مسار جديد قد بدأ، والأميركي وسيط فيه لا طرف... إنهما الخلاصتان الأساسيتان اللتان انتهى إليهما نهار فيينا السوري الطويل، كما يؤكد المشاركون فيه. أما التفاصيل فتحمل الكثير من الوقائع المفاجئة والمعطيات المعبرة والرسائل البالغة الدلالة.

 في الشكل أولاً، كانت المشهدية النمساوية معبّرة في حدّ ذاتها. أن يكون الأميركي على رأس الطاولة، إلى جانب الروسي، صورة تراتبية انسحبت على كامل المضمون. فوزير الخارجية الأميركي جون كيري حرص طيلة النهار على لعب دور الوساطة لا غير. لم يظهر لحظة في صف الأعداء الصقور لحكم دمشق. فظلت الرياض وأنقره شبه وحيدتين في تعنّتهما، كل منهما على طريقته، فيما كيري يدوّر الزوايا ويقرّب وجهات النظر ويحدد أولويات إدارته وبلاده. منذ اللحظات الأولى، حسم كيري أن المطلوب هو عملية سياسية تؤمن انتقالاً سلمياً للسلطة. لكنه عند الوصول إلى إشكالية المرحلة الانتقالية والانتخابات وبقاء الرئيس الأسد، يصير المسؤول الأميركي شبه ناظر على مواقف حلفائه. يكتفي من قضية مصير بشار بخلاصة مبسطة، عنوانها: هذه مسألة اتفقنا على أننا مختلفون حولها. فلننتقل إلى سواها!

 أما حين يصل النقاش إلى الوضع الميداني والتطورات العسكرية على الأرض، فتصبح الفجوة أكبر بين الأميركي وحليفيه المفترضين، السعودي والتركي. فالأخير ظل على مدى ساعات يظهر توتره وفقدان شيء من أعصابه وبعض الصواب، في محاولة جرّ المتحاورين إلى معادلة أن التدخل العسكري في سوريا يجب أن يشمل في أهدافه سلطة دمشق، فيما كان موقف كيري جازماً: نحن في سوريا لن نضرب إلا داعش. وعندما أبلغ الناظر الأميركي الحاضرين أن البيت الأبيض سيعلن عن إرسال قوات عسكرية محدودة إلى الشمال السوري للمساعدة في الحرب ضد داعش وحدها دون سواها، صار التوتر التركي ظاهراً على تقاسيم الوجه وحركات اليدين. كأنه يعتبر أن الخطوة الأميركية مرتبطة باستحقاق الانتخابات التركية بعد ساعات، أكثر منها ارتباطاً بما يحصل في دمشق وبما قد يكون مستقبل حكمها الراهن.

هكذا بدا التركي الخاسر الأكبر في بوكر فيينا. لا طرح. ولا حتى حلفاء. السعودي حلّ طبعاً في مرتبة الخاسر الثاني بوضوح. ذلك أن مشروعه المحصور برحيل الأسد، بدا يتيماً وعقيماً. حتى هو كان عاجزاً عن بلورة آلياته أو طرح عمليته التنفيذية، إذ ظهر السعودي عالقاً بين استحالتين بالنسبة إليه: استحالة أن يدعو إلى إسقاط الأسد بالقوة. وهي استحالة باتت أقرب إلى الجنون في حضور الثنائي الكبير على رأس الطاولة: الروسي يقاتل إلى جانب الأسد. والأميركي يؤكد أنه صار مستعداً لبذل التضحيات البشرية، لكن في عملية ضرب داعش لا سواها. أما الاستحالة الثانية فأن يدعو السعودي إلى إسقاط الأسد بالانتخابات وفي صناديق الاقتراع. هنا بدا السعودي وكأنه أمام محظورين اثنين: أولاً عجزه المفهومي، كنظام عائلي وكسلطة أوتوقراطية، عن أن يلفظ كلمة انتخاب أو يعلن مطلباً متلازماً مع مبدأ الاقتراع. وثانياً إدراكه أن الأسد قادر على الفوز في أي انتخابات نزيهة تجرى في ظل أي إشراف حيادي عادل. هكذا اكتفى السعودي على مدى ساعات بتكرار لازمة بدت مملة مضجرة: رحيل الأسد. ولو حشر أكثر بسؤاله حول كيفية الطرح، لأجاب ربما: على الطريقة السعودية. بصفقة، بتهريبة، بتصفية، المهم أن يرحل!

في الجهة المقابلة من الوسيط الأميركي ومن المتوترين التركي والسعودي، كان الإيراني حاضراً ببسمته وهدوئه. كأنه يقول للجميع: لا بديل لوجودي على هذه الطاولة. رغم أنه جاء إلى مسار انطلق قبل زمن طويل من دونه، بدا كأنه كان حاضراً في أساسه أو مؤسّساً له. حضر الإيراني للمرة الأولى، لكن كالرقم الصعب في هذا المسار. كأنه التحق به من دون ثمن ولا تنازل. لم يكن ينقص غير توافقه الظاهر مع القطبين المترئسين طاولة التفاوض، الروسي كما الأميركي، ليؤكد أنه يملك الأوراق الرابحة في اللعبة الدائرة. عند عرض الاحتمالات، كان مستعداً لها كلها. أو حتى متحدياً: تريدون مرحلة انتقالية؟ فلنذهب إليها فوراً، ونتوّجها بانتخابات حرة نزيهة عادلة، وفق أي منطق ديمقراطي غربي أو أممي. وبدا واثقاً من فوز حليفه... تريدون حرباً ضد الإرهاب؟ جاهزون لها أيضاً، ولنتعاون جميعاً عليها. فعنوان الإرهاب والإرهابيين واضح معروف، طرفاً مقاتلاً وأطرافاً مموّلة ومسلحة ومكفرة ومفكرة... أخيراً تريدون حرباً ضد الأسد وحده؟ جاهزون أيضاً، كما كنا منذ أربعة أعوام ونيف. وليتحمل كل طرف مسؤوليته وليربح الأقوى!

وحده لبنان بدا على طاولة الكبار تلك وكأنه مرجعية أممية أو جهة ناظرة للقانون الدولي. فعلى قاعدة «النأي بالنفس» اللبنانية المزمنة، ظل طرحه غير مقيّد ولا مكبّل بأي اعتبار: أولاً، نحن مع محاربة الإرهاب أينما كان وبكل الوسائل المشروعة. ثانياً نحن مع السلام على قاعدة الحقوق الشاملة والحوار. ثالثاً نحن مع حق الشعوب في تقرير مصيرها. ومع وسيلة وحيدة أكيدة لتحقيق ذلك، عبر انتخابات حرة عادلة نزيهة، تماماً كتلك التي حرم الشعب اللبناني منها طيلة ربع قرن. رابعاً، نحن مع احترام سيادة كل دولة، ومع وحدة أرضها كاملة. منعاً لفوضى قد تهدد السلام والأمن الدوليين، والتزاماً بالمضمون والفلسفة اللذين أسّسا لميثاق الأمم المتحدة، كما لميثاق جامعة الدول العربية... لم تكن تنقص الوفد اللبناني إلا إشارة أحد المشاركين إلى أن الحل السوري يمكن أن يكون على طريقة «الطائف اللبناني»، ليذكّر مسؤولو بيروت كل الحاضرين بأن طائف لبنان تمّ بالقوة، وأثبت بما انتهى إليه اليوم، أن القوة لا تشكل حلاً لأي قضية، بل تأزيماً لها وتعميقاً وتعميماً...

بعد أسبوعين تعود طاولة فيينا إلى الانعقاد. لكن مسارها بات واضحاً. يبقى حتى الموعد التالي ترقّب أمرين: من سيكون ممثلاً لأنقرة فيها؟ وكيف تكون خطوط التماس السورية عندها؟ مسألتان يرجّح أن تسرّعا ذلك المسار لا غير.

  • فريق ماسة
  • 2015-10-30
  • 13941
  • من الأرشيف

فيينا: تركيا خاسر أول... السعودية خلفها ...بقلم جان عزيز

مسار جديد قد بدأ، والأميركي وسيط فيه لا طرف... إنهما الخلاصتان الأساسيتان اللتان انتهى إليهما نهار فيينا السوري الطويل، كما يؤكد المشاركون فيه. أما التفاصيل فتحمل الكثير من الوقائع المفاجئة والمعطيات المعبرة والرسائل البالغة الدلالة.  في الشكل أولاً، كانت المشهدية النمساوية معبّرة في حدّ ذاتها. أن يكون الأميركي على رأس الطاولة، إلى جانب الروسي، صورة تراتبية انسحبت على كامل المضمون. فوزير الخارجية الأميركي جون كيري حرص طيلة النهار على لعب دور الوساطة لا غير. لم يظهر لحظة في صف الأعداء الصقور لحكم دمشق. فظلت الرياض وأنقره شبه وحيدتين في تعنّتهما، كل منهما على طريقته، فيما كيري يدوّر الزوايا ويقرّب وجهات النظر ويحدد أولويات إدارته وبلاده. منذ اللحظات الأولى، حسم كيري أن المطلوب هو عملية سياسية تؤمن انتقالاً سلمياً للسلطة. لكنه عند الوصول إلى إشكالية المرحلة الانتقالية والانتخابات وبقاء الرئيس الأسد، يصير المسؤول الأميركي شبه ناظر على مواقف حلفائه. يكتفي من قضية مصير بشار بخلاصة مبسطة، عنوانها: هذه مسألة اتفقنا على أننا مختلفون حولها. فلننتقل إلى سواها!  أما حين يصل النقاش إلى الوضع الميداني والتطورات العسكرية على الأرض، فتصبح الفجوة أكبر بين الأميركي وحليفيه المفترضين، السعودي والتركي. فالأخير ظل على مدى ساعات يظهر توتره وفقدان شيء من أعصابه وبعض الصواب، في محاولة جرّ المتحاورين إلى معادلة أن التدخل العسكري في سوريا يجب أن يشمل في أهدافه سلطة دمشق، فيما كان موقف كيري جازماً: نحن في سوريا لن نضرب إلا داعش. وعندما أبلغ الناظر الأميركي الحاضرين أن البيت الأبيض سيعلن عن إرسال قوات عسكرية محدودة إلى الشمال السوري للمساعدة في الحرب ضد داعش وحدها دون سواها، صار التوتر التركي ظاهراً على تقاسيم الوجه وحركات اليدين. كأنه يعتبر أن الخطوة الأميركية مرتبطة باستحقاق الانتخابات التركية بعد ساعات، أكثر منها ارتباطاً بما يحصل في دمشق وبما قد يكون مستقبل حكمها الراهن. هكذا بدا التركي الخاسر الأكبر في بوكر فيينا. لا طرح. ولا حتى حلفاء. السعودي حلّ طبعاً في مرتبة الخاسر الثاني بوضوح. ذلك أن مشروعه المحصور برحيل الأسد، بدا يتيماً وعقيماً. حتى هو كان عاجزاً عن بلورة آلياته أو طرح عمليته التنفيذية، إذ ظهر السعودي عالقاً بين استحالتين بالنسبة إليه: استحالة أن يدعو إلى إسقاط الأسد بالقوة. وهي استحالة باتت أقرب إلى الجنون في حضور الثنائي الكبير على رأس الطاولة: الروسي يقاتل إلى جانب الأسد. والأميركي يؤكد أنه صار مستعداً لبذل التضحيات البشرية، لكن في عملية ضرب داعش لا سواها. أما الاستحالة الثانية فأن يدعو السعودي إلى إسقاط الأسد بالانتخابات وفي صناديق الاقتراع. هنا بدا السعودي وكأنه أمام محظورين اثنين: أولاً عجزه المفهومي، كنظام عائلي وكسلطة أوتوقراطية، عن أن يلفظ كلمة انتخاب أو يعلن مطلباً متلازماً مع مبدأ الاقتراع. وثانياً إدراكه أن الأسد قادر على الفوز في أي انتخابات نزيهة تجرى في ظل أي إشراف حيادي عادل. هكذا اكتفى السعودي على مدى ساعات بتكرار لازمة بدت مملة مضجرة: رحيل الأسد. ولو حشر أكثر بسؤاله حول كيفية الطرح، لأجاب ربما: على الطريقة السعودية. بصفقة، بتهريبة، بتصفية، المهم أن يرحل! في الجهة المقابلة من الوسيط الأميركي ومن المتوترين التركي والسعودي، كان الإيراني حاضراً ببسمته وهدوئه. كأنه يقول للجميع: لا بديل لوجودي على هذه الطاولة. رغم أنه جاء إلى مسار انطلق قبل زمن طويل من دونه، بدا كأنه كان حاضراً في أساسه أو مؤسّساً له. حضر الإيراني للمرة الأولى، لكن كالرقم الصعب في هذا المسار. كأنه التحق به من دون ثمن ولا تنازل. لم يكن ينقص غير توافقه الظاهر مع القطبين المترئسين طاولة التفاوض، الروسي كما الأميركي، ليؤكد أنه يملك الأوراق الرابحة في اللعبة الدائرة. عند عرض الاحتمالات، كان مستعداً لها كلها. أو حتى متحدياً: تريدون مرحلة انتقالية؟ فلنذهب إليها فوراً، ونتوّجها بانتخابات حرة نزيهة عادلة، وفق أي منطق ديمقراطي غربي أو أممي. وبدا واثقاً من فوز حليفه... تريدون حرباً ضد الإرهاب؟ جاهزون لها أيضاً، ولنتعاون جميعاً عليها. فعنوان الإرهاب والإرهابيين واضح معروف، طرفاً مقاتلاً وأطرافاً مموّلة ومسلحة ومكفرة ومفكرة... أخيراً تريدون حرباً ضد الأسد وحده؟ جاهزون أيضاً، كما كنا منذ أربعة أعوام ونيف. وليتحمل كل طرف مسؤوليته وليربح الأقوى! وحده لبنان بدا على طاولة الكبار تلك وكأنه مرجعية أممية أو جهة ناظرة للقانون الدولي. فعلى قاعدة «النأي بالنفس» اللبنانية المزمنة، ظل طرحه غير مقيّد ولا مكبّل بأي اعتبار: أولاً، نحن مع محاربة الإرهاب أينما كان وبكل الوسائل المشروعة. ثانياً نحن مع السلام على قاعدة الحقوق الشاملة والحوار. ثالثاً نحن مع حق الشعوب في تقرير مصيرها. ومع وسيلة وحيدة أكيدة لتحقيق ذلك، عبر انتخابات حرة عادلة نزيهة، تماماً كتلك التي حرم الشعب اللبناني منها طيلة ربع قرن. رابعاً، نحن مع احترام سيادة كل دولة، ومع وحدة أرضها كاملة. منعاً لفوضى قد تهدد السلام والأمن الدوليين، والتزاماً بالمضمون والفلسفة اللذين أسّسا لميثاق الأمم المتحدة، كما لميثاق جامعة الدول العربية... لم تكن تنقص الوفد اللبناني إلا إشارة أحد المشاركين إلى أن الحل السوري يمكن أن يكون على طريقة «الطائف اللبناني»، ليذكّر مسؤولو بيروت كل الحاضرين بأن طائف لبنان تمّ بالقوة، وأثبت بما انتهى إليه اليوم، أن القوة لا تشكل حلاً لأي قضية، بل تأزيماً لها وتعميقاً وتعميماً... بعد أسبوعين تعود طاولة فيينا إلى الانعقاد. لكن مسارها بات واضحاً. يبقى حتى الموعد التالي ترقّب أمرين: من سيكون ممثلاً لأنقرة فيها؟ وكيف تكون خطوط التماس السورية عندها؟ مسألتان يرجّح أن تسرّعا ذلك المسار لا غير.

المصدر : الماسة السورية/ الأخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة