دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
كان يمكن أن يتوقع الإنسان أي شيء من أي شخص إلا أن يضفي وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو صفة القداسة الدينية على غزوة حلف شمال الأطلسي لليبيا.
ففي تصريح له مساء أمس الأول إلى قناة «ان تي في» التركية، أعلن داود اوغلو أنه قال لقادة المجلس الوطني الانتقالي أثناء زيارته الخاطفة إلى ليبيا قبل ثلاثة أيام أنه «يجب أن تدخلوا طرابلس كما دخل النبي محمد إلى مكة. يجب أن تصدروا عفواً عاماً وتعاملوا الناس بالرحمة».
إلى هذا الحد يصل وزير خارجية دولة مسلمة ليشبه «الحملة الأطلسية»، التي وصفها وزير الداخلية الفرنسي السابق كلود غيان بأنها «صليبية»، على ليبيا بأنها حملة جهادية دينية وباسم النبي محمد تحديدا، في أسوأ تشبيه يمكن أن يقوم به فرد مسلم فكيف بمسؤول في دولة مسلمة كبرى.
وهو بذلك يظن أن المعركة العسكرية في ليبيا نتاج محلي أو صحراوي خالص، متجاهلا أن كل شيء يسير بقدرة وبإمرة «الأطلسي» وان المعركة هي في جوهرها معركة احتلال «الأطلسي» لنفط ليبيا واقتسام الحصص.
شكلت الحالة الليبية النموذج الأكثر إحراجا لتركيا من بين الثورات العربية. إذ بعد الصورة «الثورية» التي ظهر بها رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان بدعوته الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك للتنحي، جاءت الانتفاضة الليبية لتضع تركيا على محك معيار «المبادئ» التي أعلنها اردوغان وهو انه إلى جانب الشعوب لا الأنظمة.
إذ سرعان ما وقف أردوغان إلى جانب رأس النظام الليبي لثلاثة أسباب: الأول أن لتركيا مصالح اقتصادية كبيرة هناك تتقدم على أي شيء آخر، والثاني أنه كان لأردوغان علاقات شخصية وثيقة مع القذافي، والثالث أنه كانت لتركيا حسابات أوروبية ومتوسطية مع فرنسا، فوقفت ضد الموقف الفرنسي الذي ساند منذ اللحظة الأولى المجلس الانتقالي.
وجوبه الموقف التركي باحتجاجات من جانب الثوار الليبيين وانتقادات من دول الخليج العربية وصحفها. لكن الموقـــف التركي ما لبث، تحت وطأة الضغوط العربية والأميـــركية، أن تراجع في اتجاه الانتقال التدريجـــي إلى جانب المجلس الانتقالي، ووجدت أنقرة في قراري مجلس الأمن 1970 و1973 فرصة لتبرير تغيير موقفها، فضلا عن الثمن الذي وعدت به تركيا في مرحلة ما بعد إطاحة الرئيس الليبي معمر القذافي.
وبكبسة زر انتــقلت أنقرة من معارض لتدخل حلف شــمال الأطلــسي وفرنــسا إلى مشاركة في عمليــاته العسكرية. وتقدمت تركيــا الصفوف لتنظيم المعارضـــة الليبية وتنظيم المؤتمرات الدولية الخاصة بليبـــيا، وتـــفوقت حتى على دول الخلــيج النفطية بتقــديم 300 مليون دولار بين هــبات وقــروض لليبــيا في هذه المرحلة.
ولعب داود اوغـــلو لعبته المفضلة بالانتقال السريع إلى بنغـــازي في مطلع تموز، ومرة ثانية بعد سقوط طرابلس بيد الثوار. غير أن صورة تركيا الأكثر ظهـــورا في الأيام الأخيرة كانت في ظهورها، وبلسان داود اوغلو نفسه، بموقع الناطق باسم حلف شمـــال الأطلسي عندما قال إن عمليات الحلف يجـــب أن تستمر حتى النهاية، بعدما كان قد صرّح في مرحلة تأييد القذافي انه لا يمكن أن يشارك في حملة يصفها وزير الداخلية الفرنسي بأنها حرب صليبية.
تركيا اليوم جزء فاعل من عملية تغيير النظام في ليبيا، ولن يعترض أحد على ذلك. لكن الملاحظ أن تركيا لم تعد تحسب حسابا لمدى ترسيخ صورتها الأطلسية التي كانت تحاول في الحالة الأفغانية أن تحاذر من تظهيرها بقوة، حتى لا تثير اعتراض القاعدة الإسلامية في الشارع التركي والعالم الإسلامي.
اليوم إمعان حكومة حزب العدالة والتنمية على الظهور كرأس حربة وناطق باسم الحلف الأطلسي في الحالة الليبية يعكس تقدماً إضافياً في «العمق» الغربي على حساب «العمق» المشرقي الذي بات في ذمة التاريخ.
ولعل ارتفاع الخطاب التركي الرسمي بعد سقوط القذافي، وتشبيه الرئيس السوري بشار الأسد به من جانب اردوغان، ومن ثم قول داود اوغلو إن سقوط القذافي درس للزعماء العرب، أي الأسد، وقول اردوغان لاحقا إن «الذين (الأسد) يسفكون دماء شعبهم سيغرقون فيه» مؤشرات على أن «جرعة المنشطات» الأطلسية التي تناولتها تركيا مؤخرا ستكون الأرضية التي ستحاول استنساخها في الحالة السورية، خصوصا مع بدء التحضير النفسي لذلك عبر دعوة البعض في المعارضة السورية إلى تدخل «الأطلسي» في سورية.
بعد تحرير ليبيا بإرادة «الأطلسي» يخرج داود اوغلو ليقول للمعارضة الليبية «ادخلوا طرابلس كما دخل النبي محمد مكة بالعفو عن المعارضين لكم». لا أحد كان يريد تخليص طرابلس وليبيا من الطغيان بل كلهم جاؤوا ليتقاسموا غنائم البلد. الكل كانوا حلفاء بل شركاء للطاغية الذي أخفى الإمام موسى الصدر وذهب بحجّاجه إلى إسرائيل.
سامي كوهين في «ميللييت» أمس يؤكد التحولات التركية من القضية الليبية في هذا الاتجاه، اتجاه أن تكون من بين الدول المهرولة لتكون لها حصة كبرى من المغانم.
لقد استولى حلف شمال الأطلسي على الثورة الليبية بالكامل بعدما فشل حتى الآن على الأقل بالاستيلاء على ثورتي مصر وتونس. وكان يمكن أن يبقى شيء من اللـــوم على المسؤولين الأتراك، لكن من لم يعد خجلا بصورة تركيا الأطلسية إلى هذا الحد، لن يستغرب منه أن يشوّه تاريخ الرسول العربي والإسلام بهذه الطريقة.
المصدر :
السفير
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة