في الطريق إلى قاعة التشاور حول الحوار الوطني، التي بناها الاتحاد العمالي العام، ذات يوم مضى، كانت الصور والشعارات التي تؤكد التوحد المطلق بين القائد والحزب والدولة والوطن، تبدو وكأنها تنتمي إلى عصر مضى ولا مجال لأن يمتد أكثر او لان يجدد نفسه بنفسه بغير شريك.

أما في القاعة الفسيحة التي اتسعت لحوالى المئتين ممن اعتبروا مؤهلين لإعطاء المشورة تمهيداً للحوار العتيد حول المخرج من الأزمة الحادة التي تتهدد «دولة الممانعة والمقاومة» في وحدتها وليس في منعتها فحسب، فقد كان خطاب نائب رئيس الجمهورية ـ عضو القيادة القطرية ـ المكلف بالاشراف والاعداد لمؤتمر الحوار الوطني أكثر صراحة وتحديداً للمخاطر التي تتهدد البلاد من معظم المدعوين، باستثناء أصوات قليلة رأى اصحابها ان الوضع اخطر من ان يتحمل المجاملة او المداراة او القول بأنصاف الحلول.

فالمؤتمر، بمعنى ما، شهادة رسمية على حراجة اللحظة التي يمر بها النظام الذي كان يظهر اطمئناناً إلى قوته الداخلية بفضل سياساته الخارجية بأكثر مما يجوز، وكان يتصرف وكأنه يختلف عن الأنظمة العربية الاخرى التي هبت عليها انتفاضات الاحتجاج والرفض حتى أسقطتها، ويتباهى بأنه يتمتع بشعبية واسعة تحصنه وتمكنه من لعب دور استثنائي كمركز الدائرة في منطقة قد تكون الأكثر اهمية استراتيجية في العالم كله.

جاءت لحظة الحقيقة، اذن، ولا بد من الاعتراف بأن هذا النظام، بصيغته الحاضرة، لم يعد مؤهلاً للحياة، وان عليه ان يسبق إلى تغيير ما تحجر في ركائز وجوده وآليات عمله وإلا جرفه الاعتراض على التناقض بين الشعار والممارسة، خصوصاً وقد فضحت موجة التظاهرات الغاضبة ان النظام بات مكشوفاً تماماً، إذ سقط «الحزب» ومؤسساته السياسية والنقابية منذ اليوم الأول، ولم يتبق له إلا «الأمن» بفروعه العديدة جداً جداً، والتي ثبت انها اضعف بما لا يقاس من التوقع، فصار لزاماً اللجوء إلى القلعة الأخيرة: الجيش.

لم تنفع محاولات الالتفاف على المعارضة ببعض القرارات الواعدة بالاصلاح، اذن فليكن المؤتمر مدخلاً له تسمية «اللقاء التشاوري» الممهد لإطلاق الحوار الوطني بعد السعي لاقناع المعارضين الغائبين او المغيّبي أنفسهم في الداخل او في الخارج، بالجدية في البحث عن مخارج تؤمن استنقاذ سوريا مما يتهددها من مخاطر مصيرية .هل تأخر الوقت بأكثر مما يجب فتجاوزت حالة القلق على المصير في حراجتها أسباب العلاج الناجع الذي لا بد ان يشارك فيه اولئك الذين تدرجوا في المعارضة من المطالبة بالاصلاح إلى رفع شعار «إرحل» بعدما سالت الدماء غزيرة في شوارع المدن وساحات القصبات والدساكر على «ايدي العصابات المسلحة» المجهولة باقي الهوية، بحيث لم يعرف لها نسب او تابعية معينة.. وبغض النظر عن ان جهات عديدة قد تبنتها او احتضنتها ولو كاستثمار مجزٍ في مواجهة نقاط الصح في سياسات النظام، تاركة له مهمة التنصل من الممارسات الخاطئة إلى حد التسبب في تدمير البلاد ودولتها جميعاً؟!

يحاول الطيب تيزيني تعويض غياب المعارضين فيرفع صوته عالياً بأقوى مما يقولونه في «مغترباتهم» بحيث تبدو هشة كلمات اولئك الذين جيء بهم من ابناء النظام ليظهروا استعدادهم لتغيير ما بين ايديهم، والذين ظلوا بعيدين جداً عما طرحه نائب رئيس الجمهورية، فاروق الشرع، في خطابه الافتتاحي وقد حاول تضمينه كل ما قبله النظام من تعديلات على هيكله الاحادي العتيق بحيث «تغدو الدولة تعددية وديموقراطية يحظى فيها جميع المواطنين بالمساواة ويشاركون في صناعة مستقبل بلدهم».

بقطع النظر عن النتائج فقد نجح المؤتمر في تقديم المجتمع السوري في صورته الطبيعية: متعدد في المعتقدات الدينية والتوجهات السياسية والعناصر التكوينية، وان حرص الجميع على التأكيد انهم تحت سقف الدولة العربية الهوية والدور.

يبقى السؤال الاهم: هل تأخر الحوار عن موعده؟! هل سيسمع المعارضون الذين ربطوا مشاركتهم بوقف مواجهة التظاهرات بالقمع الدموي، (هذا إذا ما استثنينا من يقولون بإسقاط النظام مهما قدّم من تنازلات)؟!

لقد ظل الشك يحوم فوق القاعة التي دوّت فيها مواقف وكلمات كانت تأخذ في ما مضى إلى المعتقلات بغير سؤال.

سقطت حواجز كثيرة كانت تفرض على المواطن معادلة ظالمة: الصمت طلبا للرضا والامان، او الجهر بالرأي مع الاستعداد لدفع ثمن باهظ قد لا يستطيع تحمله قائله.

كان عدد الكتبة والفريسيين مرتفعاً، وهم قد بدلوا في ملامحهم كما في خطابهم، ربما لافتراضهم ان هذه «الندوة» قد تنفع في امتصاص بعض الغضب العارم الذي يكاد يملأ الشوارع بسبب التأخر في إنجاز الوعود بالاصلاح... ولعل هذا الوجود كان يزيد من نسبة الشك في جدية التعهد بالتغيير من داخل. لكن من الصعب تخيل ان يعلن النظام براءته من هؤلاء او استبعادهم طالما ان المعارضين قد اندفعوا إلى حد المطالبة بإسقاطه من عواصم قريبة او بعيدة، بغير ان يتنبهوا إلى خطورة اتهامهم بأنهم ينطقون بمصالح الاجنبي، حتى لو كانت طروحاتهم جدية في طلب الاصلاح.

لقد نشأ السوريون وفي وعيهم استرابة جدية ودائمة في «مخططات الاجنبي»... ولهم في تاريخهم الوطني ما يؤكد مشروعية هذه الاسترابة التي كثيرا ما تحققت عبر فرض الحصار السياسي والاقتصادي على بلادهم، او عبر التشويش على علاقاتهم الحتمية باخوانهم ـ جيرانهم من حولهم: العراق قبل الاحتلال الاميركي المباشر وبعده على وجه الخصوص، والاردن دائماً، ولبنان في كل المحطات التي لم يكن لسوريا فيه حق القرار، منفردة، او بالاشتراك مع اقوى الاعداء ـ الحلفاء بالاضطرار في لحظات معينة.

على ان الخطاب الرسمي السوري، الذي يحمل دمغة حزب البعث، قد استهلك بعض حماستهم وبعض استرابتهم في الاجنبي الذي استخدمه في احيان كثيرة كفزاعة، وصار الاتهام بالعمالة للخارج شائعا لدرجة الابتذال، يطلقه من في السلطة ضد أي معارض او معترض ولو على بيروقراطية الادارة، او على المنع التعسفي لسفر مريض لا يتوفر علاجه في الداخل، او على الشك في ولاء مثقف او صاحب رأي عملاً بقاعدة: سوء الظن من حسن الفطن...

ربما لهذا كله يمكن اعتبار اللقاء التشاوري خطوة مهمة على طريق طويلة، في حين ان الفاصل الزمني بين الجمعة والجمعة قصير ومهدد برصاص الاغتيال.

وبالتالي لا بد من تسريع الخطوات قبل ان يصيب ذلك الرصاص مشروع النظام للاصلاح بينما المعارضة اعجز من ان تكون الوريث المؤهل لقيادة المرحلة الانتقالية، في ظل انشقاق خطير في الشارع لا تنفع في علاجه تطمينات الخارج او الهتافات الانفعالية التي قد تتجاوز في خطورتها التدميرية رصاص القتل العشوائي.

وآن ان يسرّع النظام خطواته الاصلاحية التي سلّم بضرورتها، والذي جاء «التشاور» ليرسم اطارها العام... في انتطار ان تجيء المعارضة، بألوانها جميعاً، لتشارك في تحديد ملامح العهد الجديد.

 

 

  • فريق ماسة
  • 2011-07-10
  • 11691
  • من الأرشيف

أحد الإصلاح يسابق جمعة التغيير..

  في الطريق إلى قاعة التشاور حول الحوار الوطني، التي بناها الاتحاد العمالي العام، ذات يوم مضى، كانت الصور والشعارات التي تؤكد التوحد المطلق بين القائد والحزب والدولة والوطن، تبدو وكأنها تنتمي إلى عصر مضى ولا مجال لأن يمتد أكثر او لان يجدد نفسه بنفسه بغير شريك. أما في القاعة الفسيحة التي اتسعت لحوالى المئتين ممن اعتبروا مؤهلين لإعطاء المشورة تمهيداً للحوار العتيد حول المخرج من الأزمة الحادة التي تتهدد «دولة الممانعة والمقاومة» في وحدتها وليس في منعتها فحسب، فقد كان خطاب نائب رئيس الجمهورية ـ عضو القيادة القطرية ـ المكلف بالاشراف والاعداد لمؤتمر الحوار الوطني أكثر صراحة وتحديداً للمخاطر التي تتهدد البلاد من معظم المدعوين، باستثناء أصوات قليلة رأى اصحابها ان الوضع اخطر من ان يتحمل المجاملة او المداراة او القول بأنصاف الحلول. فالمؤتمر، بمعنى ما، شهادة رسمية على حراجة اللحظة التي يمر بها النظام الذي كان يظهر اطمئناناً إلى قوته الداخلية بفضل سياساته الخارجية بأكثر مما يجوز، وكان يتصرف وكأنه يختلف عن الأنظمة العربية الاخرى التي هبت عليها انتفاضات الاحتجاج والرفض حتى أسقطتها، ويتباهى بأنه يتمتع بشعبية واسعة تحصنه وتمكنه من لعب دور استثنائي كمركز الدائرة في منطقة قد تكون الأكثر اهمية استراتيجية في العالم كله. جاءت لحظة الحقيقة، اذن، ولا بد من الاعتراف بأن هذا النظام، بصيغته الحاضرة، لم يعد مؤهلاً للحياة، وان عليه ان يسبق إلى تغيير ما تحجر في ركائز وجوده وآليات عمله وإلا جرفه الاعتراض على التناقض بين الشعار والممارسة، خصوصاً وقد فضحت موجة التظاهرات الغاضبة ان النظام بات مكشوفاً تماماً، إذ سقط «الحزب» ومؤسساته السياسية والنقابية منذ اليوم الأول، ولم يتبق له إلا «الأمن» بفروعه العديدة جداً جداً، والتي ثبت انها اضعف بما لا يقاس من التوقع، فصار لزاماً اللجوء إلى القلعة الأخيرة: الجيش. لم تنفع محاولات الالتفاف على المعارضة ببعض القرارات الواعدة بالاصلاح، اذن فليكن المؤتمر مدخلاً له تسمية «اللقاء التشاوري» الممهد لإطلاق الحوار الوطني بعد السعي لاقناع المعارضين الغائبين او المغيّبي أنفسهم في الداخل او في الخارج، بالجدية في البحث عن مخارج تؤمن استنقاذ سوريا مما يتهددها من مخاطر مصيرية .هل تأخر الوقت بأكثر مما يجب فتجاوزت حالة القلق على المصير في حراجتها أسباب العلاج الناجع الذي لا بد ان يشارك فيه اولئك الذين تدرجوا في المعارضة من المطالبة بالاصلاح إلى رفع شعار «إرحل» بعدما سالت الدماء غزيرة في شوارع المدن وساحات القصبات والدساكر على «ايدي العصابات المسلحة» المجهولة باقي الهوية، بحيث لم يعرف لها نسب او تابعية معينة.. وبغض النظر عن ان جهات عديدة قد تبنتها او احتضنتها ولو كاستثمار مجزٍ في مواجهة نقاط الصح في سياسات النظام، تاركة له مهمة التنصل من الممارسات الخاطئة إلى حد التسبب في تدمير البلاد ودولتها جميعاً؟! يحاول الطيب تيزيني تعويض غياب المعارضين فيرفع صوته عالياً بأقوى مما يقولونه في «مغترباتهم» بحيث تبدو هشة كلمات اولئك الذين جيء بهم من ابناء النظام ليظهروا استعدادهم لتغيير ما بين ايديهم، والذين ظلوا بعيدين جداً عما طرحه نائب رئيس الجمهورية، فاروق الشرع، في خطابه الافتتاحي وقد حاول تضمينه كل ما قبله النظام من تعديلات على هيكله الاحادي العتيق بحيث «تغدو الدولة تعددية وديموقراطية يحظى فيها جميع المواطنين بالمساواة ويشاركون في صناعة مستقبل بلدهم». بقطع النظر عن النتائج فقد نجح المؤتمر في تقديم المجتمع السوري في صورته الطبيعية: متعدد في المعتقدات الدينية والتوجهات السياسية والعناصر التكوينية، وان حرص الجميع على التأكيد انهم تحت سقف الدولة العربية الهوية والدور. يبقى السؤال الاهم: هل تأخر الحوار عن موعده؟! هل سيسمع المعارضون الذين ربطوا مشاركتهم بوقف مواجهة التظاهرات بالقمع الدموي، (هذا إذا ما استثنينا من يقولون بإسقاط النظام مهما قدّم من تنازلات)؟! لقد ظل الشك يحوم فوق القاعة التي دوّت فيها مواقف وكلمات كانت تأخذ في ما مضى إلى المعتقلات بغير سؤال. سقطت حواجز كثيرة كانت تفرض على المواطن معادلة ظالمة: الصمت طلبا للرضا والامان، او الجهر بالرأي مع الاستعداد لدفع ثمن باهظ قد لا يستطيع تحمله قائله. كان عدد الكتبة والفريسيين مرتفعاً، وهم قد بدلوا في ملامحهم كما في خطابهم، ربما لافتراضهم ان هذه «الندوة» قد تنفع في امتصاص بعض الغضب العارم الذي يكاد يملأ الشوارع بسبب التأخر في إنجاز الوعود بالاصلاح... ولعل هذا الوجود كان يزيد من نسبة الشك في جدية التعهد بالتغيير من داخل. لكن من الصعب تخيل ان يعلن النظام براءته من هؤلاء او استبعادهم طالما ان المعارضين قد اندفعوا إلى حد المطالبة بإسقاطه من عواصم قريبة او بعيدة، بغير ان يتنبهوا إلى خطورة اتهامهم بأنهم ينطقون بمصالح الاجنبي، حتى لو كانت طروحاتهم جدية في طلب الاصلاح. لقد نشأ السوريون وفي وعيهم استرابة جدية ودائمة في «مخططات الاجنبي»... ولهم في تاريخهم الوطني ما يؤكد مشروعية هذه الاسترابة التي كثيرا ما تحققت عبر فرض الحصار السياسي والاقتصادي على بلادهم، او عبر التشويش على علاقاتهم الحتمية باخوانهم ـ جيرانهم من حولهم: العراق قبل الاحتلال الاميركي المباشر وبعده على وجه الخصوص، والاردن دائماً، ولبنان في كل المحطات التي لم يكن لسوريا فيه حق القرار، منفردة، او بالاشتراك مع اقوى الاعداء ـ الحلفاء بالاضطرار في لحظات معينة. على ان الخطاب الرسمي السوري، الذي يحمل دمغة حزب البعث، قد استهلك بعض حماستهم وبعض استرابتهم في الاجنبي الذي استخدمه في احيان كثيرة كفزاعة، وصار الاتهام بالعمالة للخارج شائعا لدرجة الابتذال، يطلقه من في السلطة ضد أي معارض او معترض ولو على بيروقراطية الادارة، او على المنع التعسفي لسفر مريض لا يتوفر علاجه في الداخل، او على الشك في ولاء مثقف او صاحب رأي عملاً بقاعدة: سوء الظن من حسن الفطن... ربما لهذا كله يمكن اعتبار اللقاء التشاوري خطوة مهمة على طريق طويلة، في حين ان الفاصل الزمني بين الجمعة والجمعة قصير ومهدد برصاص الاغتيال. وبالتالي لا بد من تسريع الخطوات قبل ان يصيب ذلك الرصاص مشروع النظام للاصلاح بينما المعارضة اعجز من ان تكون الوريث المؤهل لقيادة المرحلة الانتقالية، في ظل انشقاق خطير في الشارع لا تنفع في علاجه تطمينات الخارج او الهتافات الانفعالية التي قد تتجاوز في خطورتها التدميرية رصاص القتل العشوائي. وآن ان يسرّع النظام خطواته الاصلاحية التي سلّم بضرورتها، والذي جاء «التشاور» ليرسم اطارها العام... في انتطار ان تجيء المعارضة، بألوانها جميعاً، لتشارك في تحديد ملامح العهد الجديد.    

المصدر : طلال سلمان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة