في مقهى بيروتي شتاء العام 2013، أبدى ديبلوماسي أوروبي مختص بالشؤون الأمنية السورية، شكوكه حيال قدرة الجيش السوري على الثبات.
كان الرجل الذي عايش تقلبات دمشق واستقرارها على مدى خمس سنوات من خدمته فيها، عاد للتو من زيارة ليومين إلى العاصمة السورية، ومر على حواجز الجيش المتناثرة على الطريق الدولي وقبله. «الجنود يبدون مرهقين. ولا يظهر أنهم يأكلون جيداً. وفي هذا البرد القارس، يلقون بالحطب في أوعية معدنية صدئة ويشعلونه للدفء..» سرد مشاهداته، منتقلاً لاستنتاجه بأن «هذا المشهد وفق المعارف العسكرية التي تلقيتها لا يشي بكثير من الثقة»، مضيفاً «أعتقد أن جيشكم قد تعب، وسيكون إلى تراجع».
بعد عامين على هذا اللقاء، وتحديداً أوائل هذا الصيف، كان ثمة كلام مختلف. روى ديبلوماسي أوروبي مخضرم أنه سأل ضابطاً عسكرياً، يعمل لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل، كيف يفسر قدرة الجيش السوري برغم نكساته الأخيرة، على القيام بمهامه حتى هذه اللحظة، أو ما تيسر له الظروف القيام به من هذه المهام؟ الجنرال قدم جواباً استبقه برفع كتفيه حائراً بأن «الأمر عصي على التفسير، وأشبه بالمعجزة».
حادثة عسكرية، جرت في مطار الـ «تي فور» الشهير على طريق تدمر حمص، تجيب عن هذا الاستفهام ومثيلاته.
بعد أيام على استيلاء تنظيم «داعش» على مدينة تدمر منذ شهرين، انتشرت أخبار عن محاولة اقتحام جرت للمطار العسكري من قبل التنظيم باستخدام مفخخات. جاءت الأخبار نتيجة صوت انفجار ضخم سمع في حرم المطار، نفت إثره السلطات حصول أي اقتحام. لكن الانفجار كان حصل فعلاً، في مستودع ذخيرة، نتيجة خطأ مجهول، وأودى بحياة عدة عناصر من الجيش، كما أدى إلى أضرار مادية كبيرة، طالت على الأقل ثلاث طائرات عسكرية.
تقديرات الخبراء التقنيين للإدارة العسكرية، كانت أن هذه الطائرات أعطبت نهائياً، نتيجة اختراق الشظايا لهياكلها وأجنحتها وأحياناً محركاتها. وفيما كانت الإدارة تعد تقريرها للقيادة العسكرية بعد أيام حول الحادث، أعلم قائد المطار بضرورة تفقد مواقع صيانة الطائرات على بعد مئات الأمتار من مكتبه، حيث اكتشف هناك أن ورشات الإصلاح تمكنت من إعادة طائرتين حربيتين للخدمة «بسبل الحاجة أم الاختراع»، فيما تحتاج الثالثة لوقت أطول و «إن كانت ستعود للتحليق لاحقاً».
خبرة فنيي الجيش في اجتراح الحلول كبيرة، نتيجة تعاطيهم أساساً مع معدات قديمة، وأسلحة بعضها يعود لفترة الحرب العالمية الثانية. وقد كانت إستراتيجية الجيش منذ زمن طويل، تستند للقدرة الصاروخية، مسنودة بالتعداد البشري، والاستعداد العقائدي أكثر منها على العتاد الحديث، والذي لم يكن متاحاً أساساً، وذلك استعداداً لمعركة مختلفة كل الاختلاف عن المعركة الراهنة.
ظروف الحرب الحالية لم تأت في أي سياق خطط له سابقاً، وبالتالي فاجأت إدارة الجيش وكوادره معاً، إلا أنها فرضت على جسمه الثقيل والمعد لحرب على جبهة واحدة، الدخول في متاهات حروب المدن، وعلى مئات الجبهات، ومع أعداء كثر وتحالفات دولية وإقليمية ضخمة، بغرف استخبارات متقدمة.
واستغرق تأقلم الجيش وقتاً طويلاً مع الحرب الجديدة السمات، والتي كان عدوه تحضر لها بشكل مسبق، عبر تطوير تقنية حفر الأنفاق، والاعتماد على البيئات الحاضنة، وترسيخ بُعدٍ عقائدي ديني ومذهبي للصراع، والاعتماد على الجبهات المفتوحة زمنياً.
كان على الجيش أن يقاتل عقائدياً، هو الآخر، وكان هذا صعباً، نتيجة الآلة الإعلامية المتردية التي تمتلكها الدولة، إلا أن تردي أخلاق ومهنية الآلة الإعلامية المضادة، سمح بتوجيه معنويات الجنود بالاتجاه المطلوب، برغم ذلك.
وحاصرت أدبيات المعارضة المقاتل السوري من أجل الدولة التي يعرفها، في وجه احتمالات الدول العديدة التي لا يعرفها. وهذا لم يكن صعباً، فبعد مرور أربعة أعوام على الحرب الدامية، استنزف مقاتلو الجانب الآخر «حجة القتال لسوريا حرة»، فرفع مقاتلو «جيش الفتح» فيديوهات لهم على الانترنت إثر السيطرة على معسكر المسطومة في إدلب ربيع هذا العام، تعلن أن معركتهم مستمرة من أجل «سوريا سنِّية»، في الوقت الذي ما زالت أدبيات السلطة وحلفائها تخلو من «هذه الخيارات المشابهة».
واستنفرت الدولة بالطبع رجال دينها لـ«توجيه المقاتلين نحو عقيدة موحدة، مذكرة بالفكرة القومية الموحدة، ولو بتكوينها السوري». وحصل التوجه أساساً في المناطق التي تتلون فيها قطع الجيش مذهبياً، والذي خلافاً لتقارير عديدة ما زال يحوي قواماً كبيراً من المجندين المنتمين للمذهب السني، ولا سيما في قوات «الوحدات الخاصة»، في جبهات الشمال والجنوب.
ووفقاً لما يرويه ضباط وجنود كثر فإن من «انشق فَعَلها وانتهى الأمر» منذ أشهر بعيدة. صحيح أن ضباطاً وجنوداً كثراً اختاروا هوياتهم الصغرى على هويتهم الكبرى، فتوقف بعضهم عن الالتحاق بقطعته، أو هرب بسلاحه أو التحق بصفوف الخصم. وكثرت أسباب الانشقاق عن الجيش، بينها القناعة الإيديولوجية، ومنها الأسباب الاجتماعية المتعلقة ببيئة العسكري، ولا سيما التي يستهدفها طيران الجيش وطوافاته، مخلفاً ضحايا، وأحياناً لطموحات شخصية أو مادية بحتة.
إلا أن الجيش الذي عقد خيوطه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ظل متماسكاً، حتى في لحظات تبعثر نشاطه بين الجبهات، وتضييق أوردته وبأس خصومه. وثمة ضابط روى، في بداية الأحداث، أن الجيش غير مؤهل لانشقاقات كبرى، كما في ليبيا مثلاً، مشيراً، من باب التوصيف، إلى أنه لو اختار هو نفسه الانشقاق، لما تجاوز العدد شخصه وسائقه وحاجبه الشخصي. وساهمت التركيبة المعقدة للجيش، من قوى مختلفة تقوم جميعها بمهام مستقلة وأحياناً متنافسة على جعل الجيش مرناً في الحركة بين الجبهات، وذلك تحت إدارة واحدة أو قيادة عسكرية صغرى ضليعة بتكوين قواتها وتموضعها.
كل هذا ساعد القوة العسكرية على امتصاص نكسات كبيرة للغاية، كان يمكن أن تصيب قلب أية مؤسسة عسكرية أو سياسية بالوهن وربما الموت، خصوصاً تلك التي حصلت في مدرسة المشاة في العام 2012، وفي «الفرقة 17» في العام 2014 ومطار الطبقة بعد أشهر من العام ذاته، ولاحقاً في إدلب.
ولا شك أن طبيعة الحكم المركزي تساعد على إبقاء هذا الجيش متماسكاً ومتعالياً عن النقد. كما أن ضخ المساعدات التي يقوم بها الحلفاء والأصدقاء، والإيمان بأنهم «لن يتخلوا عنا لأنها معركتهم هي الأخرى»، وتواجدهم المعنوي على ارض النار، ولو على مستوى خبراء وموجهين ترك دوره على معنويات آلاف الشبان الذين يفترشون الأرض تحت ظلال مدرعاتهم أو على صخور الطريق منذ أربع سنوات.
وبرغم أن كثراً، اختاروا بعد تجارب مريرة، وانعدام الأفق السياسي، كما العسكري أن يبقوا في منازلهم في «انتظار أن تأتي المعركة إلينا»، وبين هؤلاء ناجون من عمليات أسر استمرت أكثر من عام، أو مفقودون وجدوا طريقهم بعد مرور وقت طويل، أو ناجون من مجازر جماعية، أصابتهم خيبات مؤلمة من «استرخاص موت الناس الذي صار واقعاً»، إلا أن الغالبية العظمى ممن كُتبت لهم النجاة من جولة بعد الأخرى، ولا سيما في المعارك الكبرى، ما زالوا يختارون العودة إلى جبهاتهم.
وتركت نكسات الجيش الكبرى في السنوات الأربع أثراً معنوياً سلبياً للغاية على نفوس المقاتلين، كما أن تراجع أدائه مؤخراً، دفع إلى الواجهة تغيير بعض تكتيكاته، عبر «محاولة الاحتفاظ بالمناطق التي يسيطر عليها» و «ترك أولويات في المعركة مرتبطة بالمناطق الأكثر حيوية بالنسبة للدولة». كما بدأ تشجيع الحواضن الشعبية والسكان للدفاع عن مناطقهم، مركِّزاً كاقتراح على مقارنة «الدولة والوطن» بـ «بالتشتت والعبودية» للقوى التكفيرية. وصدر أمس لهذه الغاية قرار عسكري بحصر خدمة أبناء حمص العسكرية في مناطق حمص، على أن تصدر قرارات مشابهة بالنسبة إلى مناطق أخرى.
ويقول جندي، في منتصف العشرينيات، خدم لمدة أربعة أعوام على جبهات إدلب والقلمون وجوبر، إن «الأمر تحول إلى أسلوب حياة أو عمل»، مشيراً الى أنهم ينتقلون من تلة إلى تلة في القلمون، بالروتين ذاته الذي يستهدفون به تحصينات المقاتلين في جوبر أو إدلب، متوقعين في أي لحظة أن يتحول «الروتين» إلى معركة حامية.
بدورهم، ينفذ الطيارون، الذين يشكلون عنصر التفوق اللوجستي الوحيد للجيش على خصومه آلان، عشرات الطلعات الجوية يومياً، بمعدل 10 طلعات لليوم الواحد، وهو ما يفوق قدرات التحمل الصحية للطيارين بشكل عام.
ولا يحقق المقاتلون جدوى مادية تذكر، إلا لمن اختار مخالفة القوانين والقواعد الأخلاقية، كما يتناولون في كثير من الأحيان وجبات أعدوها بأنفسهم، أو الوجبات ذاتها على مدى أشهر.
ويجيب ضابط برتبة عقيد ببساطة على هذا السؤال المعقد «كيف يصمد الجيش؟» بقوله إن «الجيش لا يمتلك سوى خيار من اثنين: إما القتال أو الهزيمة والاستسلام». والجملة الأخيرة بالنسبة لكثر لا تحمل أية آفاق أو مستقبل، بالنظر إلى تجارب سقوط المدن السورية وقراها، ما يفرض القتال مخرجاً وحيداً دوماً.

 

  • فريق ماسة
  • 2015-07-03
  • 14241
  • من الأرشيف

كيف يصمد الجيش السوري؟

في مقهى بيروتي شتاء العام 2013، أبدى ديبلوماسي أوروبي مختص بالشؤون الأمنية السورية، شكوكه حيال قدرة الجيش السوري على الثبات. كان الرجل الذي عايش تقلبات دمشق واستقرارها على مدى خمس سنوات من خدمته فيها، عاد للتو من زيارة ليومين إلى العاصمة السورية، ومر على حواجز الجيش المتناثرة على الطريق الدولي وقبله. «الجنود يبدون مرهقين. ولا يظهر أنهم يأكلون جيداً. وفي هذا البرد القارس، يلقون بالحطب في أوعية معدنية صدئة ويشعلونه للدفء..» سرد مشاهداته، منتقلاً لاستنتاجه بأن «هذا المشهد وفق المعارف العسكرية التي تلقيتها لا يشي بكثير من الثقة»، مضيفاً «أعتقد أن جيشكم قد تعب، وسيكون إلى تراجع». بعد عامين على هذا اللقاء، وتحديداً أوائل هذا الصيف، كان ثمة كلام مختلف. روى ديبلوماسي أوروبي مخضرم أنه سأل ضابطاً عسكرياً، يعمل لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسل، كيف يفسر قدرة الجيش السوري برغم نكساته الأخيرة، على القيام بمهامه حتى هذه اللحظة، أو ما تيسر له الظروف القيام به من هذه المهام؟ الجنرال قدم جواباً استبقه برفع كتفيه حائراً بأن «الأمر عصي على التفسير، وأشبه بالمعجزة». حادثة عسكرية، جرت في مطار الـ «تي فور» الشهير على طريق تدمر حمص، تجيب عن هذا الاستفهام ومثيلاته. بعد أيام على استيلاء تنظيم «داعش» على مدينة تدمر منذ شهرين، انتشرت أخبار عن محاولة اقتحام جرت للمطار العسكري من قبل التنظيم باستخدام مفخخات. جاءت الأخبار نتيجة صوت انفجار ضخم سمع في حرم المطار، نفت إثره السلطات حصول أي اقتحام. لكن الانفجار كان حصل فعلاً، في مستودع ذخيرة، نتيجة خطأ مجهول، وأودى بحياة عدة عناصر من الجيش، كما أدى إلى أضرار مادية كبيرة، طالت على الأقل ثلاث طائرات عسكرية. تقديرات الخبراء التقنيين للإدارة العسكرية، كانت أن هذه الطائرات أعطبت نهائياً، نتيجة اختراق الشظايا لهياكلها وأجنحتها وأحياناً محركاتها. وفيما كانت الإدارة تعد تقريرها للقيادة العسكرية بعد أيام حول الحادث، أعلم قائد المطار بضرورة تفقد مواقع صيانة الطائرات على بعد مئات الأمتار من مكتبه، حيث اكتشف هناك أن ورشات الإصلاح تمكنت من إعادة طائرتين حربيتين للخدمة «بسبل الحاجة أم الاختراع»، فيما تحتاج الثالثة لوقت أطول و «إن كانت ستعود للتحليق لاحقاً». خبرة فنيي الجيش في اجتراح الحلول كبيرة، نتيجة تعاطيهم أساساً مع معدات قديمة، وأسلحة بعضها يعود لفترة الحرب العالمية الثانية. وقد كانت إستراتيجية الجيش منذ زمن طويل، تستند للقدرة الصاروخية، مسنودة بالتعداد البشري، والاستعداد العقائدي أكثر منها على العتاد الحديث، والذي لم يكن متاحاً أساساً، وذلك استعداداً لمعركة مختلفة كل الاختلاف عن المعركة الراهنة. ظروف الحرب الحالية لم تأت في أي سياق خطط له سابقاً، وبالتالي فاجأت إدارة الجيش وكوادره معاً، إلا أنها فرضت على جسمه الثقيل والمعد لحرب على جبهة واحدة، الدخول في متاهات حروب المدن، وعلى مئات الجبهات، ومع أعداء كثر وتحالفات دولية وإقليمية ضخمة، بغرف استخبارات متقدمة. واستغرق تأقلم الجيش وقتاً طويلاً مع الحرب الجديدة السمات، والتي كان عدوه تحضر لها بشكل مسبق، عبر تطوير تقنية حفر الأنفاق، والاعتماد على البيئات الحاضنة، وترسيخ بُعدٍ عقائدي ديني ومذهبي للصراع، والاعتماد على الجبهات المفتوحة زمنياً. كان على الجيش أن يقاتل عقائدياً، هو الآخر، وكان هذا صعباً، نتيجة الآلة الإعلامية المتردية التي تمتلكها الدولة، إلا أن تردي أخلاق ومهنية الآلة الإعلامية المضادة، سمح بتوجيه معنويات الجنود بالاتجاه المطلوب، برغم ذلك. وحاصرت أدبيات المعارضة المقاتل السوري من أجل الدولة التي يعرفها، في وجه احتمالات الدول العديدة التي لا يعرفها. وهذا لم يكن صعباً، فبعد مرور أربعة أعوام على الحرب الدامية، استنزف مقاتلو الجانب الآخر «حجة القتال لسوريا حرة»، فرفع مقاتلو «جيش الفتح» فيديوهات لهم على الانترنت إثر السيطرة على معسكر المسطومة في إدلب ربيع هذا العام، تعلن أن معركتهم مستمرة من أجل «سوريا سنِّية»، في الوقت الذي ما زالت أدبيات السلطة وحلفائها تخلو من «هذه الخيارات المشابهة». واستنفرت الدولة بالطبع رجال دينها لـ«توجيه المقاتلين نحو عقيدة موحدة، مذكرة بالفكرة القومية الموحدة، ولو بتكوينها السوري». وحصل التوجه أساساً في المناطق التي تتلون فيها قطع الجيش مذهبياً، والذي خلافاً لتقارير عديدة ما زال يحوي قواماً كبيراً من المجندين المنتمين للمذهب السني، ولا سيما في قوات «الوحدات الخاصة»، في جبهات الشمال والجنوب. ووفقاً لما يرويه ضباط وجنود كثر فإن من «انشق فَعَلها وانتهى الأمر» منذ أشهر بعيدة. صحيح أن ضباطاً وجنوداً كثراً اختاروا هوياتهم الصغرى على هويتهم الكبرى، فتوقف بعضهم عن الالتحاق بقطعته، أو هرب بسلاحه أو التحق بصفوف الخصم. وكثرت أسباب الانشقاق عن الجيش، بينها القناعة الإيديولوجية، ومنها الأسباب الاجتماعية المتعلقة ببيئة العسكري، ولا سيما التي يستهدفها طيران الجيش وطوافاته، مخلفاً ضحايا، وأحياناً لطموحات شخصية أو مادية بحتة. إلا أن الجيش الذي عقد خيوطه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ظل متماسكاً، حتى في لحظات تبعثر نشاطه بين الجبهات، وتضييق أوردته وبأس خصومه. وثمة ضابط روى، في بداية الأحداث، أن الجيش غير مؤهل لانشقاقات كبرى، كما في ليبيا مثلاً، مشيراً، من باب التوصيف، إلى أنه لو اختار هو نفسه الانشقاق، لما تجاوز العدد شخصه وسائقه وحاجبه الشخصي. وساهمت التركيبة المعقدة للجيش، من قوى مختلفة تقوم جميعها بمهام مستقلة وأحياناً متنافسة على جعل الجيش مرناً في الحركة بين الجبهات، وذلك تحت إدارة واحدة أو قيادة عسكرية صغرى ضليعة بتكوين قواتها وتموضعها. كل هذا ساعد القوة العسكرية على امتصاص نكسات كبيرة للغاية، كان يمكن أن تصيب قلب أية مؤسسة عسكرية أو سياسية بالوهن وربما الموت، خصوصاً تلك التي حصلت في مدرسة المشاة في العام 2012، وفي «الفرقة 17» في العام 2014 ومطار الطبقة بعد أشهر من العام ذاته، ولاحقاً في إدلب. ولا شك أن طبيعة الحكم المركزي تساعد على إبقاء هذا الجيش متماسكاً ومتعالياً عن النقد. كما أن ضخ المساعدات التي يقوم بها الحلفاء والأصدقاء، والإيمان بأنهم «لن يتخلوا عنا لأنها معركتهم هي الأخرى»، وتواجدهم المعنوي على ارض النار، ولو على مستوى خبراء وموجهين ترك دوره على معنويات آلاف الشبان الذين يفترشون الأرض تحت ظلال مدرعاتهم أو على صخور الطريق منذ أربع سنوات. وبرغم أن كثراً، اختاروا بعد تجارب مريرة، وانعدام الأفق السياسي، كما العسكري أن يبقوا في منازلهم في «انتظار أن تأتي المعركة إلينا»، وبين هؤلاء ناجون من عمليات أسر استمرت أكثر من عام، أو مفقودون وجدوا طريقهم بعد مرور وقت طويل، أو ناجون من مجازر جماعية، أصابتهم خيبات مؤلمة من «استرخاص موت الناس الذي صار واقعاً»، إلا أن الغالبية العظمى ممن كُتبت لهم النجاة من جولة بعد الأخرى، ولا سيما في المعارك الكبرى، ما زالوا يختارون العودة إلى جبهاتهم. وتركت نكسات الجيش الكبرى في السنوات الأربع أثراً معنوياً سلبياً للغاية على نفوس المقاتلين، كما أن تراجع أدائه مؤخراً، دفع إلى الواجهة تغيير بعض تكتيكاته، عبر «محاولة الاحتفاظ بالمناطق التي يسيطر عليها» و «ترك أولويات في المعركة مرتبطة بالمناطق الأكثر حيوية بالنسبة للدولة». كما بدأ تشجيع الحواضن الشعبية والسكان للدفاع عن مناطقهم، مركِّزاً كاقتراح على مقارنة «الدولة والوطن» بـ «بالتشتت والعبودية» للقوى التكفيرية. وصدر أمس لهذه الغاية قرار عسكري بحصر خدمة أبناء حمص العسكرية في مناطق حمص، على أن تصدر قرارات مشابهة بالنسبة إلى مناطق أخرى. ويقول جندي، في منتصف العشرينيات، خدم لمدة أربعة أعوام على جبهات إدلب والقلمون وجوبر، إن «الأمر تحول إلى أسلوب حياة أو عمل»، مشيراً الى أنهم ينتقلون من تلة إلى تلة في القلمون، بالروتين ذاته الذي يستهدفون به تحصينات المقاتلين في جوبر أو إدلب، متوقعين في أي لحظة أن يتحول «الروتين» إلى معركة حامية. بدورهم، ينفذ الطيارون، الذين يشكلون عنصر التفوق اللوجستي الوحيد للجيش على خصومه آلان، عشرات الطلعات الجوية يومياً، بمعدل 10 طلعات لليوم الواحد، وهو ما يفوق قدرات التحمل الصحية للطيارين بشكل عام. ولا يحقق المقاتلون جدوى مادية تذكر، إلا لمن اختار مخالفة القوانين والقواعد الأخلاقية، كما يتناولون في كثير من الأحيان وجبات أعدوها بأنفسهم، أو الوجبات ذاتها على مدى أشهر. ويجيب ضابط برتبة عقيد ببساطة على هذا السؤال المعقد «كيف يصمد الجيش؟» بقوله إن «الجيش لا يمتلك سوى خيار من اثنين: إما القتال أو الهزيمة والاستسلام». والجملة الأخيرة بالنسبة لكثر لا تحمل أية آفاق أو مستقبل، بالنظر إلى تجارب سقوط المدن السورية وقراها، ما يفرض القتال مخرجاً وحيداً دوماً.  

المصدر : السفير / زياد حيدر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة