دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
ما اعتبر تبسيطاً للإجراءات ومراعاة للظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، تحوّل سريعاً إلى مدخل سهل، لممارسة شكل جديد من أشكال الفساد، والسطو «بالقانون» على ممتلكات شريحة من المواطنين وثرواتهم، والنيل «قضائياً» من بعض الخصوم
على نحو غير معتاد، زادت خلال الفترة الماضية مساحة التبليغات القضائية المنشورة كإعلانات في الصحف الرسمية اليومية، لدرجة أنها باتت تستحوذ غالباً على صفحات كاملة، وتوفر غطاءً لإدارات التحرير لزيادة عدد صفحات العدد اليومي، الذي كانت الحكومة قد قررت تخفيضه ليصل إلى 12 صفحة، بحجة ترشيد النفقات، والحد من الخسائر المتراكمة على مؤسسات الإعلام الحكومي.
ووفقاً لما نصّ عليه قانون أصول المحاكمات الصادر أخيراً، فإن اللجوء إلى التبليغ عبر الصحف اليومية الصادرة في العاصمة يتم في حالات محددة، منها ما نصت عليه الفقرة «أ» من المادة 27 من أنه «إذا تبيّن أن المطلوب تبليغه غير معلوم الموطن أو غادر إلى جهة مجهولة تلصق خلاصة عن الأوراق على لوحة الإعلانات في المحكمة بموجب محضر، وتعلن في صحيفة يومية». وكذلك ما نصت عليه الفقرة «أ» في المادة 34 من أنّه «إذا تعذر التبليغ وفق أحكام المادة /22/ وما يليها بسبب ظروف استثنائية، يجري التبليغ بإحدى الصحف اليومية في العاصمة أو في أحد مراكز المحافظات...». وعليه، وفي ضوء الانزياحات الديموغرافية الهائلة التي تسببت بها الحرب، وخروج مناطق عدة عن سيطرة الحكومة، كان من الطبيعي أن تجد مثل هذه الظروف الاستثنائية صداها في أروقة القضاء ولدى الأطراف المتخاصمة، فتزداد حالات اللجوء إلى الصحف اليومية لتبليغ الخصوم، ولاحقاً استصدار أحكام قضائية غيابية بحقهم. لكن ما اعتبر حلاً، لتعذر تبليغ بعض الأطراف المتخاصمة، كان بمنزلة ثغرة إجرائية «ثمينة» استغلها كثيرون، بعضهم لتسريع إجراءات التقاضي في غياب خصومهم وحسم الدعاوى لمصلحتهم، والبعض الآخر وجد فيها نافذة للسطو «قانونياً» على ممتلكات مواطنين من عقارات وسيارات وغيرها. وبحسب المحامي رفعت الزين، فإنه «يكفي أن يقدم المدعي عنواناً للمدعى عليه على أنه يقيم في إحدى المناطق الساخنة، ويتعذر تبليغه وفق المعتاد، حتى يصار إلى تبليغه عبر الصحف اليومية وسريان إجراءات التقاضي». ويضيف في حديثه إلى «الأخبار» أنّ «ما يثير المخاوف من إمكانية استغلال ذلك الإجراء، هو أن الحكم الغيابي في الدعاوى المدنية قطعي، ولا يمكن إعادة المحاكمة إلا لأسباب محددة، وهذا ما قد يستغله البعض لنقل ملكيات آخرين من عقارات وسيارات ومبالغ مالية من دون علم أصحابها». تماماً كما حدث قبل أشهر، عندما انتشرت بكثافة ظاهرة الوكالات القانونية المزورة، واستخدمت لنقل وبيع وشراء عقارات كثيرة من دون علم أصحابها. وحتى «عندما يتقدم المدعي بوثائق تثبت حقه في هذا العقار أو تلك السيارة، فربما يملك المدعى عليه، والذي لم يبلغ شخصياً بحجة الإقامة المجهولة، أوراقاً تدحض ما قدمه المدعي». وهذا أمر ينطبق على جميع الدعاوى، التي يجري تبليغ الخصوم عبر الصحف، فإلى جانب دعاوى تثبيت شراء عقارات وسيارات، وهي الأكثر شيوعاً وأخطرها، هناك دعاوى التفريق لعلة الشقاق والغياب، والمطالبة بمهر ونفقة، والدعاوى المتعلقة بتسديد قروض مصرفية وديون شخصية، والتي يتم لاحقاً بيع ممتلكات المدعى عليه بمزاد علني، وغالباً بأقل من قيمتها الحقيقية، بحجة تحصيل ذمم وديون شخصية أو مصرفية.
الحكم الغيابي في الدعاوى المدنية قطعي، ولا يمكن إعادة المحاكمة
وبغض النظر عن سوء أو حسن نية المدعي، فإن نقطة الضعف الجوهرية في إجراء التبليغ عبر الصحف تكمن في ضعف انتشار هذا التبليغ على المستوى الشعبي والجغرافي، ولا سيما في ظل التراجع الملحوظ لمبيعات الصحف اليومية داخل المناطق الآمنة، وعدم قدرتها أو عدم السماح لها بالوصول إلى المناطق، التي هي خارج سيطرة الدولة. إلا أنّ القاضي مازن إبراهيم ينظر إلى المسألة من جانبين، فالمشكلة برأيه «لا تكمن فقط في عدم اعتياد أفراد المجتمع على قراءة الصحف، بل تكمن أيضاً في بساطة إجراء التبليغ وعدم تكبيله بشروط تضمن عدم استغلاله. فمثلاً التبليغ يجب أن يتم بالعاصمة فقط دون باقي المحافظات، وهذا يخلق حالة من جور القانون. فكيف يمكن لشخص مقيم في منطقة ساخنة أن يحصل على صحيفة تصدر بالعاصمة؟»، مشيراً في حديثه إلى «الأخبار» إلى أن «غاية المشرع كانت ايجاد حل للدعاوى المتوقفة، بسبب عدم القدرة على تبليغ الخصوم».
وتظهر البيانات، التي تتحفظ على نشرها الشركة السورية للمطبوعات باعتبارها معلومات سرية تخص الصحف نفسها، تراجع عدد النسخ اليومية للصحف المسلمة للشركة، بغية توزيعها على الأكشاك والمكتبات، لتصل في أحسن الأحوال إلى 10 آلاف نسخة لإحدى الصحف، فيما لا تتجاوز عدد النسخ المسلمة من صحيفة أخرى حاجز الألف نسخة. وتقل هذه الأرقام عند الحديث عن المبيعات المباشرة المتحققة في السوق.
العودة إلى الوراء
يتفق كثير من العاملين بالحقل القانوني على ضرورة اتخاذ وزارة العدل إجراءات استثنائية في هذه الظروف، تضمن أولاً عدم الجور في تنفيذ القانون، وتغلق ثانياً الباب نهائياً في وجه محاولات البعض استغلال الوضع الحالي لاستصدار أحكام قضائية بتثبت عمليات الشراء والبيع ونقل الملكيات، ومع أنّ القاضي إبراهيم يؤكد أنهم «كقضاة وباجتهاد شخصي نحاول التشدد بالموافقة على التبليغ بالصحف درءاً للاستغلال». إلا أنه يقترح «إلغاء النص كلياً، والعودة بالقانون إلى ما كان عليه سابقاً، فدرء المفاسد أولى من جلب المنافع». فيما يذهب المحامي الزين إلى مطالبة وزارة العدل بالبحث عن وسيلة جديدة للتبليغ تضمن الوصول إلى المدعى عليه، «ولا ضير من تأخير الدعاوى المدنية لفترة زمنية في هذه المرحلة، ولا سيما تلك التي يجري تبليغ الخصوم عبر الصحف، أو إصدار تشريع يتيح للمبلغ بالصحف أن يطلب إعادة المحاكمة خلال مدة معقولة، متضمناً تشديد العقوبة عند إعطاء بيانات كاذبة حول مكانة إقامة الخصوم».
«يكفي أن يضع أحدهم عينه على ممتلكاتك، حتى تفقدها لاحقاً وبإجراءات قانونية قد يكون من المتعذر نقضها، وحتى لو تم ذلك فهي تحتاج إلى وقت طويل ونفقات باهظة». هكذا يصف أحد المحامين المتخصصين في الدعاوى المدنية، والذي يضيف أن «الأمر لا يقف عند نقل الملكيات، وإنما وضع ملكيات مواطنين في التنفيذ، وإتمام إجراءات البيع بسرعة غير معتادة، وأحياناً ما يتم البيع بسعر يقل كثيراً عن السعر الحقيقي».
المصدر :
زياد غصن/ الأخبار
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة