في مطلع العام 1917، بدأ البريطانيون السيطرة الصعبة على فلسطين وفي نيسان من العام عينه، استخدموا الحركة الصهيونية في هذا الاتجاه ما أفضى إلى وعد بلفور بتاريخ 2 تشرين الثاني1917 الذي أعلن قيام وطن قومي يهودي في فلسطين،

 

وارتكزت الخطة البريطانية على احتلال الأرض من خلال تشجيع الثورة العربية على التوسع في اتجاه سورية (وليس فلسطين) وعلى سلسلة من التصريحات الرسمية المؤيدة لحق تقرير المصير، فحق تقرير لمصير يعني بالنسبة إلى لندن اختيار الرعاية البريطانية، وعندما رفض الوطنيون العرب هذه الهيمنة اعطوا صفة «المشرقيين» المهينة والتي يتشاطرونها مع العناصر المؤيدة لفرنسا.‏

 

وما إن انتهت الحرب حتى تنكر الإنكليز لعهودهم، وفرضت حدود التجزئة الجديدة، ونفي الشريف حسين، وطورد رجالات الحركة القومية، وعم الاحتلال أجزاء العالم العربي الذي كان ولايات عثمانية، بدأ عهد جديد، ولم يكن تقسيم الشرق الأوسط دولاً عدة أمراً مرفوضاً في المطلق، فالهاشميون كانوا ينوون الإقدام على هذا التقسيم منذ البداية لمصلحة أبناء الشريف حسين، لكنه حصل ضد إرادة الشعوب ومن طريق خطاب ليبيرالي أفرغه استخدام القوة من مضمونه.‏

 

وعلى الرغم من مرور مايقارب قرن من اتفاقية سايكس بيكو، فإن العرب لايزالون حتى الآن يعيشون تحت وطأة كارثة التجزئة التي حرص الغرب الاستعماري على تكريسها، وكان الكيان الصهيوني الذي زرعه «الغرب» في قلب الأمة العربية والإسلامية الضامن الوحيد لتثبيتها قد عاد شبح سايكس بيكو جديد أو إعادة تقسيم الشرق الأوسط من جديد، المفروض من الخارج للظهور بشكل متواتر مع الغزو الأميركي للعراق في آذار سنة 2003 فالادعاء الأميركي بالتفوق الأخلاقي القائم على تطبيق الديمقراطية والليبرالية يظهر كمخاتلة مشؤومة ذلك أن الديمقراطية المصدرة بوساطة الحرب تعكس النتائج الأسوأ لخيارات مرحلة 1916-1920 المتجددة باستمرار، من خلال إعادة طرح إدارة الرئيس السابق جورج بوش مشروع «الشرق الأوسط الكبير» بوصفه الموجة الثالثة لتيار الشرق أوسطية المعاصرة في الصياغة الأميركية والتي أعقبت الصياغة البريطانية لـ «الشرق الأدنى» وكلاهما مفهوم استعماري ينطلق من نزعة المركزية الغربية التي تحكمت فيها تصورات الإمبراطوريتين، وهي تصورات ارتبطت بالجغرافيا السياسية للإقليم العربي ودورها في الاستراتيجية العالمية السائدة آنذاك.‏

 

فالشرق الأدنى كان مجرد طريق بريطانيا إلى الهند درة تاجها، وأهم مستعمراتها قاطبة، بينما كان الشرق الأوسط دوماً هو المجال الحيوي للاستراتيجية الأميركية وأحد محاور حركتها نحو العالمية.‏

 

ففي الموجة الأولى لتيار الشرق أوسطية كان الطرح بقصد حصار الاتحاد السوفييتي في خمسينيات القرن العشرين بحلف الدفاع عن الشرق الأوسط، ثم حلف بغداد حيث ذاعت استراتيجية ملء الفراغ التي تبنتها إدارة الرئيس ايزنهاور في مواجهة احتمالات التمدد الشيوعي في المنطقة العربية أساساً ثم الهلال الإسلامي المحيط بها وربما إفريقيا جنوب الصحراء في بطنها، وفي الموجة الثانية له كانت «الشرق أوسطية» طرحاً شاملاً وتبشيرياً للانتقال بالعالم العربي وإسرائيل من عصر الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الاقتصادية بعد نهاية الحرب الباردة والتحالف العربي- الأميركي ضد العراق بهدف تحرير الكويت وفي قلبه كان الهدف المركزي هو إدماج إسرائيل في المنطقة باعتبارها الوكيل الاستراتيجي الأساسي لها في مرحلة مابعد الاتحاد السوفييتي وإعادة بناء التحالف الغربي.‏

 

لقد تمت السيطرة الأميركية على العراق، والمحافظون الجدد والمتطرفون الصهاينة النافذون في البيت الأبيض، يريدون إعادة رسم الخريطة الاستراتيجية للشرق الأوسط لما يمثله من اقتصاد وموقع استراتيجي وثروات وحضارة ومستقبل تريد القوة العظمى الآن السيطرة عليه، ومنذ الغزو الأميركي للعراق، أصبح- الشرق الأوسط الكبير- وهي منطقة غير واضحة المعالم، تمتد من باكستان إلى المغرب مروراً بالقرن الإفريقي- المنطقة الأساسية لانتشار القوة الأميركية وحلبة المواجهة الأساسية، لابل حتى الوحيدة، لما يصفه البيت الأبيض بالصراع العالمي، ونظراً إلى مصادرها النفطية، وموقعها الاستراتيجي ووجود إسرائيل، فكثيراً ماوردت المنطقة ضمن أولويات الولايات المتحدة، خاصة منذ العام 1956 والضمور التدريجي لنفوذ فرنسا والمملكة المتحدة، فوفق شرح فيليب دروز- فينسان في تحليل حذق لـ «اللحظة الأميركية» في الشرق الأوسط، باتت هذه المنطقة تشغل مكان أميركا اللاتينية في كونها «حديقة خلفية مباشرة» للولايات المتحدة، مع منحى إضافي، لم يسبق لأميركا الجنوبية أن شهدته من قبل، وهو أن تكون حلبة صراع حيوية لحرب عالمية ثالثة.‏

 

لقد وصف المحافظون الجدد في عهد إدارة بوش السابقة الوطن العربي بأنه «رجل القرن الحادي والعشرين المريض»، وهاهي إدارة أوباما لاتختلف عن إدارة بوش السابقة لجهة رؤيتها أن يلقى الوطن العربي المصير عينه الذي لقيه رجل القرن التاسع عشر المريض، الإمبرطورية العثمانية، من تقسيم غداة الحرب العالمية الأولى، وفضلاً عن ذلك، يعتبر المحافظون الجدد وأمثالهم من الصهاينة الوطن العربي بكونه تجمعاً لأقليات دينية وعرقية عاجزة عن العيش سوية في كيانات دولية وطنية، وترتكز الحلول المقترحة من أجل خدمة الديمقراطية ومصالح أميركا معاً، والمفترض أنهما مترابطان، على استخدام صريح للطائفية في إطار استراتيجية تعرف بالـ «فوضى البناءة».‏

 

ويستهدف مشروع الشرق الأوسط الكبير تقليص المنطقة‏

 

إلى مجرد فسيفساء من «الأقليات»، بات يسيطر على السياسة الأميركية بمجملها، وهو يدفع كل واحد إلى التماهي مع طائفته، على حساب أي انتماء وطني (أو آخر)، ويقوض سيادة الدول ويفضي إلى صراعات لانهاية لها: في العراق اليوم في سورية أو إيران غداً؟ كما يشجع على جميع أنواع التدخلات الأجنبية، الإقليمية والدولية، التي يتلاعب كل منها بالأطراف المحلية لما فيه خدمة مصالحها الخاصة، وقد أدت إسرائيل في الواقع، منذ الثمانينيات إلى يومنا هذا دوراً أساسياً في بلورة هذه الاستراتيجية.‏

 

*كاتب تونسي‏

  • فريق ماسة
  • 2011-11-16
  • 12429
  • من الأرشيف

الشرق الأوسط وإعادة إنتاج سايكس - بيكو جديدة

      في مطلع العام 1917، بدأ البريطانيون السيطرة الصعبة على فلسطين وفي نيسان من العام عينه، استخدموا الحركة الصهيونية في هذا الاتجاه ما أفضى إلى وعد بلفور بتاريخ 2 تشرين الثاني1917 الذي أعلن قيام وطن قومي يهودي في فلسطين،   وارتكزت الخطة البريطانية على احتلال الأرض من خلال تشجيع الثورة العربية على التوسع في اتجاه سورية (وليس فلسطين) وعلى سلسلة من التصريحات الرسمية المؤيدة لحق تقرير المصير، فحق تقرير لمصير يعني بالنسبة إلى لندن اختيار الرعاية البريطانية، وعندما رفض الوطنيون العرب هذه الهيمنة اعطوا صفة «المشرقيين» المهينة والتي يتشاطرونها مع العناصر المؤيدة لفرنسا.‏   وما إن انتهت الحرب حتى تنكر الإنكليز لعهودهم، وفرضت حدود التجزئة الجديدة، ونفي الشريف حسين، وطورد رجالات الحركة القومية، وعم الاحتلال أجزاء العالم العربي الذي كان ولايات عثمانية، بدأ عهد جديد، ولم يكن تقسيم الشرق الأوسط دولاً عدة أمراً مرفوضاً في المطلق، فالهاشميون كانوا ينوون الإقدام على هذا التقسيم منذ البداية لمصلحة أبناء الشريف حسين، لكنه حصل ضد إرادة الشعوب ومن طريق خطاب ليبيرالي أفرغه استخدام القوة من مضمونه.‏   وعلى الرغم من مرور مايقارب قرن من اتفاقية سايكس بيكو، فإن العرب لايزالون حتى الآن يعيشون تحت وطأة كارثة التجزئة التي حرص الغرب الاستعماري على تكريسها، وكان الكيان الصهيوني الذي زرعه «الغرب» في قلب الأمة العربية والإسلامية الضامن الوحيد لتثبيتها قد عاد شبح سايكس بيكو جديد أو إعادة تقسيم الشرق الأوسط من جديد، المفروض من الخارج للظهور بشكل متواتر مع الغزو الأميركي للعراق في آذار سنة 2003 فالادعاء الأميركي بالتفوق الأخلاقي القائم على تطبيق الديمقراطية والليبرالية يظهر كمخاتلة مشؤومة ذلك أن الديمقراطية المصدرة بوساطة الحرب تعكس النتائج الأسوأ لخيارات مرحلة 1916-1920 المتجددة باستمرار، من خلال إعادة طرح إدارة الرئيس السابق جورج بوش مشروع «الشرق الأوسط الكبير» بوصفه الموجة الثالثة لتيار الشرق أوسطية المعاصرة في الصياغة الأميركية والتي أعقبت الصياغة البريطانية لـ «الشرق الأدنى» وكلاهما مفهوم استعماري ينطلق من نزعة المركزية الغربية التي تحكمت فيها تصورات الإمبراطوريتين، وهي تصورات ارتبطت بالجغرافيا السياسية للإقليم العربي ودورها في الاستراتيجية العالمية السائدة آنذاك.‏   فالشرق الأدنى كان مجرد طريق بريطانيا إلى الهند درة تاجها، وأهم مستعمراتها قاطبة، بينما كان الشرق الأوسط دوماً هو المجال الحيوي للاستراتيجية الأميركية وأحد محاور حركتها نحو العالمية.‏   ففي الموجة الأولى لتيار الشرق أوسطية كان الطرح بقصد حصار الاتحاد السوفييتي في خمسينيات القرن العشرين بحلف الدفاع عن الشرق الأوسط، ثم حلف بغداد حيث ذاعت استراتيجية ملء الفراغ التي تبنتها إدارة الرئيس ايزنهاور في مواجهة احتمالات التمدد الشيوعي في المنطقة العربية أساساً ثم الهلال الإسلامي المحيط بها وربما إفريقيا جنوب الصحراء في بطنها، وفي الموجة الثانية له كانت «الشرق أوسطية» طرحاً شاملاً وتبشيرياً للانتقال بالعالم العربي وإسرائيل من عصر الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الاقتصادية بعد نهاية الحرب الباردة والتحالف العربي- الأميركي ضد العراق بهدف تحرير الكويت وفي قلبه كان الهدف المركزي هو إدماج إسرائيل في المنطقة باعتبارها الوكيل الاستراتيجي الأساسي لها في مرحلة مابعد الاتحاد السوفييتي وإعادة بناء التحالف الغربي.‏   لقد تمت السيطرة الأميركية على العراق، والمحافظون الجدد والمتطرفون الصهاينة النافذون في البيت الأبيض، يريدون إعادة رسم الخريطة الاستراتيجية للشرق الأوسط لما يمثله من اقتصاد وموقع استراتيجي وثروات وحضارة ومستقبل تريد القوة العظمى الآن السيطرة عليه، ومنذ الغزو الأميركي للعراق، أصبح- الشرق الأوسط الكبير- وهي منطقة غير واضحة المعالم، تمتد من باكستان إلى المغرب مروراً بالقرن الإفريقي- المنطقة الأساسية لانتشار القوة الأميركية وحلبة المواجهة الأساسية، لابل حتى الوحيدة، لما يصفه البيت الأبيض بالصراع العالمي، ونظراً إلى مصادرها النفطية، وموقعها الاستراتيجي ووجود إسرائيل، فكثيراً ماوردت المنطقة ضمن أولويات الولايات المتحدة، خاصة منذ العام 1956 والضمور التدريجي لنفوذ فرنسا والمملكة المتحدة، فوفق شرح فيليب دروز- فينسان في تحليل حذق لـ «اللحظة الأميركية» في الشرق الأوسط، باتت هذه المنطقة تشغل مكان أميركا اللاتينية في كونها «حديقة خلفية مباشرة» للولايات المتحدة، مع منحى إضافي، لم يسبق لأميركا الجنوبية أن شهدته من قبل، وهو أن تكون حلبة صراع حيوية لحرب عالمية ثالثة.‏   لقد وصف المحافظون الجدد في عهد إدارة بوش السابقة الوطن العربي بأنه «رجل القرن الحادي والعشرين المريض»، وهاهي إدارة أوباما لاتختلف عن إدارة بوش السابقة لجهة رؤيتها أن يلقى الوطن العربي المصير عينه الذي لقيه رجل القرن التاسع عشر المريض، الإمبرطورية العثمانية، من تقسيم غداة الحرب العالمية الأولى، وفضلاً عن ذلك، يعتبر المحافظون الجدد وأمثالهم من الصهاينة الوطن العربي بكونه تجمعاً لأقليات دينية وعرقية عاجزة عن العيش سوية في كيانات دولية وطنية، وترتكز الحلول المقترحة من أجل خدمة الديمقراطية ومصالح أميركا معاً، والمفترض أنهما مترابطان، على استخدام صريح للطائفية في إطار استراتيجية تعرف بالـ «فوضى البناءة».‏   ويستهدف مشروع الشرق الأوسط الكبير تقليص المنطقة‏   إلى مجرد فسيفساء من «الأقليات»، بات يسيطر على السياسة الأميركية بمجملها، وهو يدفع كل واحد إلى التماهي مع طائفته، على حساب أي انتماء وطني (أو آخر)، ويقوض سيادة الدول ويفضي إلى صراعات لانهاية لها: في العراق اليوم في سورية أو إيران غداً؟ كما يشجع على جميع أنواع التدخلات الأجنبية، الإقليمية والدولية، التي يتلاعب كل منها بالأطراف المحلية لما فيه خدمة مصالحها الخاصة، وقد أدت إسرائيل في الواقع، منذ الثمانينيات إلى يومنا هذا دوراً أساسياً في بلورة هذه الاستراتيجية.‏   *كاتب تونسي‏

المصدر : توفيق المديني


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة