دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
نجاح قوات الأطلسي في إسقاط نظام العقيد معمر القذافي يفتح الباب أمام استنساخ النموذج الليبي في أكثر من بلد عربي، ولا سيما أن البند الرئيسي في الاستراتيجية الجديدة للحلف هو مدّ نطاق عمله خارج حدوده التقليدية في أوروبا، وبالخصوص نحو الشرق الأوسط والخليج
لن يظل الحدث الليبي محصوراً ضمن حدوده الجغرافية، بل ستكون له امتدادات وتداعيات تذهب إلى عموم المنطقة العربية. فهو ثاني حدث عربي على قدر كبير من الأهمية بعد احتلال العراق. ومن مراقبة ردود الفعل العربية والدولية، يمكن الوصول إلى استنتاج أساسي، وهو أن ما حصل في ليبيا قابل لأن يعمّم على غالبية البلدان العربية، وخصوصاً في الدول التي تشهد حراكاً احتجاجياً واسعاً، أو تعيش أزمة بين الحكم والشارع.
فرح وحزن على مواقع الفايسبوك، بين من أخذتهم النشوة بسقوط حاكم طرابلس، ومن يرى أن المنطقة العربية دخلت عصر التدخلات الخارجية بوتيرة سريعة. وبرز لدى جماهير المعسكرين التركيز الأساسي على الوضع السوري؛ فالفريق الأول يرى أن سقوط القذافي يفتح الطريق أمام سقوط الرئيس السوري بشار الأسد، بينما يجزم أنصار المعسكر الثاني بأن إقدام الأطلسي على تقويض حكم القذافي يؤكد أن الثورات العربية تحولت إلى مطيّة للتدخل الغربي في المنطقة.
يستدعي اختلاط المواقف إلقاء الضوء على رؤية الحلف الاطلسي للمنطقة. والبداية من القمة الأخيرة للحلف التي انعقدت في تشرين الثاني الماضي. ورغم أن رياح الربيع العربي لم تكن قد هبّت بعد من تونس، كان الحلف قد أولى في استراتيجيته للعشرية الجديدة منطقتي الشرق الأوسط والخليج العربي مكانة خاصة. هذا الالتفات إلى الجغرافيا العربية ليس بالجديد، فهو انطلق منذ وصول الرئيس الأميركي السابق جورج بوش إلى الحكم، وسبق غزو العراق إطلاق مشروع المتوسطية الذي مهّد لمشروع الشرق الأوسط الكبير. ومبادرة المتوسطية طرحها وزير الخارجية الأميركي الأسبق الجنرال كولن باول سنة 2002، ورصدت لها الولايات المتحدة في حينه 200 مليون دولار، وحاولت تفعيلها من خلال جملة من الهيئات والتفاهمات السياسية والأمنية والدفاعية بإشراك المجتمع المدني وبعض الدول العربية، مثل المغرب والجزائر وتونس والأردن والبحرين، وانعقدت دورة «منتدى المستقبل» الأولى في المغرب والثانية في البحرين. ولكن المشروع لم يتقدم كثيراً، وتعثّر لأسباب مالية من حيث الشكل، ولكن من الناحية الفعلية لم تكن المنطقة مستعدة لاستقبال هذا الوافد الجديد بسبب الظلال التي خيّمت عليها بعد تفجيرات 11 سبتمبر والحرب على الإرهاب التي أطلقها بوش بعد إسقاط نظام طالبان في أفغانستان، وحاول تعميمها على مستوى العالم ككل، ولكنه اتخذ من الشرق الأوسط ركيزة أساسية، وهذا ما تبلور عام 2004 عبر صيغة «مشروع الشرق الأوسط الكبير» الذي جرى تقديمه بوصفه مبادرة طموحة لتعزيز الديموقراطية ونشرها في الشرق الأوسط الكبير، وذلك بإعادة تكييف وتعديل نموذج اُسْتُعْمِلَ من قبل في الضغط من أجل نشر الحريات في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. وجرى رسم مخطط شامل جرى عرضه على مؤتمرات القمة لكل من مجموعة الدول الثماني الكبرى، ومنظمة حلف شمالي الأطلسي والاتحاد الأوروبي. ووضعت القمم سياقاً في إطار الحصول على التزامات فعلية من الأقطار الشرق أوسطية والشرق آسيوية لتطبيق إصلاحات سياسية واقتصادية واسعة، ومساءلتها عن سجلها في حقوق الإنسان.
بوش رأى أن فترة ما بعد إسقاط «طالبان» في أفغانستان نموذج للتغيير السياسي، وأعرب عن اعتقاده بإمكان تكرار التجربة في دول أخرى بإقامة مؤسسات ديموقراطية. ورأى أن هذه التجربة تمثّل ميراثاً يجب العمل من خلالها لتغيير ما سمّاه عادات العنف والخوف والإحباط التي غرست بذور الإرهاب وأدت إلى نموه في الشرق الأوسط، على حدّ زعمه، وأن من الضروري إقامة المؤسسات الديموقراطية التي تستجيب لتطلعات الشعوب. وعلى الفور انتقل الأمر إلى تنسيق التعاون مع أوروبا، وجرى اعتماد المشروع من طرف مجموعة الثماني والقمة الأميركية الأوروبية وقمة حلف الأطلسي التي انعقدت في حزيران 2004.
مشروع الشرق الأوسط الكبير رأى أن منطقة الشرق الأوسط تقف على مفترق طرق، وأن المطلوب هو السير في طريق الإصلاح، وجرى تحديد هدف المشروع بـ«الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الأمنية ومصالح حلفائها»، وتركز على الدفع باتجاه «إعادة تشكيل» منطقة الشرق الأوسط عبر الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
وصل المشروع إلى طريق مسدود بسرعة، ولم يكتب له النجاح، وجرى طيّه كلياً في ولاية بوش الثانية، وذلك لأسباب عديدة، منها الإخفاق الأمني في أفغانستان، وانطلاق أعمال المقاومة في العراق للاحتلال الأميركي. وتجدر هنا ملاحظة أن واشنطن غيّرت الكثير من أولوياتها انطلاقاً من المفاجآت التي وجدتها في طريقها العراقي. فهي على الأقل كانت تحاول ممارسة ضغوط على النظام في سوريا من أجل حسابات تتعلق بلبنان وفلسطين وإيران، وكان المطلوب من الحكم السوري أن يقدم تنازلات فعلية في هذا الاتجاه، ولكن إدارة بوش، بعدما أيقنت أن وصفة تعميم الديموقراطية غير ممكنة، لجأت إلى القرار 1559 الذي كان يراد منه أن يرسم مساراً لمحاصرة النظام السوري، ولكن انتصار المقاومة في حرب تموز 2006 فكّ الطوق عن دمشق.
إقلاع إدارة بوش عن المشروع لا يعني أنه انتهى أو أنه لا حظوظ له في المطلق، وقد بقي في نظر الكثيرين وصفة مثالية جاهزة لاختراق المنطقة، من باب الإصلاحات الديموقراطية. وغاب عن بال الكثير من الأنظمة أنه تحّول إلى خطة دولية، وبالتحديد إلى مشروع أوروبي أميركي مشترك، ولذا سعى العديد من الزعماء الأوروبيين إلى إلباس سلسلة المبادرات الأميركية رداءً عملياً عن طريق بعض الاقتراحات التنفيذية، وخصوصاً من خلال تفعيل التعاون بين أوروبا والأطلسي على أساس استراتيجية الدفاع المشترك، التي صارت بمقتضاها القوى الأوروبية الأمنية والعسكرية تحت تصرّف الأطلسي، في الوقت الذي بدأ فيه الحلف يحتل مكانة أساسية في مشاريع أوروبا.
من ناحية ثانية، لم يلاحظ منتقدو المشروع فيه أكثر من أنه يرمي إلى تغيير الأنظمة، ولم يدققوا في أنه اعتمد بكثافة على تقرير التنمية البشرية التابع للأمم المتحدة الذي وضعه عدد من المثقفين والخبراء العرب كأساس لتحليل أوضاع الشرق الأوسط، وكمنطلق لتحديد المناهج والحلول.
وفي السياق، ركن الذين هلّلوا للفشل الأميركي في العراق إلى مسألة غياب الاستقرار في هذا البلد، وأخذوا منه سبباً يلغي إمكان تعرّضهم لاستهداف خارجي. وحده الرئيس اليمني علي عبد الله صالح التقط الرسالة، ولخّصها بمثل بدوي يقول «إذا حلقوا شعر أخيك، بلّل شعر رأسك». والقصد هنا هو أن إسقاط صدام حسين يقدم درساً لبقية إخوته الحكام العرب مفاده أن الدور سيصل إليهم، ولكن هؤلاء استراحوا إلى إنجاز الاستقرار الأمني. ورغم أهمية ذلك، بيّنت التطورات الأخيرة في تونس ومصر وسوريا واليمن أن هذا لا يكفي وحده، فليس بالأمن وحده يمكن أن تساس الشعوب وتدار البلدان، وتبقى الذريعة الأساسية التي مهدت لاحتلال العراق هي الحكم الديكتاتوري وغياب الحرية، قبل أن تلفق إدارة بوش كذبة أسلحة الدمار الشامل.
فشل مشروع الشرق الأوسط الكبير في حينه لهذه الأسباب، ولكن السبب الرئيسي لوضعه على الرف هو أنه جرى تقديمه كأجندة خارجية مفروضة بالقوة على بلدان المنطقة. ورغم أن واشنطن حاولت أن تجعل منه هدفاً نبيلاً، فشلت في تسويقه على المستوى الشعبي. والجديد اليوم هو ثلاثة أمور؟ الأول هو أن الأجندة الاحتجاجية الداخلية باتت موجودة من تلقاء نفسها، وهو ما لم يتأخر الأميركيون عن ركوب موجته، منذ أن استوعبوا الصدمة التونسية وتلافوا الوقوع في الأخطاء نفسها حين عالجوا الملف المصري، لذا أخذوا مسافة من حسني مبارك ومن نظامه، وتصرفوا كراع للحل في اليمن، ودخلوا على خط الحركة الاحتجاجية في سوريا، إلى حدّ أنهم سبقوا الأطراف الدولية كافة بالدعوة إلى تنحّي الرئيس السوري. ومهما كان الموقف، وعلى اختلاف المبررات والدوافع، فقد توافرت الأرضية والعناصر لتقاطع الأجندتين الداخلية والخارجية عند نقطة تغيير الحكام. والأمر الثاني هو أن التدخلات العسكرية لم تعد بحاجة إلى تغطية من الأمم المتحدة، ولا تلقى أي اعتراضات دولية مؤثرة. والانقسام الذي شهده العالم حيال الغزو الأميركي للعراق لن يتكرر مرة أخرى، ولذا يقدم النموذج الليبي مثالاً صارخاً على ما ينتظر المنطقة، إذا استمرت حال الاستعصاء الراهنة بين شارع يريد إسقاط النظام وأنظمة تتلكّأ في إجراء إصلاحات جذرية ولا تقدم لشعوبها سوى الحلول الأمنية.
أما الأمر الثالث فهو أن الحلف الأطلسي بات الأداة الغربية للتدخلات الخارجية، ولم تعد الولايات المتحدة وأوروبا بحاجة إلى إرسال قواتهما مباشرة من أجل مهمات قتالية خارج أوروبا.
المصدر :
الاخبار/بشير البكر
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة