات، كان موضع نقاش بين نائبين بارزين ينتميان الى 8 و14 آذار قبل أيام قليلة، حيث حذر الأول زميله من ان فريقه يلعب لعبة خطيرة، «لأنه إذا بقي نظام الأسد فإنكم ستدفعون ثمنا كبيرا في السياسة، وإذا سقط فستدفعون ايضا الثمن ذاته ولن تملكوا الفرصة للاستمتاع بالنصر المفترض، خصوصا إذا انزلق البلد نحو حرب أهلية». وصلت «الرسالة» الى النائب المعارض، ورد عليها بدعوة خصمه الأكثري الى الخروج من حالة «الرهاب السوري»، والكف عن التسليم بأن «دمشق هي البعبع الذي يستطيع ان يفرض علينا، تحت ضغط التخويف، اتخاذ خيارات او مواقف لا تنسجم مع قناعاتنا». وفي ما خص التداعيات المحتملة لسقوط النظام السوري على الداخل اللبناني، أكد النائب المعارض لزميله في 8 آذار ان فريق 14 آذار، ولا سيما تيار المستقبل، لن ينجر الى أي مواجهة في الشارع مهما حصل في سورية، «وبالتالي فإن الفتنة مستبعدة لان حدوثها يحتاج الى طرفين، وهناك على الأقل طرف واحد ليس بوارد الانزلاق اليها.. فلماذا القلق المسبق من فرضية نظرية، ولماذا الإيحاء بأن حماية الاستقرار الداخلي مرتبطة ببقاء نظام الأسد؟». وإذا كان حلفاء دمشق يؤكدون ان استمرار وجود الرئيس الاسد في السلطة هو أحد الشروط الاساسية لمنع انزلاق لبنان الى المجهول، إلا ان هناك في 14 آذار من يرى ان العكس هو الصحيح، معتبرا ان بقاء الأسد في موقعه هو الذي يهدد الاستقرار الداخلي ويبقيه رهينة المصالح السورية ومتطلباتها. وانطلاقا من هذه القراءة المسكونة بـ«الأشباح السورية»، تبين مؤخرا ان أي خلل أمني ـ ومهما كان محدودا او فرديا ـ أصبح يملك قابلية أن يكتسب حجما منتفخا بفعل تأثير «كورتيزون» نظرية المؤامرة، الجاهزة للاستخدام عند الحاجة. وضمن هذا السياق، يشير البعض في المعارضة الى ان الحوداث الأمنية المتنقلة بين مختلف المناطق، تندرج على الارجح في إطار توجيه «رسائل» مشفرة الى الخارج، يريد أصحابها القول انهم قادرون على إغراق لبنان في الفوضى، وبالتالي تهديد «اليونيفيل» واسرائيل متى لزم الأمر، إذا اشتد الضغط الإقليمي والدولي الذي يستهدف بشار الاسد لدفعه الى التنحي عن السلطة. ويذهب هذا البعض في اجتهاداته الى حد الافتراض أن هناك كذلك «وجها آخر» لهذه الرسائل يهدف الى استثارة مخاوف الأقليات، وتحديدا المسيحيين، من خلال الإيحاء لهم بأن النظام السوري وحده يشكل الضمانة لأمنهم ومستقبلهم، وأن سقوطه سيطلق العنان للفوضى التي سيكونون في طليعة ضحاياها. ويتساءل أصحاب هذا الاستنتاج عما إذا كان من المصادفة ان تطال معظم الحوادث الأخيرة أهدافا مسيحية، سواء في المتن أو في بيروت أو في صور وغيرها من المناطق، مرجحين انها تتجاوز الطابع الفردي، وتحمل في طياتها وتوقيتها ما يدفع الى الارتياب والتوجس. وبمعزل عن الخلفيات الحقيقية للثغرات الأمنية، يبدو واضحا ان لا تحولات جذرية في المشهد اللبناني راهنا، بانتظار تبيان نتيجة السباق المحموم الذي تخوضه دمشق وواشنطن مع الوقت، في ظل سعي كل منهما الى كسب معركته قبل اكتمال الانسحاب الاميركي في نهاية العام الحالي. ولأن الاسد يعلم هذه الحقيقة فهو يحاول تجنب الانفعال في ردود فعله، ويستخدم تجربة «النموذج اللبناني» خلال الحرب (التجاوب مع أدبيات وقف اطلاق النار، وانتشار المراقبين، وسحب المظاهر المسلحة وإطلاق الحوار..) في مواجهة محاولة جره الى «النموذج الليبي»، وهذا ما اتضح عبر تعاطيه بمرونة وواقعية مع المبادرة العربية ثم قرارات الجامعة العربية، برغم انها صيغت بشكل استفزازي لدفعه الى رفضها، مستعيدا بذلك سيناريو 2005 حين اتخذ قرارا بسحب الجيش السوري من لبنان في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بما يخالف توقعات خصومه آنذاك. أما الولايات المتحدة فهي تسعى الى اختصار المسافات في ضغطها على الأسد وتنتقل من مرحلة الى أخرى بسرعة، بالتعاون والتنسيق مع حلفائها في الجامعة العربية، لعلها تنجح في إسقاط النظام قبيل مغادرتها العراق، وحينها تستطيع ان تطمئن الى ان المحور الإيراني ـ العراقي ـ السوري ـ اللبناني قد كُسر في وسطه، ولن يكون قادرا على ملء الفراغ بعد انسحابها، واستلام زمام المبادرة في المنطقة.

المصدر : السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة