دخلت روسيا في الأيّام والأسابيع القليلة الماضية بكل ثقلها في الملفّ السوري، على الصعيدين السياسي والعسكري، في محاولة للإلتفاف على أيّ مسعى غربي - على يد الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا أو غيره، لحلّ سياسي جديد قد يستبعد حليفها الأساسي في المنطقة الرئيس بشار الأسد وقد لا يحفظ مصالحها الإستراتيجيّة، وكذلك لإستباق أيّ توسيع لحجم التدخّل العسكري الغربي أيضاً والذي قد يصبّ في النهاية في غير الخطط المتوسّطة والبعيدة المدى التي تضعها للمنطقة. 

على الصعيد السياسي، تضغط موسكو حالياً لإقناع كل من الولايات المتحدة الأميركيّة التي تبحث عن أي مكسب لها في الشرق الأوسط بعد السقطات السياسيّة والعسكريّة المُتتالية، والدول الأوروبيّة التي تعلم أنّ لا حلّ لمشكلة الهجرة غير الشرعيّة إلى أراضيها سوى بمعالجة الملفّ السوري ونزع الأسباب التي تدفع الشعب السوري إلى محاولة الوصول إلى أراضيها بأيّ طريقة، بأنّ فرصة التوصّل إلى حلّ في سوريا ممكنة، شرط أن يَبقى النظام الحالي إلى حين تنظيم إنتخابات جديدة، وشرط أن يتم التعامل مع "مُعارضة الداخل" وبعض الشخصيّات الخارجية غير المُتورطّة بأيّ عمليّات أمنيّة فقط لا غير. وعلى الرغم من أنّ موسكو تُدرك سلفاً أنّ هكذا حلّ لا يُمكن أن ينجح كونه يُلبّي شروط الرئيس الأسد التي كان قد رفعها منذ بداية الأزمة، إلا أنّها تراهن على إمكان أن يُشكّل أرضيّة للبحث عن حل، باعتبار أنّ الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية ليست حالياً في أفضل أحوالها السياسيّة والدبلوماسية، والأهمّ أنّ خطر تنظيم "داعش" الإرهابي يُمكن أن يجمع مروحة دَوليّة واسعة لمواجهته، حيث من غير المُستبعد أن يتمّ في المُستقبل مثلاً تنسيق غارات مُشتركة على مُسلّحي الجماعات الإسلاميّة المُتشدّدة في سوريا. وليس سرّاً أنّ موسكو إقترحت أخيراً عقد مُحادثات عسكريّة مع واشنطن، في محاولة للتوصّل إلى إتفاق بشأن سبل مُعالجة الملفّ السوري.

على الصعيد العسكري، قامت روسيا بتكثيف تحرّكاتها البحريّة في البحر الأبيض المتوسّط، وطلعاتها الجويّة فوقه وُصولاً إلى عمق الساحل السوري، في الوقت الذي زاد حجم المناورات التي تقوم بها القطع العسكريّة الروسية في المنطقة، والتي تمّ آخرها مطلع الأسبوع الماضي. وترافق "عرض العضلات" الروسي هذا، مع تعزيز الجسر الجوّي الروسي إلى سوريا والذي ينقل مجموعة مُنوّعة من الأسلحة والذخائر، إضافة إلى مُباشرة خبراء روس الإشراف على توسيع وتطوير ميناء طرطوس العسكري للسماح للسفن الكبيرة بالرسو فيه، والعمل على إنشاء قاعدة جويّة وعلى توسيع أحد المطارات العسكريّة في اللاذقيّة، على الرغم من النفي الروسي لذلك. وبحسب أكثر من خبير في الشؤون الدَوليّة، إنّ موسكو لا تعتبر دمشق حالياً مَوطئ قدم لمصالحها في المشرق العربي فحسب(2)، وإنّما خط مُواجهة مُتقدّم مع الإسلاميّين المُتطرّفين الذين-برأيها، إن ربحوا المعركة ضُدّ النظام السوري، فسيُشكّلون في المُستقبل دافعاً وحافزاً لتحرّك العديد من العناصر داخل دول الإتحاد السوفياتي السابق ذات الأغلبيّة المُسلمة ضُد روسيا الإتحاديّة. لذلك، لن تتردّد موسكو في مدّ النظام السوري بجزء كبير من آلتها العسكريّة، بالتنسيق مع حليف سوريا الإقليمي، أي إيران، وذلك في محاولة للحفاظ على قُدرة نظام الرئيس الأسد على الدفاع عما إصطلح على تسميته "سوريا المُفيدة". 

إشارة إلى أنّ النظام السوري يُسيطر حالياً على ما بين ربع إلى ثلث المساحة الإجماليّة من سوريا، لكنّه يعتبر أنّه بموقع المُنتصر لأنّه يُسيطر على ما جرى تسميته "سوريا المفيدة"، وهي المدن التي تضمّ 75 % من عدد السكّان الإجمالي في سوريا بغضّ النظر عن حجم الهجرة الداخلية والخارجية، وعلى 80 % من المصانع والمعامل بغضّ النظر عن حجم الصناعة الحاليّة والإنتاج الفعليّ، وعلى الخط الساحلي الذي يربط سوريا بالعالم الخارجي عبر البحر الأبيض المتوسّط بغضّ النظر عن أنّ أغلبيّة الخط البرّي الذي يربط سوريا بكل من تركيا والعراق هو خارج سيطرة الجيش السوري إضافة طبعاً إلى الجولان المُحتلّ من قبل الجيش الإسرائيلي، والخط مع لبنان المفتوح.

وفي الخلاصة، يُمكن القول إنّ روسيا، تُواصل مدّ النظام السوري بالأوكسيجين الدَولي الضروري لإنعاشه، بالتزامن مع قيام إيران بمدّه بالأوكسجين الإقليمي، عبر تدخّلها المُباشر المُتمثّل بالسلاح والمال، وغير المُباشر المُتمثّل بمشاركة مُقاتلي "حزب الله" اللبناني وباقي المجموعات العسكرية التي جرى إرسالها من دول أخرى، في العمليّات العسكريّة الهجوميّة البرّية. والأكيد أنّ التدخّل الثلاثي الذي يجمع ما بين روسيا وإيران و"حزب الله" بشكل أساسي، بلغ حالياً أعلى مُستوياته للدفاع عن "الدُويلة السوريّة" التي تمتد على طول الساحل البحري وبمحاذاة الحدود اللبنانيّة وُصولاً إلى القنيطرة ودرعا. لكن هذا التدخّل المُتصاعد سيُؤدّي حتماً إلى تدويل الأزمة السوريّة أكثر فأكثر، ما يعني أنّ الحلّ سيُصبح مربوطاً بمصالح المزيد من الدول والجهات، وبالتالي سيُصبح أكثر صعوبة وتعقيداً، ما يفتح المجال أمام مزيد من الجولات القتالية لتعزيز أوراق التفاوض.

 (1) على الرغم من أن روسيا تُكرّر دائماً بأنّها لا تتمسّك بالنظام السوري بل بالدولة السوريّة.

(2) لجهة الوجود السياسي الفاعل في الشرق الأوسط، والثقل العسكري المُتمثّل بالقواعد العسكرية وبالإنتشار في البحر الأبيض المتوسّط، وكذلك الحرص على التواجد القوي في منطقة واعدة إقتصادياً حيث كشف المسح الجيولوجي وجود كميّات ضخمة من المُشتقات النفطيّة والغازيّة في البحر الأبيض المتوسط، ومنها طبعاً في المياه الإقليميّة السوريّة.

  • فريق ماسة
  • 2015-09-17
  • 9494
  • من الأرشيف

هذا ما تفعله موسكو لدمشق حالياً...

دخلت روسيا في الأيّام والأسابيع القليلة الماضية بكل ثقلها في الملفّ السوري، على الصعيدين السياسي والعسكري، في محاولة للإلتفاف على أيّ مسعى غربي - على يد الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا أو غيره، لحلّ سياسي جديد قد يستبعد حليفها الأساسي في المنطقة الرئيس بشار الأسد وقد لا يحفظ مصالحها الإستراتيجيّة، وكذلك لإستباق أيّ توسيع لحجم التدخّل العسكري الغربي أيضاً والذي قد يصبّ في النهاية في غير الخطط المتوسّطة والبعيدة المدى التي تضعها للمنطقة.  على الصعيد السياسي، تضغط موسكو حالياً لإقناع كل من الولايات المتحدة الأميركيّة التي تبحث عن أي مكسب لها في الشرق الأوسط بعد السقطات السياسيّة والعسكريّة المُتتالية، والدول الأوروبيّة التي تعلم أنّ لا حلّ لمشكلة الهجرة غير الشرعيّة إلى أراضيها سوى بمعالجة الملفّ السوري ونزع الأسباب التي تدفع الشعب السوري إلى محاولة الوصول إلى أراضيها بأيّ طريقة، بأنّ فرصة التوصّل إلى حلّ في سوريا ممكنة، شرط أن يَبقى النظام الحالي إلى حين تنظيم إنتخابات جديدة، وشرط أن يتم التعامل مع "مُعارضة الداخل" وبعض الشخصيّات الخارجية غير المُتورطّة بأيّ عمليّات أمنيّة فقط لا غير. وعلى الرغم من أنّ موسكو تُدرك سلفاً أنّ هكذا حلّ لا يُمكن أن ينجح كونه يُلبّي شروط الرئيس الأسد التي كان قد رفعها منذ بداية الأزمة، إلا أنّها تراهن على إمكان أن يُشكّل أرضيّة للبحث عن حل، باعتبار أنّ الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية ليست حالياً في أفضل أحوالها السياسيّة والدبلوماسية، والأهمّ أنّ خطر تنظيم "داعش" الإرهابي يُمكن أن يجمع مروحة دَوليّة واسعة لمواجهته، حيث من غير المُستبعد أن يتمّ في المُستقبل مثلاً تنسيق غارات مُشتركة على مُسلّحي الجماعات الإسلاميّة المُتشدّدة في سوريا. وليس سرّاً أنّ موسكو إقترحت أخيراً عقد مُحادثات عسكريّة مع واشنطن، في محاولة للتوصّل إلى إتفاق بشأن سبل مُعالجة الملفّ السوري. على الصعيد العسكري، قامت روسيا بتكثيف تحرّكاتها البحريّة في البحر الأبيض المتوسّط، وطلعاتها الجويّة فوقه وُصولاً إلى عمق الساحل السوري، في الوقت الذي زاد حجم المناورات التي تقوم بها القطع العسكريّة الروسية في المنطقة، والتي تمّ آخرها مطلع الأسبوع الماضي. وترافق "عرض العضلات" الروسي هذا، مع تعزيز الجسر الجوّي الروسي إلى سوريا والذي ينقل مجموعة مُنوّعة من الأسلحة والذخائر، إضافة إلى مُباشرة خبراء روس الإشراف على توسيع وتطوير ميناء طرطوس العسكري للسماح للسفن الكبيرة بالرسو فيه، والعمل على إنشاء قاعدة جويّة وعلى توسيع أحد المطارات العسكريّة في اللاذقيّة، على الرغم من النفي الروسي لذلك. وبحسب أكثر من خبير في الشؤون الدَوليّة، إنّ موسكو لا تعتبر دمشق حالياً مَوطئ قدم لمصالحها في المشرق العربي فحسب(2)، وإنّما خط مُواجهة مُتقدّم مع الإسلاميّين المُتطرّفين الذين-برأيها، إن ربحوا المعركة ضُدّ النظام السوري، فسيُشكّلون في المُستقبل دافعاً وحافزاً لتحرّك العديد من العناصر داخل دول الإتحاد السوفياتي السابق ذات الأغلبيّة المُسلمة ضُد روسيا الإتحاديّة. لذلك، لن تتردّد موسكو في مدّ النظام السوري بجزء كبير من آلتها العسكريّة، بالتنسيق مع حليف سوريا الإقليمي، أي إيران، وذلك في محاولة للحفاظ على قُدرة نظام الرئيس الأسد على الدفاع عما إصطلح على تسميته "سوريا المُفيدة".  إشارة إلى أنّ النظام السوري يُسيطر حالياً على ما بين ربع إلى ثلث المساحة الإجماليّة من سوريا، لكنّه يعتبر أنّه بموقع المُنتصر لأنّه يُسيطر على ما جرى تسميته "سوريا المفيدة"، وهي المدن التي تضمّ 75 % من عدد السكّان الإجمالي في سوريا بغضّ النظر عن حجم الهجرة الداخلية والخارجية، وعلى 80 % من المصانع والمعامل بغضّ النظر عن حجم الصناعة الحاليّة والإنتاج الفعليّ، وعلى الخط الساحلي الذي يربط سوريا بالعالم الخارجي عبر البحر الأبيض المتوسّط بغضّ النظر عن أنّ أغلبيّة الخط البرّي الذي يربط سوريا بكل من تركيا والعراق هو خارج سيطرة الجيش السوري إضافة طبعاً إلى الجولان المُحتلّ من قبل الجيش الإسرائيلي، والخط مع لبنان المفتوح. وفي الخلاصة، يُمكن القول إنّ روسيا، تُواصل مدّ النظام السوري بالأوكسيجين الدَولي الضروري لإنعاشه، بالتزامن مع قيام إيران بمدّه بالأوكسجين الإقليمي، عبر تدخّلها المُباشر المُتمثّل بالسلاح والمال، وغير المُباشر المُتمثّل بمشاركة مُقاتلي "حزب الله" اللبناني وباقي المجموعات العسكرية التي جرى إرسالها من دول أخرى، في العمليّات العسكريّة الهجوميّة البرّية. والأكيد أنّ التدخّل الثلاثي الذي يجمع ما بين روسيا وإيران و"حزب الله" بشكل أساسي، بلغ حالياً أعلى مُستوياته للدفاع عن "الدُويلة السوريّة" التي تمتد على طول الساحل البحري وبمحاذاة الحدود اللبنانيّة وُصولاً إلى القنيطرة ودرعا. لكن هذا التدخّل المُتصاعد سيُؤدّي حتماً إلى تدويل الأزمة السوريّة أكثر فأكثر، ما يعني أنّ الحلّ سيُصبح مربوطاً بمصالح المزيد من الدول والجهات، وبالتالي سيُصبح أكثر صعوبة وتعقيداً، ما يفتح المجال أمام مزيد من الجولات القتالية لتعزيز أوراق التفاوض.  (1) على الرغم من أن روسيا تُكرّر دائماً بأنّها لا تتمسّك بالنظام السوري بل بالدولة السوريّة. (2) لجهة الوجود السياسي الفاعل في الشرق الأوسط، والثقل العسكري المُتمثّل بالقواعد العسكرية وبالإنتشار في البحر الأبيض المتوسّط، وكذلك الحرص على التواجد القوي في منطقة واعدة إقتصادياً حيث كشف المسح الجيولوجي وجود كميّات ضخمة من المُشتقات النفطيّة والغازيّة في البحر الأبيض المتوسط، ومنها طبعاً في المياه الإقليميّة السوريّة.

المصدر : ناجي س. البستاني - النشرة


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة