دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
منذ أيام استأنف السوريون النقش على الحجر التدمري بعد أن توقف النحت والنقش على الحجر قرابة ألفي سنة .. بعض النحت الذي وقع وتهشم ترك مكانه لنحت جديد .. انه النحت الذي صنعته سلاسل الدبابات على صخر الزمن ووجه المستقبل .. وحتى وجه الرمل تعرض لنوع جديد من النحت ..
ليس الانجاز التدمري مجرد محطة عسكرية عادية لأن معركة تدمر ليست الا الثغرة التي فتحت في جدار الزمن الذي توقف في العالم عام 2011 .. ففي عام 2011 توقف العالم كله أمام لحظة اعلان انتهاء عصر القوميات ومعارك الاستعمار وبداية عصر عودة الاستعمار ونهوض الحروب الدينية .. الحروب الدينية الاسلامية الاسلامية والاسلامية غير الاسلامية .. كان العالم كأنما اصيب بالجمود ووقفت ساعاته الزمنية ..
ان معركة تدمر هي من أهم المعارك التي وجهت فيها المدافع السورية الى مكان لايتوقعه أحد .. انها وجهت الى محطات البث السوداء في كل العالم .. وكانت القذائف والصواريخ السورية تنفجر في جدران البي بي سي وال سي ان ان و وسائل الاعلام التركية والعربية والاوروبية التي راكمت نوعا من القناعات الكاذبة لدى الناس بأن الحرب في سورية هي حرب أهلية بين السوريين لأنها بين الطوائف والموالين والمعارضين وبين الحرية وبين الاستبداد .. وهو صراع بين الوحوش .. فالكل ظهر في الاعلام الغربي متوحشا .. وكان اظهار التوحش كثقافة بين الشرقيين والسوريين مقصودا .. فداعش هي منتج من منتجات ثقافة العنف الاسلامي .. كما أن عنف النظام ضد معارضيه (السلميين) هو جزء من منظومة العنف والشقاء في تركيبة الثقافة الشرقية القاسية التي لارحمة فيها حيث المجموعات المتناحرة حتى من أجل غايات نبيلة وسامية لاتمارس الوصول الى الغايات النبيلة الا عبر طرق عنفية ودموية تفقدها دوما الروح الانسانية وتجعل القطاف مغطى بالدم .. فيكون الورد والياسمين المقطوفان مضرجين بدم الضحايا .. ويكون الدم على عناقيد العنب ويكون نبيذ أي نصر مزيجا من تخمر دم البشر بدم العنب ..
تحرير تدمر كمدينة أثرية لم يكن بالامكان اظهاره على الاعلام الا على أنه صراع بين الهمجية والبربرية وبين الحضارة .. لأن من أنقذ النحت والحجر من وحشية البشرهو من يحرس الحضارة .. وماحدث فجاة في من حيث لايدري الاعلام الغربي هو انه أغرق المشاهد في كل العالم بصور النحت الذي يهشمه الهمج والرعاع المسلمون من الدواعش ومشاهد التماثيل التي تذبح وتنحر وتهشم عظامها كما البشر .. وتتحطم في الشرق الأجنجة الحجرية التي حلقت في سماء العالم 3000 سنة حتى صار احساس كل من رأى تلك المشاهد أن العالم انقسم الى عالمين .. عالم معني بالحضارة وعالم معني بتحطيم الحضارة .. أما الصراعات الأخرى من أجل الاستبداد والحرية فانها صارت صراعات ثانوية في سياق الصراع الرئيسي بين هذين القطبين .. البربرية والحضارة ..
وعندما رأى العالم أن من يطلق النحت من الأسر الهمجي ويكسر الأصفاد الجاهلية من معاصم التماثيل ويفك السلاسل من حول أعناق الأعمدة والشوارع الأثرية التدمرية هو الجيش السوري فان هذا الجيش حظي باحترام العالم كله ونال تصفيقه وثناءه .. ولم يعد بالامكان أن يكون هذا الجيش هو جيش النظام وجيش الديكتاتورية وقوات الأسد .. بل هو جيش الحضارة البشرية كلها .. وهو يمثل العالم المتحضر كله الذي خرج على الهمجية كلها .. وعلى الشر كله ..
ومن هنا نجد ان الترحيب بتحرير تدمر بالرغم من محاولة الغرب جعله ترحيبا خجولا فانه قد أحدث الصدمة في العقل الغربي خصوصا وفي العقل الانساني الذي راقب على العموم .. فمن ينقذ الحجر والنحت والتاريخ لايمكن أن يكون جيشا يبذل دما من أجل نظام .. ولايمكن أن يكون جيشا مرتزقا بل هو جيش يمثل قيما فائقة الحضارة وستكون اي محاولة لاهانته والحاقه بالاتهامات والقتل محاولة صعبة للغاية لأن جيشا ينقذ الأثر لايمكن الا أن يكون حريصا على البشر أيضا .. وسيكونمن أصعب الأمور تلطيخ سمعة هذا الجيش الذي رآه العالم وهو يدحر الهمجية التي كانت تهين البشر بتحطيم الكنوز التاريخية وذاكرة الانسان ودفاتره الأولى وأول صور التقطتها البشرية للبشر على الحجر .. وأنا صرت أقرأ في حديث الغربيين وصالوناتهم من يكاد يقول أن في عنقه دينا لهذا الجيش الذي يحمي الحضارة في أكبر عملية تحريرعلى الهواء لمنجز حضاري انساني تمثل في مدينة تدمر السورية العظيمة ..
دخول الجيش السوري الى تدمر ليس عملية عادية على الاطلاق بل هو دخول الجيش السوري الى أوروبة في عملية انزال رائعة تشبه انزال النورماندي .. انه انزال في النورماندي التدمري .. وستكون بوابة تدمر هي البوابة التي ستتيح للحكومات الغربية تبرير عودتها الى دمشق أمام جمهور كان سيحاسبها وسيحرجها ان عادت الى عاصمة لاتزال في نظره تحت الاستبداد الذي انتصر على الثورة السلمية .. ولكن منصة تدمر ستجعل العودة الاوروبية الى دمشق سببا في مكافأة كل حكومة غربية بأنها ستنال التأييد الشعبي الواسع وتشجيع النخب ..
هذا الدخول ربما يمكن ان يكون الثغرة الكبيرة التي فتحت في صدر (الثورة) التي عملت على تلطيخ سمعة الجيش السوري على أنه جيش النظام الذي يقتل الأطفال والمدنيين بالبراميل المتفجرة ولكن هاهو العالم يرى هذا الجيش يموت في سبيل الأثر في الصخر والنحت .. ويسيج الكنوز البشرية بدمه ..وهو اليوم يسير وعليه غبار تدمري عمره آلاف السنين ..
ان تصادف هذا التحرير بعد هجمات بروكسل حيث الدم الغربي لايزال طازجا والجرح الاوروبي لايزال ينزّ ربما يجب أن يثير السؤال ان كان عبقرية سياسية حيث تم الاسراع باطلاق العملية العسكرية قبل أن يجف الجرح الغربي .. كما أن انجازه في توقيت الهدنة يؤيد ماكنا جميعا نتوقعه بأن الهدنة ليست تراجعا بل سيتم استخدامها بذكاء سياسي وعسكري .. ولذلك تحاول القوى الدموية التي تدفع بها تركيا والسعودية أن تتدارك هذا الفخ وتنسف الهدنة باي طريقة لاعادة عجلة الاعلام الى النغمة المملة الممجوجة عن البراميل المتفجرة والضحايا المدنيين والجيش الذي يقتل من أجل الرئيس المستبد .. ولكن العالم الذي لايزال دين تدمر في عنقه لن يكون قادرا على العودة ببساطة الى ذلك الزمن ..
وربما سنكتشف .. أن بوابة تدمر التي مرت من خلالها عربات الزمن العظيم تمر من خلالها خلسة عربات زمن عظيم آخر .. حيث بدأ العالم يتحدث عن العائلة السعودية واستبدادها وعن طيش أردوغان الذي تعزف له الأغاني الساخرة .. في وقت تختلط فيه أنغام الاغاني الساخرة واتهامات اوباما للوهابية السعودية بأنها مصدر الشر .. تختلط بأصوات تصفيق شرقا وغربا .. للجيش السوري الذي نحت بدمه حدود الصخر .. ونحت بسلاسل دباباته رسوما للنصر وخطوط النصر .. ونقش بالرصاص ملامح تدمرية جديدة .. ربما ستغار منها زنوبيا ان نهضت وشاهدت نحت الدبابات على الصخر والرمل .. وسمعت زئير رجال ستتمنى لو أنها عانقتهم قبل ثلاثة آلاف سنة ..
المصدر :
نارام سرجون
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة