مدينة الباب بعد حلب هدف العملية الروسية السورية المشتركة، بعد استبعاد الأكراد، وتحذير الروس والايرانيين والسوريين للاتراك من الاقتراب منها.

المدينة الاخيرة في ريف حلب الشمالي، معقل «داعش» الأهم في شمال سوريا، يستكمل الدخول اليها سيطرة الجيش السوري على مفاصل سوريا الاساسية، ويحمي انتصاره المنتظر في حلب من أي اختراق تركي سينجم عنه أول خط تماس وتوتر روسي ـ أطلسي، في شمال سوريا، حيث يسعى الاميركيون لتجويف الانتصار السوري في حلب من أي معنى، خصوصاً ان الباب تضع الأتراك مجدداً على مشارف حلب، بعد إبعادهم عنها مع انسحاب مجموعاتهم المسلحة نحو الشمال. الانشغال في معركة حلب الكبرى لا يمنع الروس والسوريين من الإعداد للمعركة، فيما تنكفئ المنافسة التركية والأميركية للدخول اليها.

عندما تلقى محمود برخدان نصيحة أميركية قبل أسابيع بطيّ صفحة معركة مدينة الباب، كانت استعدادات «وحدات حماية الشعب» الكردية قد وصلت مراحل متقدمة. برخدان، الذي قاد المعارك في عين العرب (كوباني) ضد «داعش» حتى طرده من المدينة، القيادي في «الوحدات» الكردية كان يعد خططاً لاقتحام مدينة الباب تحت غطاء جوي أميركي، والتقدم اليها من تل رفعت جنوب مارع، ومن العريمة التي تتوسط منبج والباب.

الأميركيون أقنعوا حلفاءهم الأكراد بأن الوقت لم يحن بعد للتقدّم نحو المعقل الأخير لـ «داعش» في ريف حلب الشمالي. الأكراد، على ما يقوله مسؤول كردي كبير في الحسكة لـ «السفير»، لا يثقون بالأميركيين. الأميركيون لا يأمنون خلوة الأكراد بالروس والجيش السوري، فكلما انعقدت بين الثلاثة، كما في حلب، ابتعد الأكراد عن الوصيّ الأميركي وقاتلوا الى جانب الجيش السوري. وهكذا، فإن دخولهم الى مدينة الباب، وهو أمرٌ مستبعد، لن يعود بأي فائدة على استراتيجية أميركية تنزعُ في ذروة المواجهة مع الروس الى فتح خطوط تماس معهم في قلب سوريا، واحتواء تقدمهم أمام قوات أطلسية، كالجيش التركي. ينظر الأميركيون بريبةٍ الى الوحدات الكردية في حلب لقتالها الى جانب الجيش السوري في معارك كثيرة داخل المدينة ضد المجموعات التي تدعمها الاستخبارات الاميركية، خصوصاً «جبهة النصرة»، التي لا يريد الأميركيون بأي ثمن خروجها من حلب، ومواصلة استخدامها داخل المدينة لاستنزاف الجيش السوري وإشغال الآلاف من جنوده ومنعه من نقلهم الى جبهات اخرى، وأولاها مدينة الباب. خطة ستيفان دي ميستورا الأخيرة بإخراج 900 منهم وإبقاء الآلاف الآخرين، ووضع المدينة في عهدة إدارة محلية، كانت الطلقة الأخيرة التي استخدمها الأميركيون لاحتواء هجوم الجيش السوري والاندفاعة الروسية في الشمال السوري، وإنقاذ «النصرة» من الهزيمة.

التراجع عن المعركة من أجل الباب والإعداد لها لا يقتصر على الأكراد. الأتراك ايضاً تلقوا نصائح روسية وإيرانية، آخرُها حملها قبل أسبوعين الى اسطنبول مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون العربية والافريقية حسين جابري انصاري. الاتراك كانوا قد توعّدوا بشق ريف حلب الشمالي من الراعي الحدودية حتى مدينة الباب لإغلاق أي ممر كردي بين عين العرب وعفرين. الأتراك لا يملكون القدرة على تحقيق طموحاتهم بأنفسهم في الشمال السوري، ولا يملكون ما يهدئ هواجسهم الكردية، فلا الطيران التركي قادرٌ على تأمين تغطية جوية كافية لعملية غزو تحتاج الى أربعين الف جندي، ولا «داعش» الذي يتحصن في الباب، مرن مرونة شقيقه الذي انسحب من جرابلس أمام أول دبابة تركية عبرت خط الحدود في الرابع والعشرين من آب الماضي الى المدينة السورية. والجيش التركماني العشائري الذي وعد رجب طيب اردوغان بتشكيله لاحتلال منطقة آمنة تشمل جرابلس والراعي ومنبج والباب، لم يستطع أن يجند أكثر من خمسة آلاف مقاتل، معظمهم من قدامى «نور الدين الزنكي»، و «فرقة الحمزة»، وما تبقى من جماعة «جمال معروف» في «جبهة ثوار سوريا» الذين استعادتهم الاستخبارات التركية من مخيمات انطاكيا. ولم تنجح جولات شيخ البقارة نواف البشير، ولا مضر أسعد الجبوري، ومشايخ عشائر حسكاوية ورقاوية أخرى، في استنخاء أكثر من بضع مئات من المقاتلين لجأوا الى غازي عينتاب. أما محاولة شقّ العرب عن الوحدات الكردية ودفعهم نحو «درع الفرات»، على ما بين العرب والكرد من حساسية تزداد منذ هجمات «الوحدات» الكردية على مواقع الجيش السوري والدفاع الوطني في الحسكة، فقد انتهى بانشقاق فرحان العسكر عن «قوات سوريا الديموقراطية» من دون أن تتبعه الكثرة المتوقعة، أو أن يحدث صدعاً يهدد نسيج هذه القوات.

لم يسقط قتيل تركي واحد من أجل جرابلس. التركمان الذين يشكلون عصب القوة «الداعشية» في المدينة أنزلوا أعلام «داعش» ورفعوا أعلامهم الزرقاء والتركية. «داعش» في مدينة الباب من طبيعة مختلفة، يستند الى قاعدة عشائرية متينة من العرب والمقاتلين الأجانب، وفيه أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل، انخرط الكثيرون منهم في «الجهادين» العراقي والأفغاني، ويتحصنون في خندق دائري طوله 25 كيلومتراً يلف المدينة.

القرار السوري الروسي بانتزاع مدينة الباب من «داعش»، ومن الأميركيين والأكراد والأتراك لا ينتظر. الروس حشدوا لمعركة الباب كتائب مدفعية وراجمات من قواتهم، ترابط منذ أكثر من أسبوعين في منطقة الشيخ نجار الصناعية على مبعدة 12 كيلومترا من الخندق الداعشي، غرب المدينة. الاختيار يوحي بأن الهجوم سينطلق من الشيخ نجار، الباب في مدى المدفعية والصواريخ. والطريق اليها من الغرب عبر «الدرعية» و «المنطار»، الأفضل لتضاريسها وتعرجاتها وتلالها التي ستحمي تقدم الدبابات والأفواج التي أعد لها الجيش السوري بضعة آلاف، وأكثر من 140 دبابة ومدرعة. «لواء القدس» الذي يتمركز في المنطقة سيلعب دوراً مهماً في العملية. الجيش السوري يقف جنوبا ايضا على بعد سبعة كيلومترات من تادف على مشارف الباب. الخط الذي يمكنه الانتشار فيه جنوب الباب يمتد عبر قرى قطر ورسم العالم ونجارة.

الروس نقلوا منذ أسابيع مروحيات قتالية الى مطار كويرس جنوب مدينة الباب. ونشروا في المطار بطارية صواريخ «اس-200» لمنع أي تدخل جوي مفاجئ أو صاروخي في سير العمليات، وحماية المطار من أي هجمات صاروخية. من السابق لأوانه تحديد أمد العملية. اذ استغرق انتزاع تدمر من «داعش»، وهي أقل تحصيناً وعديداً داعشياً، ما يقارب الثلاثة أشهر. وامتد التمهيد المدفعي على خطوط «داعش» حتى مطلع شهر آذار، فيما استغرفت المرحلة الأخيرة ثلاثة أسابيع من المعارك المتصلة لانتزاع الجبال التدمرية، ودخول المدينة في السابع والعشرين من آذار الماضي. ويلعب غياب التضاريس التدمرية الوعرة في تخوم الباب عنصرا مساعدا، اذ تقتصر الميزة الدفاعية الجبلية للمدينة على تلة مشرفة تحمي مدخلها الغربي، فيما تنبسط المدينة في هلال يمتد من الجنوب الى الشمال، ينفتح نحو تلته الحامية غربا. أما التوقيت، فالأرجح ألا ينتظر الروس والسوريون نهاية معركة حلب. بل إن تقدم الجيش في ميادين حلب سيسمح بإرسال المزيد من العديد والقوات لاختراق حصون المدينة في الأسابيع المقبلة، لكن لا استعجال ما دام «داعش» يشاغل الأتراك وحملة «درع الفرات» المتعثرة في ريف حلب الشمالي.

 

  • فريق ماسة
  • 2016-10-10
  • 13470
  • من الأرشيف

سورية وروسيا: استعداد هادئ لمعركة الباب

مدينة الباب بعد حلب هدف العملية الروسية السورية المشتركة، بعد استبعاد الأكراد، وتحذير الروس والايرانيين والسوريين للاتراك من الاقتراب منها. المدينة الاخيرة في ريف حلب الشمالي، معقل «داعش» الأهم في شمال سوريا، يستكمل الدخول اليها سيطرة الجيش السوري على مفاصل سوريا الاساسية، ويحمي انتصاره المنتظر في حلب من أي اختراق تركي سينجم عنه أول خط تماس وتوتر روسي ـ أطلسي، في شمال سوريا، حيث يسعى الاميركيون لتجويف الانتصار السوري في حلب من أي معنى، خصوصاً ان الباب تضع الأتراك مجدداً على مشارف حلب، بعد إبعادهم عنها مع انسحاب مجموعاتهم المسلحة نحو الشمال. الانشغال في معركة حلب الكبرى لا يمنع الروس والسوريين من الإعداد للمعركة، فيما تنكفئ المنافسة التركية والأميركية للدخول اليها. عندما تلقى محمود برخدان نصيحة أميركية قبل أسابيع بطيّ صفحة معركة مدينة الباب، كانت استعدادات «وحدات حماية الشعب» الكردية قد وصلت مراحل متقدمة. برخدان، الذي قاد المعارك في عين العرب (كوباني) ضد «داعش» حتى طرده من المدينة، القيادي في «الوحدات» الكردية كان يعد خططاً لاقتحام مدينة الباب تحت غطاء جوي أميركي، والتقدم اليها من تل رفعت جنوب مارع، ومن العريمة التي تتوسط منبج والباب. الأميركيون أقنعوا حلفاءهم الأكراد بأن الوقت لم يحن بعد للتقدّم نحو المعقل الأخير لـ «داعش» في ريف حلب الشمالي. الأكراد، على ما يقوله مسؤول كردي كبير في الحسكة لـ «السفير»، لا يثقون بالأميركيين. الأميركيون لا يأمنون خلوة الأكراد بالروس والجيش السوري، فكلما انعقدت بين الثلاثة، كما في حلب، ابتعد الأكراد عن الوصيّ الأميركي وقاتلوا الى جانب الجيش السوري. وهكذا، فإن دخولهم الى مدينة الباب، وهو أمرٌ مستبعد، لن يعود بأي فائدة على استراتيجية أميركية تنزعُ في ذروة المواجهة مع الروس الى فتح خطوط تماس معهم في قلب سوريا، واحتواء تقدمهم أمام قوات أطلسية، كالجيش التركي. ينظر الأميركيون بريبةٍ الى الوحدات الكردية في حلب لقتالها الى جانب الجيش السوري في معارك كثيرة داخل المدينة ضد المجموعات التي تدعمها الاستخبارات الاميركية، خصوصاً «جبهة النصرة»، التي لا يريد الأميركيون بأي ثمن خروجها من حلب، ومواصلة استخدامها داخل المدينة لاستنزاف الجيش السوري وإشغال الآلاف من جنوده ومنعه من نقلهم الى جبهات اخرى، وأولاها مدينة الباب. خطة ستيفان دي ميستورا الأخيرة بإخراج 900 منهم وإبقاء الآلاف الآخرين، ووضع المدينة في عهدة إدارة محلية، كانت الطلقة الأخيرة التي استخدمها الأميركيون لاحتواء هجوم الجيش السوري والاندفاعة الروسية في الشمال السوري، وإنقاذ «النصرة» من الهزيمة. التراجع عن المعركة من أجل الباب والإعداد لها لا يقتصر على الأكراد. الأتراك ايضاً تلقوا نصائح روسية وإيرانية، آخرُها حملها قبل أسبوعين الى اسطنبول مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون العربية والافريقية حسين جابري انصاري. الاتراك كانوا قد توعّدوا بشق ريف حلب الشمالي من الراعي الحدودية حتى مدينة الباب لإغلاق أي ممر كردي بين عين العرب وعفرين. الأتراك لا يملكون القدرة على تحقيق طموحاتهم بأنفسهم في الشمال السوري، ولا يملكون ما يهدئ هواجسهم الكردية، فلا الطيران التركي قادرٌ على تأمين تغطية جوية كافية لعملية غزو تحتاج الى أربعين الف جندي، ولا «داعش» الذي يتحصن في الباب، مرن مرونة شقيقه الذي انسحب من جرابلس أمام أول دبابة تركية عبرت خط الحدود في الرابع والعشرين من آب الماضي الى المدينة السورية. والجيش التركماني العشائري الذي وعد رجب طيب اردوغان بتشكيله لاحتلال منطقة آمنة تشمل جرابلس والراعي ومنبج والباب، لم يستطع أن يجند أكثر من خمسة آلاف مقاتل، معظمهم من قدامى «نور الدين الزنكي»، و «فرقة الحمزة»، وما تبقى من جماعة «جمال معروف» في «جبهة ثوار سوريا» الذين استعادتهم الاستخبارات التركية من مخيمات انطاكيا. ولم تنجح جولات شيخ البقارة نواف البشير، ولا مضر أسعد الجبوري، ومشايخ عشائر حسكاوية ورقاوية أخرى، في استنخاء أكثر من بضع مئات من المقاتلين لجأوا الى غازي عينتاب. أما محاولة شقّ العرب عن الوحدات الكردية ودفعهم نحو «درع الفرات»، على ما بين العرب والكرد من حساسية تزداد منذ هجمات «الوحدات» الكردية على مواقع الجيش السوري والدفاع الوطني في الحسكة، فقد انتهى بانشقاق فرحان العسكر عن «قوات سوريا الديموقراطية» من دون أن تتبعه الكثرة المتوقعة، أو أن يحدث صدعاً يهدد نسيج هذه القوات. لم يسقط قتيل تركي واحد من أجل جرابلس. التركمان الذين يشكلون عصب القوة «الداعشية» في المدينة أنزلوا أعلام «داعش» ورفعوا أعلامهم الزرقاء والتركية. «داعش» في مدينة الباب من طبيعة مختلفة، يستند الى قاعدة عشائرية متينة من العرب والمقاتلين الأجانب، وفيه أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل، انخرط الكثيرون منهم في «الجهادين» العراقي والأفغاني، ويتحصنون في خندق دائري طوله 25 كيلومتراً يلف المدينة. القرار السوري الروسي بانتزاع مدينة الباب من «داعش»، ومن الأميركيين والأكراد والأتراك لا ينتظر. الروس حشدوا لمعركة الباب كتائب مدفعية وراجمات من قواتهم، ترابط منذ أكثر من أسبوعين في منطقة الشيخ نجار الصناعية على مبعدة 12 كيلومترا من الخندق الداعشي، غرب المدينة. الاختيار يوحي بأن الهجوم سينطلق من الشيخ نجار، الباب في مدى المدفعية والصواريخ. والطريق اليها من الغرب عبر «الدرعية» و «المنطار»، الأفضل لتضاريسها وتعرجاتها وتلالها التي ستحمي تقدم الدبابات والأفواج التي أعد لها الجيش السوري بضعة آلاف، وأكثر من 140 دبابة ومدرعة. «لواء القدس» الذي يتمركز في المنطقة سيلعب دوراً مهماً في العملية. الجيش السوري يقف جنوبا ايضا على بعد سبعة كيلومترات من تادف على مشارف الباب. الخط الذي يمكنه الانتشار فيه جنوب الباب يمتد عبر قرى قطر ورسم العالم ونجارة. الروس نقلوا منذ أسابيع مروحيات قتالية الى مطار كويرس جنوب مدينة الباب. ونشروا في المطار بطارية صواريخ «اس-200» لمنع أي تدخل جوي مفاجئ أو صاروخي في سير العمليات، وحماية المطار من أي هجمات صاروخية. من السابق لأوانه تحديد أمد العملية. اذ استغرق انتزاع تدمر من «داعش»، وهي أقل تحصيناً وعديداً داعشياً، ما يقارب الثلاثة أشهر. وامتد التمهيد المدفعي على خطوط «داعش» حتى مطلع شهر آذار، فيما استغرفت المرحلة الأخيرة ثلاثة أسابيع من المعارك المتصلة لانتزاع الجبال التدمرية، ودخول المدينة في السابع والعشرين من آذار الماضي. ويلعب غياب التضاريس التدمرية الوعرة في تخوم الباب عنصرا مساعدا، اذ تقتصر الميزة الدفاعية الجبلية للمدينة على تلة مشرفة تحمي مدخلها الغربي، فيما تنبسط المدينة في هلال يمتد من الجنوب الى الشمال، ينفتح نحو تلته الحامية غربا. أما التوقيت، فالأرجح ألا ينتظر الروس والسوريون نهاية معركة حلب. بل إن تقدم الجيش في ميادين حلب سيسمح بإرسال المزيد من العديد والقوات لاختراق حصون المدينة في الأسابيع المقبلة، لكن لا استعجال ما دام «داعش» يشاغل الأتراك وحملة «درع الفرات» المتعثرة في ريف حلب الشمالي.  

المصدر : محمد بلوط – السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة