دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
يبدو أن الدبلوماسيّة الفرنسيّة تعيش مأزقاً سياسيّاً متعدّد الجوانب في ما يخصّ الأزمة السوريّة، ولا سيما بعد الانغماس الذي تعيشه في الحملة على ليبيا. مأزق يعبّر عنه على نحو خاص وزير الخارجية ألان جوبيه، الذي يبرّر مواقفه من الأزمة السورية «بعدم الكيل بمكيالين».
خلال المؤتمر الصحافي، الذي عقده في ختام اجتماع المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية في لوكسمبورغ الاثنين الماضي، فسّر وزير الخارجية الفرنسي، ألان جوبيه، التصريحات النارية التي أطلقها بحق الرئيس السوري بشار الأسد ووصفه بأنه «فاقد للشرعية» و«لا يمكن أخذه على محمل الجد»، بقوله: «إن فرنسا حريصة على ألا تظهر بصورة من يكيل بمكيالين. لذا، أردتُ التعبير عن موقف شديد الوضوح والصلابة بخصوص سورية».
ولا شك أن ما أشار إليه جوبيه بخصوص الحرص الفرنسي على «عدم الكيل بمكيالين»، يعكس جانباً من المأزق السياسي الذي تواجهه الدبلوماسية الفرنسية منذ بداية العهد الساركوزي. ففي الوقت الذي تتزعم فيه فرنسا التحالف الغربي الذي يقود الحرب على كتائب العقيد القذافي في ليبيا، يصعب على خبراء الـ«كي دورسيه» (مقر الخارجية الفرنسية على الضفة اليسرى للسين)، التعبير عن أي وجهة نظر دبلوماسية مغايرة في مقاربة الانتفاضات الشعبية التي تشهدها دول عربية أخرى، ومنها سوريا.
ويضرب مصدر دبلوماسي فرنسي، تحدّثت إليه «الأخبار»، كمثال على ذلك، برقية دبلوماسية حرّرها، أواخر نيسان الماضي، السفير الفرنسي في دمشق إيريك شوفالييه، ويقول إنها أثارت جدلاً حاداً في كواليس الخارجية وصلت أصداؤه لاحقاً إلى أروقة قصر «الإليزيه»، لتفجر إحدى «نوبات الغضب المدوية» التي يشتهر بها الرئيس ساركوزي. وكان السفير إيريك شوفاليه، الذي يعدّ أحد أكثر كوادر الخارجية الفرنسية دراية بشؤون الشرق الأوسط، قد كتب في البرقية أنه «يجب منح فسحة من الوقت للرئيس السوري بشار الأسد (...) ولا يجب استبعاد أن تكون هناك أطراف خارجية تعمل بالفعل على تغذية الاحتجاجات والتظاهرات».
ويضيف المصدر الدبلوماسي ذاته: «بالطبع، مثل هذا التحليل لا يعكس الموقف الرسمي للدبلوماسية الفرنسية، ولا يلزم وزارة الخارجية في شيء. فهو مجرد مصدر معلومات، ضمن مصادر متعددة تعتمد عليها الوزارة لبلورة تحليلاتها ومواقفها الرسمية. ولكن، بدل مناقشة تلك البرقية على الصعيد الداخلي في اجتماعات الوزارة، جرى تسريب معلومات متحاملة إلى الصحف، لشن حملة على السفير إيريك شوفالييه وصفته بأنه «أصبح «بشّارياً» حتى النخاع».
أما الغضبة الساركوزية ضد السفير شوفالييه، فقد فسّرتها الصحف الفرنسية، بمعلومات من مستشاري الرئيس الدبلوماسيين، مفادها أن السفير الفرنسي التقى في إقامته رجل الأعمال المقرب من الرئيس السوري، رامي مخلوف. الشيء الذي عدّ «هفوة دبلوماسية». وعكست الغضبة الساركوزية تخوفاً من أن تتكرر في الحالة السورية فضائح مشابهة لتلك التي حدثت خلال الثورات التونسية والمصرية، حين تبيّن أن وزيرة الخارجيّة الفرنسية، آنذاك، ميشال أليو ماري، أقامت في ضيافة رجل أعمال مقرب من الرئيس بن علي، في عزّ الانتفاضة الشعبية التونسية، بينما قضى رئيس الحكومة، فرنسوا فيون، أعياد رأس السنة في «الأقصر»، على حساب نظام الرئيس مبارك، قبيل أسابيع قليلة من إطاحته.
لكن المصدر الدبلوماسي، الذي تحدثت إليه «الأخبار»، لفت إلى أن «هناك بالفعل مشكلة أخلاقية حين يقضي وزير أو سفير إجازته الشخصية على حساب رئيس دولة أخرى، ولو كانت دولة حليفة، أو حين ترتبط شخصية سياسية بارزة بعلاقات تجارية مع رجال أعمال مرتبطين بأنظمة غير ديموقراطية. ولكن، لا وجه للمقارنة بين ذلك وبين أن يستقبل سفير فرنسي، ضمن نشاطاته الرسمية، مختلف الشخصيات العامة، بمن فيها الأكثر إثارة للجدل، لسماع مختلف وجهات النظر، وتكوين رؤية شاملة للأوضاع».
ويخلص المصدر الدبلوماسي إلى القول: «هذه الهجمة التي تعرض لها السفير الفرنسي في دمشق تعكس «رياحاً مكارثية قوية» تعصف بالدبلوماسية الفرنسية منذ أشهر، وبالذات منذ تفجر ثورات «الربيع العربي». ولعل هذه «النزعة المكارثية»، التي أطبقت على الدبلوماسية الفرنسية، منذ وصول الرئيس ساركوزي إلى الحكم، هي التي دفعت بعدد من أبرز كوادر الخارجية الفرنسية لتكوين ائتلاف سمّي «جماعة مارلي» Groupe Marly أصدر بياناً مدوياً، في 22 شباط الماضي، ضد «دبلوماسية المظاهر والفقاعات الإعلامية» التي ينتهجها الرئيس ساركوزي.
وقد لقي ذلك البيان صدى متزايداً، وبالأخص منذ أن زج عرّاب «الفلاسفة الجدد» الفرنسيين، برنار هنري ليفي، بالرئاسة الفرنسية نحو تزعم الحملة العسكرية على نظام العقيد القذافي في ليبيا، بالرغم من تحفظات غالبية الكوادر الدبلوماسية الفرنسية، بمن فيهم وزير الخارجية ألان جوبيه، الذي لم يكن على علم مسبق بمبادرة الرئيس ساركوزي باستقبال ممثلي «المجلس الوطني الانتقالي» الليبي في قصر الإليزيه، في حضور برنار هنري ليفي، ما دفع الصحف الفرنسية الى التساؤل: من هو وزير الخارجية الفعلي: جوبيه أم ليفي؟
حيال تفاقم هذه «النزعة المكارثية»، التي لا تفسح المجال لأي صوت دبلوماسي يحمل نبرة مغايرة أو مقاربة مخالفة لـ«الهوى الساركوزي»، عمدت «جماعة مارلي» الى إصدار بيان ثان، نُشر أمس في صفحات الرأي بجريدة «لوموند»، تحت عنوان: «الدبلوماسية الفرنسية أصبحت مجرد قصر رملي». وقد حمل هذا البيان الثاني بشدة على ما تتسم به الدبلوماسية الساركوزية من تخبط، في غياب أي «رؤية استراتيجية متماسكة». وفي مرافعة مدوية ضد «دبلوماسية المظاهر والتصريحات الفاقعة»، كتب ائتلاف الدبلوماسيين الفرنسيين: «على شواطئ «دوفيل» التي احتضنت قمة G8، وعلى «الكروازيت» التي ستستقبلG20، من السهل تمثيل لعبة مسرحية لإيهام الناس بأن فرنسا تمتلك الإمكانات الفعلية لتجسيد الطموحات الدبلوماسية التي تعلن عنها (...) لكن بمجرد الولوج إلى الكواليس تتبخر الأوهام، ليتضح أن الدبلوماسية الفرنسية مجرد قصر رملي يشارف على الانهيار».
وخلص البيان إلى القول: «إن دبلوماسية الأزمات والخبطات الإعلامية هي التي تحتل الصدارة. ولكن، بخلاف دبلوماسية قاعات الاستقبال المزدهرة، فإن الدبلوماسية المؤثرة ودبلوماسية التعاون تعانيان بشدة. وإن فرنسا الآن بصدد خسارة معركة «القوة (الدبلوماسية) الناعمة»، التي لا يمكن أن تُكسب سوى على أرض الواقع، وعلى المدى الطويل...»
ولم يفوّت البيان فرصة التذكير بأن وزير الخارجية الحالي، ألان جوبيه، كتب بالاشتراك مع خلفه في الخارجية، الوزير الاشتراكي الأسبق هوبير فيدرين، مقالة في «لوموند»، في حزيران 2010، انتقدا فيها هيمنة مستشاري الرئاسة على الخارجية الفرنسية، في عهد برنار كوشنير، حيث كتبا آنذاك: «إن الآلية الدبلوماسية (الفرنسية) تقترب من الانكسار».
وبالرغم من أن جوبيه اشترط عند توليه وزارة الخارجية، في نهاية شباط الماضي، إبعاد كلود غيون، الذي كان يهيمن على الملفات الدبلوماسية في عهد كوشنير، من منصب الأمين العام لقصر الرئاسة، إلا أن ذلك لم يضع حداً لسيطرة مستشاري الرئيس على «الآلية الدبلوماسية»، كما اتضح ذلك من خلال الجدل الذي أثاره تعيين أحد هؤلاء المستشارين (بوريس بوالون) سفيراً في تونس، والأزمة التي أثارها تدخل برنار هنري ليفي في توجيه الموقف الفرنسي حيال الأزمة الليبية.
وجاءت الأحداث في سورية لتسلط الضوء بوضوح أكثر على المأزق الذي يواجهه الوزير جوبيه. فهو يعرف أفضل من غيره، بحكم كونه أحد أبرز أقطاب التيار الديغولي، الدور الفاعل والمؤثر الذي يمكن أن تقوم به «القوة الناعمة» للدبلوماسية الفرنسية في المشرق العربي، وفي سورية تحديداً. لكنه بدلاً من ذلك، انساق ـــــ على غرار سلفه كوشنير ـــــ نحو «دبلوماسية التصريحات الفاقعة والخبطات الإعلامية».
وما من شك بأن الوزير جوبيه أدرك حين وصف الرئيس السوري بأنه «فاقد للشرعية» و«لا يمكن أخذه على مأخذ الجد، لأنه لا يلتزم بما يعلن»، أن مثل هذه التصريحات تغلق الباب أمام أي دور فاعل أو وساطة يمكن أن تضطلع بها بلاده في الأزمة السورية. وبذلك عمد جوبيه الى تعطيل «الآلية الدبلوماسية الفرنسية»، التي حذّر أمس من مخاطر انكسارها. هذا التحوّل في مسار ومواقف الرجل الذي كان الرئيس شيراك يصفه على الدوام بأنه «الأفضل من بين رموز التيار الديغولي»، رأى فيه بعض المحللين انخراطاً غير معلن في «المنطق الساركوزي». بينما رأى آخرون أنه يعكس المأزق الأخلاقي الذي تواجهه الدبلوماسية الفرنسية، بحكم تزعم فرنسا للحملة العسكرية على ليبيا، إذ إن أي محاولة للقيام بدور دبلوماسي معتدل في أي دولة عربية أخرى تواجه انتفاضة شعبية، سواء تعلق الأمر بسورية أو غيرها، تظهرها في صورة من «يكيل بمكيالين»، على حد تعبير جوبيه نفسه في اجتماع لوكسمبورغ الأخير.
والمفارقة أن السياسة الساركوزية تجاه سورية لم تكن تتسم بأي عدائية على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. ولا شك أن الموقف من سورية سيكون مغايراً، لو لم تنجرّ فرنسا إلى تزعم التدخل العسكري في ليبيا. فحين تولى الرئيس ساركوزي الحكم، في ربيع عام 2007، كان خلفه جاك شيراك قد قطع أي حوار مع سورية منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وقد انتقد أقطاب الساركوزية، آنذاك، طابع «الشخصنة» الذي اتّسمت به مواقف الرئيس شيراك من سورية، بحكم صلات الصداقة الوثيقة التي كانت تربط الرئيس الفرنسي السابق برئيس الحكومة اللبناني المغتال.
ولم يفوّت الإعلام الفرنسي الموالي لـ«الساركوزية» الفرصة لانتقاد سابقة انتقال الرئيس شيراك، في نهاية عهده، من قصر الإليزيه للسكن في شقة تمتلكها أسرة الحريري على الضفة اليسرى لنهر السين. الشيء الذي عدّ مخالفاً للأعراف السياسية الفرنسية ولا يليق برئيس جمهورية سابق. لكن، سرعان ما تبين أن تلك الانتقادات كانت تمهد الأرضية لنقلة جذرية في الموقف الفرنسي تجاه سورية. فأولى مفاجآت «دبلوماسية الصدمة»، التي خطط لها الرئيس ساركوزي ووزير خارجيته كوشنير، تمثلت في توجيه الدعوة إلى الرئيس بشار الأسد لحضور احتفالات العيد الوطني الفرنسي، في 14 تموز 2008.
مثّلت تلك الخطوة الرمزية تحولاً جذرياً في السياسة الفرنسية تجاه سورية، حيث جرى الانتقال من الموقف العدائي الذي طبع العامين الأخيرين من عهد الرئيس شيراك إلى سياسة «الحوار واليد الممدودة»، التي فاخر مستشاروا الرئيس ساركوزي (كلود غيون، هنري غينو...) بأن أدّت دوراً فاعلاً في حلحلة الأزمة اللبنانية، وتعيين الرئيس ميشال سليمان.
وعلى الرغم من التحفظات والانتقادات الأميركية لسياسة اليد الممدود الفرنسية تجاه سورية، كما كشفت عن ذلك وثائق «ويكيليكس»، إلا أن هذا المنهج الدبلوماسي استمر إلى غاية أسابيع قليلة قبل اندلاع الثورات العربية، حيث زار الرئيس السوري باريس في منتصف كانون الأول 2010، واستُقبل بحفاوة في قصر الإليزيه، حيث أشاد ساركوزي بـ«التعاون المثمر بين فرنسا وسورية بخصوص مختلف الملفات والقضايا الشرق ـــــ أوسطية».
لكن الثورات العربية مرت من هنا.
المصدر :
الأخبار اللبنانية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة