يدفع الاعتراف الأميركي الوقح بـ «إسرائيلية» القدس والجولان السوري «المحتلين» إلى فتح ملف القانون الدولي… هل لا يزال معمولاً به؟ أم أنّ تغييراً عميقاً في موازنات القوى العالمية، استجدّ من دون أن تلمحه القوى الأساسية، ما يدفع كالعادة إلى بناء آليات قانونية جديدة تكون عادة لمصلحة صاحب القوة الأكبر.

 

لا بدّ في المنطلق من الإشارة إلى أنّ القانون الدولي الحالي هو نتاج حروب أوروبية داخلية مدمّرة أدّت إلى القرن 17 إلى إقرار معاهدة وستفاليا التي نصت وللمرة الأولى في التاريخ على تعيين الحدود السياسية بين الدول بشكل دقيق واحترامها الكامل.

 

 

كما أدّت الحروب الأوروبية والعالمية بين القرنين التاسع عشر والعشرين إلى بناء منظمة عصبة الأمم التي ورثتها منظمة الأمم المتحدة، على قاعدة انتصار المحور الفرنسي ـ البريطاني ولاحقاً الأميركي على اليابان وألمانيا، كانت روسيا من المنتصرين لكنها لم تشارك في الهيمنة الاستعمارية الأوروبية على العالم، لأيديولوجيتها الشيوعية التي ترفض سياسات الهيمنة الغربية.

 

وبدأ منذ ذلك التاريخ استعمال القانون الدولي آلية أساسية لفضّ النزاعات المختلفة بين الدول بما فيها الخلافات الحدودية، على قاعدة أنّ أيّ انتهاك للحدود هو مخالفة صريحة للقانون الدولي.

 

إنما ما يجب الإقرار به هو أنّ احترام آليات القانون الدولي إنما نتجت من عاملين: القبول الدولي بالأمم المتحدة كمؤسسة توافقية بين القوى الكبرى من جهة أو موازنات القوى الدقيقة بين الغرب الأميركي ـ الأوروبي والاتحاد السوفياتي والصين من جهة أخرى، لذلك اتسمت مرحلة ما بين الخمسينيات والتسعينيات من القرن الماضي بالقليل من الانتهاكات الكبرى الواضحة، باستثناء التطور الحربي للكيان الإسرائيلي الذي ابتدأ عدوانه قبل تأسيس دولة فلسطين، والاتهام الأميركي الأوروبي لفيتنام الشمالية بالاعتداء على فيتنام الجنوبية.. إلا أنّ باقي المناطق شهدت تعاملات هامة بمفاهيم القانون الدولي، مع الإقرار بأنّ الدول الكبرى لم تكن تطبّقه إلا على الدول الضعيفة.

 

أليس هذا ما فعلته رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر عندما استعاد الأرجنتينيون جزراً لهم قبالة سواحلهم كان يحتلها الانكليز… وفوراً أمرت تاتشر أسطولها الحربي باستعادة الجزر.. فطلبت منها القوى الدولية انتظار الأمم المتحدة وقانونها الدولي.. فأجابتهم ساخرة: «نحن اخترعنا القانون لتطبيقه على دول العالم الثالث. أما قانوننا فهو بوارجنا».

 

فهل هناك من جديد حربي أم سياسي أم اقتصادي على مستوى التوازنات الإقليمية والدولية، سمح للإدارة الأميركية بالاعتراف بـ «إسرائيلية» القدس والجولان من دون أن تخشى من أية ردود فعل محتملة؟ فهاتين المنطقتين هما بموجب القانون الدولي واستناداً إلى قرارين صدرا في 1967 و1981 أراضٍ عربية محتلة، القدس كانت آنذاك تحت السيادة الأردنية، فيما الجولان سوري دائماً. للتنبيه فإنّ السياسة الأميركية ومنذ مطلع الستينيات في القرن العشرين أصبحت تعتبر «إسرائيل» أهمّ ولاية إسرائيلية. فتزوّدُها بالمال والسلاح والحماية… حتى أكثر من الدول المؤسسة لـ «إسرائيل» كحال بريطانيا وفرنسا. لكن الإدارة الأميركية استمرّت بالمحافظة على خيوط تربطها بعرب الخليج ومصر كانت تحول دون توغلها في محاولات الإلغاء الكامل للقضية الفلسطينية أو الاقتراب من مسائل القدس والجولان.

 

فماذا حدث حتى انقضّت الإدارة الأميركية على اراضٍ سورية عربية لا تنتمي إلى دائرة فلسطين المحتلة.. وسلبت العرب قبلتهم الأولى القدس ومسجدهم الثاني الأقصى وثالث الحرمين الشريفين الأقصى .

 

لعلّ ردود الفعل العربية الهزيلة على القرارات الأميركية التي لم تأبه بالإسلام في السطو على القدس ولا بالعروبة في هجومها على الجولان.. وهناك احتمال بإعلان أميركي جديد حول ضرورة السيادة الأمنية وربما السياسية لـ»إسرائيل» على الضفة.

 

وإلاّ كيف نفهمُ الغضب المفاجئ للملك الأردني عبد الله الهاشمي الذي أعلن أول أمس ومن دون سبب، بأنّ بلاده لن تكون وطناً بديلاً للفلسطينيين، مضيفاً بأنّ له الحق في رفض صفقة القرن؟!

 

هذا ما يدفع إلى التساؤل عن الأسباب الحقيقية لهذه الاندفاعة الأميركية التي لا تبالي بردود فعل عربية أو إسلامية محتملة.

 

لجهة الأسباب فأولها اتفاقية كامب ديفيد في 1979 التي سحبت مصر من الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» وصولاً إلى إعلان حلف حقيقي بينهما.

 

ما استتبع انهياراً من السلطة الفلسطينية والأردن وانكفاء أجواء العداء لـ»إسرائيل» واقتصارها عربياً على سورية وحزب الله وإسلامياً على إيران.

 

لكن الضربة الأكبر تجسّدت في انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989. ما أخلّ بالحدّ الأدنى من التوازنات الدولية، سامحاً للإدارة الأميركية بالسيطرة على كلّ المؤسسات الدولية الأمم المتحدة ومتفرّعاتها والمؤسسات الإقليمية جامعة الدول العربية، منظمة الوحدة الإسلامية والاتحاد الأفريقي وخنق الاتحاد الأوروبية. فأصبح القانون الدولي «عجينة» لا قيمة لها في العلاقات الدولية إلا عندما يريد الأميركيون استعمالها لتغطية انتهاك من جرائمهم.

 

أليس هذا الخلل في موازين القوى الدولية هو الذي منح الأميركيين فرصة غزو أفغانستان والعراق وسورية والتلاعب بمصر وتونس وليبيا والصومال والسودان واليمن من دون اعتراضات أساسية من القوى المنافسة.

 

على المستوى العربي، أدّت الأحادية الأميركية إلى نزع آخر الحياء عند الدول العربية في الخليج… واستغلّ الأميركيون حاجتهم إليها في موضوع استمرار ملكياتهم القرون أوسطية فصادروا سياسات «الخليج» الفلسطينية والعربية والدولية مؤمنين لها حمايات داخلية عبر القواعد الأميركية المنتشرة في كامل زواياها وبحرها.

 

وللمزيد من ابتزازها اخترعوا صراعاً سعودياً ـ قطرياً، وسعودياً ـ سعودياً وإماراتياً ـ عُمانياً وعراقياً ـ كويتياً، ويمنياً ـ سعودياً ـ إماراتياً مما أدّى إلى مشيخات ترعى المال النفطي وتعاود تقديم معظمه إلى الوالي الأعظم الأميركي. بالتوازي سعوا إلى المزيد من إفقار مصر وتوتير السودان وتقسيمه وتأجيج الجزائر… فأسقطوا العالم العربي والإسلامي بضربات طرحته أرضاً ومغمياً عليه.

 

هذه هي الأسباب الفعلية التي منحت الأميركيين قوة الاعتراف بـ «إسرائيلية» القدس والجولان.. وبسرعة قبل عودة سورية والعراق إلى تنسيق فعلي بمواكبة صعود روسي إلى القرار الدولي بدأ بنشر إشعاعاته الردعية من سورية إلى فنزويلا.

 

فهل ينجح الأميركيون في مشاريعهم؟

 

يتجه فلسطينيو الضفة وغزة إلى ما يشبه الانتفاضة المسلحة، وسورية تستعيد عافيتها السياسية والاجتماعية والعسكرية، وإيران تتجه إلى النجاة من العقوبات الأميركية… أما العراق فباشر رحلة العودة… إلى الدور الداخلي والإقليمي.

 

وهذا يؤسّس لمجابهة فعلية، لكاوبوي أميركي قرصان وأرعن يحاول أن يسبق ولادة الزمن السوري ـ العراقي المتكئ على تحالفات مع إيران وروسيا.. ولن يسبق بطبع إلا صاحب الأرض والتاريخ، في سورية وجوارها العربي… والقانون الدولي الفعلي.

  • فريق ماسة
  • 2019-03-29
  • 9426
  • من الأرشيف

هل سقط القانون الدولي؟

  يدفع الاعتراف الأميركي الوقح بـ «إسرائيلية» القدس والجولان السوري «المحتلين» إلى فتح ملف القانون الدولي… هل لا يزال معمولاً به؟ أم أنّ تغييراً عميقاً في موازنات القوى العالمية، استجدّ من دون أن تلمحه القوى الأساسية، ما يدفع كالعادة إلى بناء آليات قانونية جديدة تكون عادة لمصلحة صاحب القوة الأكبر.   لا بدّ في المنطلق من الإشارة إلى أنّ القانون الدولي الحالي هو نتاج حروب أوروبية داخلية مدمّرة أدّت إلى القرن 17 إلى إقرار معاهدة وستفاليا التي نصت وللمرة الأولى في التاريخ على تعيين الحدود السياسية بين الدول بشكل دقيق واحترامها الكامل.     كما أدّت الحروب الأوروبية والعالمية بين القرنين التاسع عشر والعشرين إلى بناء منظمة عصبة الأمم التي ورثتها منظمة الأمم المتحدة، على قاعدة انتصار المحور الفرنسي ـ البريطاني ولاحقاً الأميركي على اليابان وألمانيا، كانت روسيا من المنتصرين لكنها لم تشارك في الهيمنة الاستعمارية الأوروبية على العالم، لأيديولوجيتها الشيوعية التي ترفض سياسات الهيمنة الغربية.   وبدأ منذ ذلك التاريخ استعمال القانون الدولي آلية أساسية لفضّ النزاعات المختلفة بين الدول بما فيها الخلافات الحدودية، على قاعدة أنّ أيّ انتهاك للحدود هو مخالفة صريحة للقانون الدولي.   إنما ما يجب الإقرار به هو أنّ احترام آليات القانون الدولي إنما نتجت من عاملين: القبول الدولي بالأمم المتحدة كمؤسسة توافقية بين القوى الكبرى من جهة أو موازنات القوى الدقيقة بين الغرب الأميركي ـ الأوروبي والاتحاد السوفياتي والصين من جهة أخرى، لذلك اتسمت مرحلة ما بين الخمسينيات والتسعينيات من القرن الماضي بالقليل من الانتهاكات الكبرى الواضحة، باستثناء التطور الحربي للكيان الإسرائيلي الذي ابتدأ عدوانه قبل تأسيس دولة فلسطين، والاتهام الأميركي الأوروبي لفيتنام الشمالية بالاعتداء على فيتنام الجنوبية.. إلا أنّ باقي المناطق شهدت تعاملات هامة بمفاهيم القانون الدولي، مع الإقرار بأنّ الدول الكبرى لم تكن تطبّقه إلا على الدول الضعيفة.   أليس هذا ما فعلته رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر عندما استعاد الأرجنتينيون جزراً لهم قبالة سواحلهم كان يحتلها الانكليز… وفوراً أمرت تاتشر أسطولها الحربي باستعادة الجزر.. فطلبت منها القوى الدولية انتظار الأمم المتحدة وقانونها الدولي.. فأجابتهم ساخرة: «نحن اخترعنا القانون لتطبيقه على دول العالم الثالث. أما قانوننا فهو بوارجنا».   فهل هناك من جديد حربي أم سياسي أم اقتصادي على مستوى التوازنات الإقليمية والدولية، سمح للإدارة الأميركية بالاعتراف بـ «إسرائيلية» القدس والجولان من دون أن تخشى من أية ردود فعل محتملة؟ فهاتين المنطقتين هما بموجب القانون الدولي واستناداً إلى قرارين صدرا في 1967 و1981 أراضٍ عربية محتلة، القدس كانت آنذاك تحت السيادة الأردنية، فيما الجولان سوري دائماً. للتنبيه فإنّ السياسة الأميركية ومنذ مطلع الستينيات في القرن العشرين أصبحت تعتبر «إسرائيل» أهمّ ولاية إسرائيلية. فتزوّدُها بالمال والسلاح والحماية… حتى أكثر من الدول المؤسسة لـ «إسرائيل» كحال بريطانيا وفرنسا. لكن الإدارة الأميركية استمرّت بالمحافظة على خيوط تربطها بعرب الخليج ومصر كانت تحول دون توغلها في محاولات الإلغاء الكامل للقضية الفلسطينية أو الاقتراب من مسائل القدس والجولان.   فماذا حدث حتى انقضّت الإدارة الأميركية على اراضٍ سورية عربية لا تنتمي إلى دائرة فلسطين المحتلة.. وسلبت العرب قبلتهم الأولى القدس ومسجدهم الثاني الأقصى وثالث الحرمين الشريفين الأقصى .   لعلّ ردود الفعل العربية الهزيلة على القرارات الأميركية التي لم تأبه بالإسلام في السطو على القدس ولا بالعروبة في هجومها على الجولان.. وهناك احتمال بإعلان أميركي جديد حول ضرورة السيادة الأمنية وربما السياسية لـ»إسرائيل» على الضفة.   وإلاّ كيف نفهمُ الغضب المفاجئ للملك الأردني عبد الله الهاشمي الذي أعلن أول أمس ومن دون سبب، بأنّ بلاده لن تكون وطناً بديلاً للفلسطينيين، مضيفاً بأنّ له الحق في رفض صفقة القرن؟!   هذا ما يدفع إلى التساؤل عن الأسباب الحقيقية لهذه الاندفاعة الأميركية التي لا تبالي بردود فعل عربية أو إسلامية محتملة.   لجهة الأسباب فأولها اتفاقية كامب ديفيد في 1979 التي سحبت مصر من الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» وصولاً إلى إعلان حلف حقيقي بينهما.   ما استتبع انهياراً من السلطة الفلسطينية والأردن وانكفاء أجواء العداء لـ»إسرائيل» واقتصارها عربياً على سورية وحزب الله وإسلامياً على إيران.   لكن الضربة الأكبر تجسّدت في انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989. ما أخلّ بالحدّ الأدنى من التوازنات الدولية، سامحاً للإدارة الأميركية بالسيطرة على كلّ المؤسسات الدولية الأمم المتحدة ومتفرّعاتها والمؤسسات الإقليمية جامعة الدول العربية، منظمة الوحدة الإسلامية والاتحاد الأفريقي وخنق الاتحاد الأوروبية. فأصبح القانون الدولي «عجينة» لا قيمة لها في العلاقات الدولية إلا عندما يريد الأميركيون استعمالها لتغطية انتهاك من جرائمهم.   أليس هذا الخلل في موازين القوى الدولية هو الذي منح الأميركيين فرصة غزو أفغانستان والعراق وسورية والتلاعب بمصر وتونس وليبيا والصومال والسودان واليمن من دون اعتراضات أساسية من القوى المنافسة.   على المستوى العربي، أدّت الأحادية الأميركية إلى نزع آخر الحياء عند الدول العربية في الخليج… واستغلّ الأميركيون حاجتهم إليها في موضوع استمرار ملكياتهم القرون أوسطية فصادروا سياسات «الخليج» الفلسطينية والعربية والدولية مؤمنين لها حمايات داخلية عبر القواعد الأميركية المنتشرة في كامل زواياها وبحرها.   وللمزيد من ابتزازها اخترعوا صراعاً سعودياً ـ قطرياً، وسعودياً ـ سعودياً وإماراتياً ـ عُمانياً وعراقياً ـ كويتياً، ويمنياً ـ سعودياً ـ إماراتياً مما أدّى إلى مشيخات ترعى المال النفطي وتعاود تقديم معظمه إلى الوالي الأعظم الأميركي. بالتوازي سعوا إلى المزيد من إفقار مصر وتوتير السودان وتقسيمه وتأجيج الجزائر… فأسقطوا العالم العربي والإسلامي بضربات طرحته أرضاً ومغمياً عليه.   هذه هي الأسباب الفعلية التي منحت الأميركيين قوة الاعتراف بـ «إسرائيلية» القدس والجولان.. وبسرعة قبل عودة سورية والعراق إلى تنسيق فعلي بمواكبة صعود روسي إلى القرار الدولي بدأ بنشر إشعاعاته الردعية من سورية إلى فنزويلا.   فهل ينجح الأميركيون في مشاريعهم؟   يتجه فلسطينيو الضفة وغزة إلى ما يشبه الانتفاضة المسلحة، وسورية تستعيد عافيتها السياسية والاجتماعية والعسكرية، وإيران تتجه إلى النجاة من العقوبات الأميركية… أما العراق فباشر رحلة العودة… إلى الدور الداخلي والإقليمي.   وهذا يؤسّس لمجابهة فعلية، لكاوبوي أميركي قرصان وأرعن يحاول أن يسبق ولادة الزمن السوري ـ العراقي المتكئ على تحالفات مع إيران وروسيا.. ولن يسبق بطبع إلا صاحب الأرض والتاريخ، في سورية وجوارها العربي… والقانون الدولي الفعلي.

المصدر : البناء /د. وفيق إبراهيم


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة