دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
في اللحظة التي اندلع فيها الحريق العربي بدءاً من تونس كانت الخريطة الاستراتيجية للعالم تظهر أن هناك مجموعة دولية بقيادة أميركية وإلحاق أوروبي وتبعية إقليمية شرق أوسطية تمتلك القرار الدولي وتنفذه مستندة إلى قوتها الذاتية و«حق أميركا الإلهي» بقيادة العالم،
مستعملة المنظمات لدولية الأمم المتحدة والإقليمية الجامعة العربية لتمرير سياستها وإضفاء المشروعية على تدخلها في هذه الدولة أو تلك. ولأن لتلك المجموعة ثأراً مع محور المقاومة الذي رفض الخضوع لها وحقق انتصارات في مواجهتها فقد كان هذا المحور هدفاً لهجومها.
وفي هذا السياق، كانت سورية الميدان الرئيس الذي تتواجه فيه مجموعة العدوان على المنطقة بقيادة أميركية، ومحور المقاومة المتناسق في قيادة جماعية، وكان التصور العدواني مستخفاً في البدء بقدرات سورية ومحورها على الصمود في وجه الهجوم الواسع الذي تشارك فيه دول تكاد تصل إلى ثلثي العالم، وتصوّر المعتدي بأن أشهراً قليلة تكفي لإسقاط سورية كما سقطت لبيبا تحت وطأة تدخل الأطلسي الذي أدّى الى تشتت الدولة وحرمانها من مقومات بناء دولة.
لكن الصمود السوري الأسطوري سفّه أحلام المعتدي وجعله يتقلب في خطط واستراتيجيات متتابعة، حتى استنفد منها أربع خطط فشلت جميعها في تحقيق أهداف الهجوم واستمرت سورية قائمة كدولة ممسكة بمراكز الثقل النوعي الاستراتيجي للدولة بشكل يمنع تجاوزها أو التعامل دولياً مع سواها من مدّعي التمثيل للشعب السوري وبقيت محتفظة بمقعدها في الأمم المتحدة، وبحضورها على الساحة الدولية رغم مناورات ومكائد الجهة المعتدية.
وقد ساهمت روسيا بشكل أو بآخر في تعزيز الصمود السوري ومحور المقاومة منذ أربع سنوات، وتجلّى ذلك بداية في الفيتو المزدوج الذي استعملته مع الصين ضدّ مشروع قرار أعدّته الجهة المعتدية ليشرّع التدخل في سورية، وكان ذلك البداية العملية الأولى للوقوف الروسي بوجه الجهة المعتدية، ثم تتابع الموقف الروسي تصاعدياً وفقاً للظرف والفرص المتاحة إلى أن وصل اليوم إلى التدخل العسكري المباشر لمواجهة الإرهاب، وهنا تعدّدت الافتراضات والتصورات لنتائج هذا التدخل ومفاعيله وتداعياته.
نعم بعد 55 شهراً على بدء العدوان على سورية وبعد أربع سنوات على استعمال روسيا حق الفيتو في مجلس الأمن لمصلحة سورية، دخلت روسيا بثقلها العسكري الجوي إلى الأجواء السورية لمحاربة الإرهاب الذي ترى فيه خطراً أكيداً على أمنها القومي، كما ترى أنّ سقوط سورية بيد الغرب يعني تثبيت نظام عالمي أحادي القطبية بقيادة أميركية مع ما فيه من استباحة للسيادة الوطنية للدول ولنظرية الاستقلال والحرية ذاتها.
وبالتالي نرى أن التدخل العسكري الروسي في سورية هو تدخل دفاعي خاص وعام دفاع عن النفس، ودفاع عن حقوق الشعوب والدول بسيادتها الوطنية، دفاع يصبو إلى إرساء توازن دولي لا يمكن بدونه تحقق الامن والاستقرار العالمي.
وعلى هذا نرى أنّ المهمة الروسية في سورية هي من أخطر المهمات التي قد تضطلع بها دولة على الصعيد الوطني والدولي، ولذلك فإنّ روسيا محكومة بالنجاح في هذه المهمة مهما كانت التضحيات والكلفة لأنّ البديل يعني اختلال او انهيار التوازن على الساحة الدولية ما يستتبع استباحة الدول، بما في ذلك روسيا ذاتها وتلحقها الصين أيضاً .
وهنا نذكّر بما حصل قبل نيّف وثلاثة عقود، حيث خسر الاتحاد السوفياتي حربه في أفغانستان فارتدّت عليه الخسارة لتتضافر مع عوامل أخرى ارتداداً سلبياً بليغاً أدّى الى تفككه وانهيار التوازن الدولي، واليوم ومع الفارق الكبير بين الحالة الأفغانية والحالة السورية فإننا نرى أن نتائج الخسارة لن تكون أقل عبئاً ووطأة على الأمن القومي الروسي والنظام الدولي وفي أكثر من اتجاه وعنوان.
لذلك نرى أنّ روسيا بقيادتها الحالية التي تحترف العمل السياسي والأمني والعسكري وتعرف كيف يتمّ اقتناص الفرص، وتمتلك الجرأة لاتخاذ القرار والمبادرة للتنفيذ، أن روسيا هذه لم تتدخل في سورية الا بعد ان اطمأنت الى ظروف نجاحها وانتصارها في ميدان إقليمي دولي معقد. ولذلك نرى أن العملية العسكرية الروسية في سورية الرامية لمحاربة الإرهاب، تنفذ وفقاً لقواعد واستراتيجيات تضمن نجاحها، وأنها خططت على الشكل التالي:
1 ـــــ إنشاء غرفة عمليات رباعية للتنسيق والتعاون الاستخباري والاستعلامي بين الأطراف الجدية في مواجهتها للإرهاب، غرفة توفر المعلومة الدقيقة التي يتم العمل على أساسها في الميدان، كما وتقوم بتوزيع الأدوار والمهمات بين المكونات المشاركة، ثم التنسيق بينها في العمل الميداني العسكري المباشر. وبهذا يفهم الإعلان عن غرفة عمليات بغداد للاستعلام والتنسيق العسكري بين روسيا وإيران والعراق وسورية.
2 ــــ قيام الطيران الروسي بقصف جوي مؤثر يطال الإرهابيين والجماعات المسلحة التي ترفع السلاح بوجه الجيش العربي السوري، أياً كان عنوانها او انتماؤها او ارتباطها، قصف يطالها في منظومة القيادة والسيطرة ومنظومة الإدارة واللوجستية ومنظومة الدعم الناري والانتقال. وتكون الغاية من هذا القصف الممنهج تشتيت تلك الجماعات وحرمانها من القدرات الهجومية ودفعها لإخلاء الميدان أو التقوقع في مواقع دفاعية.
3 ــــ قيام الطيران الروسي بإسناد ناري مؤثر لمصلحة القوى البرية المشكلة أساساً من الجيش العربي السوري والقوات الحليفة أو الرديفة السورية أو غير السورية، من أجل تمكينها من الاندفاع لتطهير الأرض السورية من الإرهابيين والمسلحين الخارجين على القانون.
4 ــــ التزام روسيا بتحضير الأسلحة الاستراتيجية اللازمة لمنع التدخل العسكري الأجنبي في سورية، وبهذا نفهم كيف زجّت روسيا بقطعها البحرية المتعددة الوظائف، كما ووضعت المنظومة الصاروخية الروسية العابرة للقارات موضع الجهوز التام، بما في ذلك الصواريخ المعدّة لحمل رؤوس نووية.
وعليه وخلافا لما يروّج الإعلام المعادي، فإنّ روسيا في تدخلها المشروع في سورية لم تصعد إلى مركب يغرق بل دخلت إلى قطار رسم لنفسه سكة الانتصار الأكيد، وجعلت لمهمتها وظيفة دفاعية مقدسة لا تتردّد في تقديم أي جهد أو تضحية في سبيل نجاحها، وأرى أنّ أميركا تعلم جيداً كل ذلك، وتعرف أنّ روسيا لم تدخل الى سورية لتفشل، ولذلك لا أتصوّر مطلقاً بأنّ أميركا مستعدة للمنازلة مع روسيا على الأرض السورية، وباتت نتيجة المواجهة هناك محسومة لمصلحة روسيا ومحور المقاومة وفي مدة أقل بكثير مما ادّعت أميركا انّ محاربة الإرهاب تتطلبها وشتان ما بين مهلة السنوات العشر التي أطلقتها اميركا لمحاربة داعش، وبين الأشهر الأربعة التي حدّدتها روسيا لإنجاز المهمة… إنه انتصار الدفاع عن المنطقة والعالم في وجه منظومة عدوان استعماري ظالم يستهدفها.
المصدر :
.العميد د. أمين محمد حطيط
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة