الشرق الأوسط ماض إلى نهاياته، الحلول العسكرية مستحيلة، الديبلوماسية شائكة وشاقة، التسوية النهائية حلم طوباوي.

العراق القديم انتهى، العراق الجديد ليس واحداً. الشمال فيه، منه وليس له. الجنوب فيه، يتسع ويتوسع، على حساب وسط ضائع، و «داعش» على الأبواب، تتراجع خطوة لتتقدم خطوتين. العراق يتآكل والأمل يتضاءل.

سوريا الدولة تترنَّح. الخراب يرث الركام. لا ترسيمة لكيان سوري موحد. رغبة فلاديمير بوتين في «الحفاظ» على دولة موحدة وعلمانية، يوتوبيا في متناول الأحلام. ليس لسوريا الماضية غير الإطار (البرواز) الذي يذكر الناس بها، يوم كانت «قلب العروبة النابض» وعاصمة الممانعة. ما فات منها قد مات. هذا عصر انتهى. سوريا الغد، تشبه خنادقها. تستبدل خنادق النار، بحدود الكيانات: كيان كردي في الشمال، دويلة في الساحل، عاصمة كونفيدرالية، ومدن «مفيدة»، موزعة وفق مذاهب السكان... يستقر هذا الخراب القومي سلميَّا، إذا نجحت «الحرب على الإرهاب»، وهي لم تبدأ بعد، لانشغال الجميع بالتوازن العسكري على الجبهات، حيث لا يهزم أحد، ولا ينتصر أحد.

تجرأت المخابرات الفرنسية والأميركية على قول تتفاداه السياسة وتنأى عنه الديبلوماسية. مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه ينعى المنطقة: «إن الشرق الأوسط الذي نعرفه، انتهى إلى غير رجعة». الدول فيه، مثل سوريا والعراق، لن تستعيد أبداً حدودها السابقة. ويمكن إضافة حاسمة إلى ذلك، «وهي لن تستعيد شعوبها أيضاً».

يصعب على مدير الـ «سي آي ايه» جون برينان «أن يتخيل وجود حكومة مركزية في أي دولة تتعرض لدمار الحرب». لذا، فلا قدرة لمثل هذه الحكومة ان تنوجد في سوريا، يصعب تلمسها في ليبيا أو في اليمن، أما العراق، فبينه وبين الدولة الواحدة استحالة مبرهنة. ويقترح برينان، اختصار رحلة الألف ميل السياسية، بخطوات صغيرة، لـ «خفض درجات الحرارة وخفض حدة النزاع».

فيينا، كما يبدو، لا تطمح إلى أكثر من ذلك، بعدما يكون قد تم الاعتراف المتبادل، بين الأطراف التي تمثل القوى المسلحة المتنازعة على كل شبر من الأرض السورية. التفاؤل ضروري، فقط، كفسحة نفسية لا أكثر. فالشرق الأوسط قد مات. ولا وجود لشرق أوسط قديم، ولا شرفة لشرق أوسط جديد، ولا متسع جغرافيا لشرق أوسط كبير... جل ما هو متوقع، قيام جزر برية غير متصالحة، محكومة بقوى تنتمي إلى عصر ما قبل الدولة.

لقد عاش الشرق الأوسط قرناً مريضاً بالحروب والانتكاسات والهزائم والفتن والجمود والتخلف والظلم والديكتاتورية، وحان وقت دفع الفواتير، بلا تأجيل. وهي باهظة الدم.

لا أحد مستعدا لوراثة الشرق الأوسط المدنف. الدول العظمى والوسطى، تشهد مسرحاً جديداً غير مسبوق. أميركا تتلكأ. لم تعد قادرة على ملء الفراغ، أو، لا رغبة لديها في ذلك. أوروبا، ليست في الوارد. قوتها من بضاعة كلامية لا أكثر. روسيا، حذرة جداً.

غاراتها الجوية جاءت مصحوبة بسعي حثيث لجمع الأطراف كافة، لإشراكها بحل ما، يملأ فراغاً، أو يعوِّض عن غياب. المشاركون والمدعوون لا يحصون: أميركا، روسيا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، المانيا، المجموعة الأوروبية، إيران، السعودية، سلطنة عمان، دول الخليج، تركيا، مصر، الأردن، لبنان و... كل هذه وسواها، لكتابة نص جديد يبدأ بسؤال عن مصير الأسد، قبل البحث عن مصير سوريا؟

غريب هذا الدوران الدائم حول جملة وحيدة. غريب أكثر، أن يكون قد فات المشرق ان يدخل عصر الدول، فهل فات الأوان نهائياً؟ هل بات محكوماً على هذه الشعوب ان تنتظر حقبة قادمة، غير معروف زمانها، لتنهض من موتها وتفتتح عصر الدولة وعصر الديموقراطية وعصر الإنسان؟

نجحت القارات الخمس في التقاط لحظة النهوض. آخرها كانت أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وبعض الدول الأفريقية، فيما فشلت تركة «الرجل المريض»، في التعافي من اثقالها الثقافية الدينية وموروثها في التخلف، ودخلت العصر الحديث، بعدَّة تصلح لملوك الطوائف وزعماء العشائر وأئمة الفتاوى وجنرالات العقائد.

وبرغم كل ذلك، ليس من حقنا أن نيأس. لا بد من ضوء في آخر النفق.

  • فريق ماسة
  • 2015-10-29
  • 10979
  • من الأرشيف

الشرق الأوسط.. وداعاً

الشرق الأوسط ماض إلى نهاياته، الحلول العسكرية مستحيلة، الديبلوماسية شائكة وشاقة، التسوية النهائية حلم طوباوي. العراق القديم انتهى، العراق الجديد ليس واحداً. الشمال فيه، منه وليس له. الجنوب فيه، يتسع ويتوسع، على حساب وسط ضائع، و «داعش» على الأبواب، تتراجع خطوة لتتقدم خطوتين. العراق يتآكل والأمل يتضاءل. سوريا الدولة تترنَّح. الخراب يرث الركام. لا ترسيمة لكيان سوري موحد. رغبة فلاديمير بوتين في «الحفاظ» على دولة موحدة وعلمانية، يوتوبيا في متناول الأحلام. ليس لسوريا الماضية غير الإطار (البرواز) الذي يذكر الناس بها، يوم كانت «قلب العروبة النابض» وعاصمة الممانعة. ما فات منها قد مات. هذا عصر انتهى. سوريا الغد، تشبه خنادقها. تستبدل خنادق النار، بحدود الكيانات: كيان كردي في الشمال، دويلة في الساحل، عاصمة كونفيدرالية، ومدن «مفيدة»، موزعة وفق مذاهب السكان... يستقر هذا الخراب القومي سلميَّا، إذا نجحت «الحرب على الإرهاب»، وهي لم تبدأ بعد، لانشغال الجميع بالتوازن العسكري على الجبهات، حيث لا يهزم أحد، ولا ينتصر أحد. تجرأت المخابرات الفرنسية والأميركية على قول تتفاداه السياسة وتنأى عنه الديبلوماسية. مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه ينعى المنطقة: «إن الشرق الأوسط الذي نعرفه، انتهى إلى غير رجعة». الدول فيه، مثل سوريا والعراق، لن تستعيد أبداً حدودها السابقة. ويمكن إضافة حاسمة إلى ذلك، «وهي لن تستعيد شعوبها أيضاً». يصعب على مدير الـ «سي آي ايه» جون برينان «أن يتخيل وجود حكومة مركزية في أي دولة تتعرض لدمار الحرب». لذا، فلا قدرة لمثل هذه الحكومة ان تنوجد في سوريا، يصعب تلمسها في ليبيا أو في اليمن، أما العراق، فبينه وبين الدولة الواحدة استحالة مبرهنة. ويقترح برينان، اختصار رحلة الألف ميل السياسية، بخطوات صغيرة، لـ «خفض درجات الحرارة وخفض حدة النزاع». فيينا، كما يبدو، لا تطمح إلى أكثر من ذلك، بعدما يكون قد تم الاعتراف المتبادل، بين الأطراف التي تمثل القوى المسلحة المتنازعة على كل شبر من الأرض السورية. التفاؤل ضروري، فقط، كفسحة نفسية لا أكثر. فالشرق الأوسط قد مات. ولا وجود لشرق أوسط قديم، ولا شرفة لشرق أوسط جديد، ولا متسع جغرافيا لشرق أوسط كبير... جل ما هو متوقع، قيام جزر برية غير متصالحة، محكومة بقوى تنتمي إلى عصر ما قبل الدولة. لقد عاش الشرق الأوسط قرناً مريضاً بالحروب والانتكاسات والهزائم والفتن والجمود والتخلف والظلم والديكتاتورية، وحان وقت دفع الفواتير، بلا تأجيل. وهي باهظة الدم. لا أحد مستعدا لوراثة الشرق الأوسط المدنف. الدول العظمى والوسطى، تشهد مسرحاً جديداً غير مسبوق. أميركا تتلكأ. لم تعد قادرة على ملء الفراغ، أو، لا رغبة لديها في ذلك. أوروبا، ليست في الوارد. قوتها من بضاعة كلامية لا أكثر. روسيا، حذرة جداً. غاراتها الجوية جاءت مصحوبة بسعي حثيث لجمع الأطراف كافة، لإشراكها بحل ما، يملأ فراغاً، أو يعوِّض عن غياب. المشاركون والمدعوون لا يحصون: أميركا، روسيا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، المانيا، المجموعة الأوروبية، إيران، السعودية، سلطنة عمان، دول الخليج، تركيا، مصر، الأردن، لبنان و... كل هذه وسواها، لكتابة نص جديد يبدأ بسؤال عن مصير الأسد، قبل البحث عن مصير سوريا؟ غريب هذا الدوران الدائم حول جملة وحيدة. غريب أكثر، أن يكون قد فات المشرق ان يدخل عصر الدول، فهل فات الأوان نهائياً؟ هل بات محكوماً على هذه الشعوب ان تنتظر حقبة قادمة، غير معروف زمانها، لتنهض من موتها وتفتتح عصر الدولة وعصر الديموقراطية وعصر الإنسان؟ نجحت القارات الخمس في التقاط لحظة النهوض. آخرها كانت أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وبعض الدول الأفريقية، فيما فشلت تركة «الرجل المريض»، في التعافي من اثقالها الثقافية الدينية وموروثها في التخلف، ودخلت العصر الحديث، بعدَّة تصلح لملوك الطوائف وزعماء العشائر وأئمة الفتاوى وجنرالات العقائد. وبرغم كل ذلك، ليس من حقنا أن نيأس. لا بد من ضوء في آخر النفق.

المصدر : السفير/ نصري الصايغ


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة