إنتهت الحرب الباردة بتحلل الإتحاد السوفيتي وإنهيار الكتلة الشرقية... ودخل العالم مرحلة من الأحادية القطبية المطلقة، بحثت في ذاكرتي عن وصف يرسم العالم في تلك اللحظة التاريخية النادرة،

 

 لم أجد أدق وأعمق وأجمل من الوصف االذي قدمه الراحل الكبير حافظ الأسد في افتتاح المؤتمر العاشر للاتحاد الوطني لطلبة سورية ‏16/‏‏5/‏‏1990، حيث قال:‏ إن في العالم شيئاً جديداً يجب ألا نجهله أو نتجاهله، لقد كان العالم مستقراً طوال عقود من الزمن وفق توازنات معينة، وقد حدثت تغيرات هامة ضمن هذه التوازنات الأمر الذي غير في ركائز الاستقرار القائم مما سبب خللاً؛ فحركة مضطربة ليست واضحة الطريق والمحطة الأخيرة. فالعالم يموج الآن، إلى متى سيستمر موجه... وكيف ستكون آخر صورة للموج... لا أحد يعرف، ولكن بالتأكيد سيصل هذا العالم في لحظة قادمة من الزمن إلى هدوء التموج على صورة أخيرة هي صورة الاستقرار في لحظة الاستقرار... وماذا عند لحظة الاستقرار... ولحظة الاستقرار تتجسد تاريخياً بوجود تحالفات كبرى يوازن بعضها بعضاً، والتحالفات الجديدة القادمة لن تكون التحالفات التي كانت، والتحالفات الجديدة ستبحث عن مجالات حيوية، والمجالات الحيوية تتخذ أشكالاً مختلفة بين وقت وآخر وحسب طبيعة وفلسفة القوى المتحالفة، فقد يكون المجال الحيوي المطلوب سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً أو ثقافياً وغير ذلك... .

 

بعد هذا النص العالي التكثيف الذي قدم قراءة إستشرافية بالغة الدقة، وتمتع بحسّ تاريخي إستثنائي بقراءته التوازنات والمتغيرات الدولية لحقبة تاريخية كاملة إمتدت على الأقل منذ العام 1985-2011. يبدو بأننا نقف اليوم على إعتاب مرحلة "زمن هدوء التموج على صورة أخيرة هي صورة الاستقرار في لحظة الاستقرار" حيث "بدأت تتجسد لحظة الإستقرار تاريخياً بوجود تحالفات كبرى يوازن بعضها بعضاً" بعد أن عانينا مرارة "حدوث تغيرات هامة ضمن هذه التوازنات... مما سبب خللاً  فحركة مضطربة...". بإيجاز شديد، وتناول عنصرين فقط، سأحاول الدفاع عن وجهة نظر تقول: إننا نقف على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، أنهت الأحادية القطبية الأميركيّة لصالح عالم متعدد الأقطاب".

 

* الجنرال "إقتصاد":

 

هو الجنرال الذي لا يحمل الأوسمة، ولكنه كان المنتصر في أغلب المعارك. ولإظهار أهمية هذا "الجنرال" أذكّر هنا بأحد أهم خلفيات الخطاب السابق، إنهيار الإتحاد السوفيتي. لقد كان الإتحاد السوفيتي عملاقاً بكل المقاييس، لكن هذا العملاق ومنذ العام 1985 تقريباً، وجد نفسه عاجزاً عن توفير متطلبات إستمراره ورفاه شعبه... بسبب تخلف قواعده الإنتاجية وجموده الإقتصادي والفكري... ليكون "مضطراً" في النهاية إلى الإستعانة بالخبير الإقتصادي الأمريكي "جيفري سَكس" ويعينه مستشاراً إقتصاديّاً!. قدم جيفري الوصفة "السحرية" التي صدمت حتى واشنطن؛ فطالب الكونغرس الأمريكي بفتح تحقيق شامل لمعرفة أسباب فشل "cia" في التنبؤ بإنهيار هذا العملاق. كانت وصفت "جيفري" تقول: "بخصخصة كل شيء دفعة واحدة وفوراً" فتفكك كلّ شيء وأنهار الإتحاد السوفيتي فوراً ودفعة واحدة!. وهذا ما دفع الشيوعي الصيني البارز " بويا بو" ليقول: "لأول مرة في التاريخ يتنازل حزب حاكم عن السلطة بمحض إرادته؛ بل ويتركها لقطاع الطرق والخونة وعاهرات السياسة...". قرأ حافظ الأسد ذلك ونبه إليه مبكراً، فكان الإنفتاح الواسع على التجربة الصينية؛ حيث كانت الصين تطلق مشروعها التاريخي المذهل لأكبر حركة تطوير وتحديث إقتصادي-سياسي على يد "مهندس الإصلاح والانفتاح" المنظر والزعيم "دينغ شياو بينغ".

 

  لقد بدأت معدلات النمو الهائلة، والمدخرات الضخمة من الذهب والمعادن النفيسة والعملات الأجنبية، والإستثمارات الأجنبية الواسعة، والمشاريع العملاقة في الطاقة والبنى التحتيّة... ترحل وعلى نحو متسارع من الغرب وفي مقدمته أمريكا لتتجه نحو أسيا وخصوصاً إلى الصين وجارتها الفدرالية الروسية... لقد حققت موسكو وبكين قفزات إقتصادية تاريخية بكل ما للكلمة من معنى، كان آخرها العقد الأكبر تاريخياً، لبناء شبكة أنابيب تحمل معها غازاً روسياً بقيمة 400 مليار دولار للأسواق الصينية، كما تخطط موسكو لإنفاق مبلغ مماثل لتنمية وإستخراج نفط وغاز من سيبيريا... هذا في الوقت الذي تغرق فيه واشنطن بمديونية تجاوزت 18 ألف مليار دولار أي 92% من الناتج المحلي.

 

لم يكن البنك وصندوق النقد الدوليين ومعهما بنوك التنمية الإقليمية الأخرى، سوى أدوات "قتل وتركيع" في يد واشنطن؛ حيث لا إقتصاد يُنقذ من الانهيار ولا مشروع تموله تلك المؤسسات... دون موافقة واشنطن. لذلك وعندما تسعى الصين – التي تتمتع باحتياطي نقدي يفوق 6 ألآف مليار دولار- إلى إيجاد مؤسسات مالية بديلة، فإنها تحطم –حرفيّاً- أدوات واشنطن "للقتل والتركيع" والهيمنة على الإقتصاد العالمي. استراتيجية الصين المالية لم تتوقف عند تأسيس بنك تنمية البنية التحتية الاسيوي كأكبر مساهم فيه بنسبة 50%، وتقديم أول رئيس له، ومقر في بكين... بل وقفت أيضاً وراء تأسيس بنك التنمية التابع لمجموعة "بريكس" برأسمال تم رفعه مؤخراً إلى 100 مليار دولار، وصندوق "درب الحرير" بقيمة 40 مليار دولار.

 

جاء أول عصيان دولي من أقرب حلفاء واشنطن، وعقلها المفكر وذاكرتها الأوروبيّة، بريطانيا. قررت بريطانيا المشاركة في تأسيس بنك تنمية البنية التحتية الاسيوي الذي تعمل الصين على إنشائه. وبذلك تكون الدولة الأولى في مجموعة السبع التي تنضم إلى هذا المشروع. إستفزت واشنطن، ووجه الرئيس الأميركي أوباما "تأنيبا نادراً" لبريطانيا على قرارها الذي يتجاهل كل المساعي الأميركية من أجل "خنق" المؤسسات المالية التي ترعاها الصين، لأنها تقوض هيمنتها على النظام المالي العالمي. بريطانيا، بلد الدهاء الإمبراطوري ومخزن الخبرة والذاكرة السياسية الدولية، قفزت إلى الكفة المالية المنتصرة، التي ستكون الرافعة الأساسية لتبدل سياسي تاريخي وإنزياحات كبرى في موازين القوى الدولية نحو عواصم "العالم القديم"... لم تكتفي بريطانيا بذلك؛ بل خففت ميزانيتها الدفاعية إلى ما دون 2% المطلوبة كحد أدنى من دول الناتو، في وقت تتراكم الأعباء المالية-الحربية على الحلف الذي يواجه تحدياً روسياً في قلب أوروبا. وبريطانيا هذه التي لم تلحق بركب العملة الأوروبية الموحدة، قررت أيضاً إصدار سندات خزينة في تشرين الأول المقبل بالعملة الصينية، لكي تحافظ على مركزها المالي المحوري بالعملة الصينية الصاعدة، تماماً كما تعاملت مع اليورو منذ ظهوره عام 1999.

لذلك جاء "العجوز" كيسينجر البالغ من العمر 91 عاماً زاحفاً إلى الصين ليقف بين يدي الرئيس الصيني شي جين بينغ، في 17/2/2015 ليقول:"لم أكن أتصور أنه سيأتي يوم يشهد إجتماع الصين والولايات المتحدة لتناقشا معاً مستقبل السلام والتنمية في العالم بأسره". إن الزمن الذي كانت فيه الصين تتبع وصية "دينغ كيساوبينغ": "باخفاء اللمعان وتبني الغموض" قد إنتهت.

 

* لوزان أم يالطا؟

 

ماذا لو أن إيران أنجزت إتفاقها النووي وهي على غير هويتها الحالية، ولا ترتبط بعلاقات خاصة مع سورية وقوى المقاومة في المنطقة، هل سيكون لهذا الإتفاق أي من قيمه الإقليمية والدوليّة التي حظي بها اليوم؟ ما أنجز في لوزان جاء نتيجة لجهد ودم وصمود إيراني تاريخي حتماً، ولها كامل الحق بأن تفتخر بهذا الإنجاز القومي والعلمثالثي... والذي سيكون له تداعيات مهمّة على مستوى المنطقة والعالم، ولكنه بذات المعنى جهد وصمود ودم جنوب لبنان وغزة وبغداد والأهم والأخطر سورية، لذلك قال "المعلم" وليد في مناقشة له مع وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف: إن صمود سورية هو الذي يمكّنك من التفاوض من موقع قوي مع الغرب حول الملف النووي. ويفسر هذا ما أعلنه مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، أن إيران قدمت مساعدات مالية لسورية بلغت (4,2 مليار دولار) منذ عام 2011. وتعادل المساعدات التي قدمتها طهران لسورية (4,2 مليار دولار) كل المبالغ التي أفرج عنها من مجموع الأرصدة الإيرانية المجمدة ضمن اتفاقية جنيف النووية في حزيران الماضي.

 

حاولت واشنطن أن تجعل من إنهيار الإتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية عموماً، مناسبة لإعادة هندسة العالم بأسره حسب مصالحها السياسية والإقتصادية والثقافية... فأعلنت نهاية التاريخ، وإنتصار النموذج الأمريكي في كل شيء... وأرَّخَت لبداية تفردها بإدارة شؤون العالم بحرب الخليج الثانية 1990-1991. تقول الحكمة الصوفية "عند التمام يبدأ النقصان"، ولا شيء ينهك الإمبراطوريات مثل إغراء الحلول السريعة بإستخدام القوة لفرض الإرادة وحلّ المشكلات... سريعاً تحرك الغرب بزعامة واشنطن لإلتهام المجال الحيوي لموسكو المنهارة. ضُربت بغداد بعد أن تجرأت على الغزو في زمن الغزو الأمريكي، وأستهدفت يوغسلافيا، من حرب البوسنة والهرسك أذار1991، وحتى حرب كوسوفو 21/6/1999، والتي كانت نتيجتها تفكيك الاتحاد اليوغسلافي وتقسيمه إلى جمهوريات مستقلة... غواية القدرة وسطوة التفرد، والغياب شبه الكامل للمنافسين، والرغبة الجامحة لإستغلال الظرف التاريخي لإدامة التفرد والهيمنة... ساهم في "طفو" مجموعة أمريكيّة غاية في التطرف والعنصرية والعدوانية والغباء، المحافظون الجدد. كانت أحداث 11/9/2001 في برجي مركز التجارة الدولية ومقر البنتاجون، "بيرل هاربر" القرن الواحد والعشرين، والتي جعل منها المحافظون الجدد الذريعة لغزو العالم، ومنع تفلّته من بين أيديهم... وجعلوا من مقولة "الصدمة والترويع" العنوان العريض لعهدهم. لم يأت غزو أفغانستان والعراق بالنتائج المنتظرة؛ بل شكل كارثة كبرى على المحافظين الجدد ومشروعهم وعلى قدرة وقدرات أمريكا ذاتها. لقد أُنهكت واشنطن سياسيّاً وعسكريّاً، وفقدت ألآف المليارات خلال هذه الحروب، وتداعت مشاريعها السياسية والإقتصادية في المنطقة والعالم... وكان المستفيد الأكبر من هذا الغرق المستمر موسكو و"دينغ شياو بينغ" الذي كان يراقب "صينه" تنمو، وتصبح أكبر مستثمر في سندات الخزينة الأمريكية على الإطلاق... وعندما فكر أحدهم بتوجيه ضربة للصين، ردّ عليه المتغطرس "ديك تشيني" نائب الرئيس الأمريكي:"نحن بحاجة للإستدانة من الصين حتى نستطيع غزوها". بعد أربع سنوات من "ربيع الدم" جاءت واقعة القنيطرة لتكشف عن الخلل الهائل في موازن القوى الإقليميّة والدوليّة، ضُرب العدو الصهيوني ولم يجرؤ على الردّ، وعلقت واشنطن بأن الأمر لا يستحق شنّ حرب!؟. سقط حلفاء آل سعود وأدواتهم في اليمن، وأكتفت واشنطن بتزويد طائرات آل سعود بالوقود وإنقاذ طياريهم ما أمكنها ذلك. رفض أردوغان مساعدة عين العرب فأضطر أوباما لإسقاط الدعم بالمظلات. بدأت أوروبا بالحديث عن قوة خاصة بها خارج النيتو، وتجرعت واشنطن مرارة إنفضاض حتى أقرب الحلفاء عنها بصمت... أي أن واشنطن تعمد في المشرق العربي إلى إعادة ضبط حجوم أدواتها عقب إنتفاخها خلال الأعوام الماضية لتمرر تسوية كبرى تسعى إليها جاهدة بعيداً حتى عن أوروبا، بينما تحاول هذه الأدوات توريطها في المنطقة أكثر وأكثر... وأما على مستوى العالم فهي تراقب في أكثر الأحيان، وتتدخل ما أمكنها ذلك. إن الخزائن البريطانية الفارغة مكنت واشنطن يوماً من شراء نصف العالم، ويبدو بأنها تتجرع اليوم من ذات الكأس. 

 

* كلمة أخيرة:

 

قبل أيام قال المدعو سعود الفيصل: النظام السوري فقد كل ما لديه من اتصالات بالعالم المتحضر. هذا صحيح، لأن آخر عالم "متحضر" يتذكره سعود كان يتزعمه "اليانكي"، ولم يدرك حتى اللحظة بأن هناك عالم متحضر جديد خلق، ستكون مملكته أحد ضحاياه المحتملين.

 

  • فريق ماسة
  • 2015-04-08
  • 12858
  • من الأرشيف

على حافة عالم جديد

إنتهت الحرب الباردة بتحلل الإتحاد السوفيتي وإنهيار الكتلة الشرقية... ودخل العالم مرحلة من الأحادية القطبية المطلقة، بحثت في ذاكرتي عن وصف يرسم العالم في تلك اللحظة التاريخية النادرة،    لم أجد أدق وأعمق وأجمل من الوصف االذي قدمه الراحل الكبير حافظ الأسد في افتتاح المؤتمر العاشر للاتحاد الوطني لطلبة سورية ‏16/‏‏5/‏‏1990، حيث قال:‏ إن في العالم شيئاً جديداً يجب ألا نجهله أو نتجاهله، لقد كان العالم مستقراً طوال عقود من الزمن وفق توازنات معينة، وقد حدثت تغيرات هامة ضمن هذه التوازنات الأمر الذي غير في ركائز الاستقرار القائم مما سبب خللاً؛ فحركة مضطربة ليست واضحة الطريق والمحطة الأخيرة. فالعالم يموج الآن، إلى متى سيستمر موجه... وكيف ستكون آخر صورة للموج... لا أحد يعرف، ولكن بالتأكيد سيصل هذا العالم في لحظة قادمة من الزمن إلى هدوء التموج على صورة أخيرة هي صورة الاستقرار في لحظة الاستقرار... وماذا عند لحظة الاستقرار... ولحظة الاستقرار تتجسد تاريخياً بوجود تحالفات كبرى يوازن بعضها بعضاً، والتحالفات الجديدة القادمة لن تكون التحالفات التي كانت، والتحالفات الجديدة ستبحث عن مجالات حيوية، والمجالات الحيوية تتخذ أشكالاً مختلفة بين وقت وآخر وحسب طبيعة وفلسفة القوى المتحالفة، فقد يكون المجال الحيوي المطلوب سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً أو ثقافياً وغير ذلك... .   بعد هذا النص العالي التكثيف الذي قدم قراءة إستشرافية بالغة الدقة، وتمتع بحسّ تاريخي إستثنائي بقراءته التوازنات والمتغيرات الدولية لحقبة تاريخية كاملة إمتدت على الأقل منذ العام 1985-2011. يبدو بأننا نقف اليوم على إعتاب مرحلة "زمن هدوء التموج على صورة أخيرة هي صورة الاستقرار في لحظة الاستقرار" حيث "بدأت تتجسد لحظة الإستقرار تاريخياً بوجود تحالفات كبرى يوازن بعضها بعضاً" بعد أن عانينا مرارة "حدوث تغيرات هامة ضمن هذه التوازنات... مما سبب خللاً  فحركة مضطربة...". بإيجاز شديد، وتناول عنصرين فقط، سأحاول الدفاع عن وجهة نظر تقول: إننا نقف على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، أنهت الأحادية القطبية الأميركيّة لصالح عالم متعدد الأقطاب".   * الجنرال "إقتصاد":   هو الجنرال الذي لا يحمل الأوسمة، ولكنه كان المنتصر في أغلب المعارك. ولإظهار أهمية هذا "الجنرال" أذكّر هنا بأحد أهم خلفيات الخطاب السابق، إنهيار الإتحاد السوفيتي. لقد كان الإتحاد السوفيتي عملاقاً بكل المقاييس، لكن هذا العملاق ومنذ العام 1985 تقريباً، وجد نفسه عاجزاً عن توفير متطلبات إستمراره ورفاه شعبه... بسبب تخلف قواعده الإنتاجية وجموده الإقتصادي والفكري... ليكون "مضطراً" في النهاية إلى الإستعانة بالخبير الإقتصادي الأمريكي "جيفري سَكس" ويعينه مستشاراً إقتصاديّاً!. قدم جيفري الوصفة "السحرية" التي صدمت حتى واشنطن؛ فطالب الكونغرس الأمريكي بفتح تحقيق شامل لمعرفة أسباب فشل "cia" في التنبؤ بإنهيار هذا العملاق. كانت وصفت "جيفري" تقول: "بخصخصة كل شيء دفعة واحدة وفوراً" فتفكك كلّ شيء وأنهار الإتحاد السوفيتي فوراً ودفعة واحدة!. وهذا ما دفع الشيوعي الصيني البارز " بويا بو" ليقول: "لأول مرة في التاريخ يتنازل حزب حاكم عن السلطة بمحض إرادته؛ بل ويتركها لقطاع الطرق والخونة وعاهرات السياسة...". قرأ حافظ الأسد ذلك ونبه إليه مبكراً، فكان الإنفتاح الواسع على التجربة الصينية؛ حيث كانت الصين تطلق مشروعها التاريخي المذهل لأكبر حركة تطوير وتحديث إقتصادي-سياسي على يد "مهندس الإصلاح والانفتاح" المنظر والزعيم "دينغ شياو بينغ".     لقد بدأت معدلات النمو الهائلة، والمدخرات الضخمة من الذهب والمعادن النفيسة والعملات الأجنبية، والإستثمارات الأجنبية الواسعة، والمشاريع العملاقة في الطاقة والبنى التحتيّة... ترحل وعلى نحو متسارع من الغرب وفي مقدمته أمريكا لتتجه نحو أسيا وخصوصاً إلى الصين وجارتها الفدرالية الروسية... لقد حققت موسكو وبكين قفزات إقتصادية تاريخية بكل ما للكلمة من معنى، كان آخرها العقد الأكبر تاريخياً، لبناء شبكة أنابيب تحمل معها غازاً روسياً بقيمة 400 مليار دولار للأسواق الصينية، كما تخطط موسكو لإنفاق مبلغ مماثل لتنمية وإستخراج نفط وغاز من سيبيريا... هذا في الوقت الذي تغرق فيه واشنطن بمديونية تجاوزت 18 ألف مليار دولار أي 92% من الناتج المحلي.   لم يكن البنك وصندوق النقد الدوليين ومعهما بنوك التنمية الإقليمية الأخرى، سوى أدوات "قتل وتركيع" في يد واشنطن؛ حيث لا إقتصاد يُنقذ من الانهيار ولا مشروع تموله تلك المؤسسات... دون موافقة واشنطن. لذلك وعندما تسعى الصين – التي تتمتع باحتياطي نقدي يفوق 6 ألآف مليار دولار- إلى إيجاد مؤسسات مالية بديلة، فإنها تحطم –حرفيّاً- أدوات واشنطن "للقتل والتركيع" والهيمنة على الإقتصاد العالمي. استراتيجية الصين المالية لم تتوقف عند تأسيس بنك تنمية البنية التحتية الاسيوي كأكبر مساهم فيه بنسبة 50%، وتقديم أول رئيس له، ومقر في بكين... بل وقفت أيضاً وراء تأسيس بنك التنمية التابع لمجموعة "بريكس" برأسمال تم رفعه مؤخراً إلى 100 مليار دولار، وصندوق "درب الحرير" بقيمة 40 مليار دولار.   جاء أول عصيان دولي من أقرب حلفاء واشنطن، وعقلها المفكر وذاكرتها الأوروبيّة، بريطانيا. قررت بريطانيا المشاركة في تأسيس بنك تنمية البنية التحتية الاسيوي الذي تعمل الصين على إنشائه. وبذلك تكون الدولة الأولى في مجموعة السبع التي تنضم إلى هذا المشروع. إستفزت واشنطن، ووجه الرئيس الأميركي أوباما "تأنيبا نادراً" لبريطانيا على قرارها الذي يتجاهل كل المساعي الأميركية من أجل "خنق" المؤسسات المالية التي ترعاها الصين، لأنها تقوض هيمنتها على النظام المالي العالمي. بريطانيا، بلد الدهاء الإمبراطوري ومخزن الخبرة والذاكرة السياسية الدولية، قفزت إلى الكفة المالية المنتصرة، التي ستكون الرافعة الأساسية لتبدل سياسي تاريخي وإنزياحات كبرى في موازين القوى الدولية نحو عواصم "العالم القديم"... لم تكتفي بريطانيا بذلك؛ بل خففت ميزانيتها الدفاعية إلى ما دون 2% المطلوبة كحد أدنى من دول الناتو، في وقت تتراكم الأعباء المالية-الحربية على الحلف الذي يواجه تحدياً روسياً في قلب أوروبا. وبريطانيا هذه التي لم تلحق بركب العملة الأوروبية الموحدة، قررت أيضاً إصدار سندات خزينة في تشرين الأول المقبل بالعملة الصينية، لكي تحافظ على مركزها المالي المحوري بالعملة الصينية الصاعدة، تماماً كما تعاملت مع اليورو منذ ظهوره عام 1999. لذلك جاء "العجوز" كيسينجر البالغ من العمر 91 عاماً زاحفاً إلى الصين ليقف بين يدي الرئيس الصيني شي جين بينغ، في 17/2/2015 ليقول:"لم أكن أتصور أنه سيأتي يوم يشهد إجتماع الصين والولايات المتحدة لتناقشا معاً مستقبل السلام والتنمية في العالم بأسره". إن الزمن الذي كانت فيه الصين تتبع وصية "دينغ كيساوبينغ": "باخفاء اللمعان وتبني الغموض" قد إنتهت.   * لوزان أم يالطا؟   ماذا لو أن إيران أنجزت إتفاقها النووي وهي على غير هويتها الحالية، ولا ترتبط بعلاقات خاصة مع سورية وقوى المقاومة في المنطقة، هل سيكون لهذا الإتفاق أي من قيمه الإقليمية والدوليّة التي حظي بها اليوم؟ ما أنجز في لوزان جاء نتيجة لجهد ودم وصمود إيراني تاريخي حتماً، ولها كامل الحق بأن تفتخر بهذا الإنجاز القومي والعلمثالثي... والذي سيكون له تداعيات مهمّة على مستوى المنطقة والعالم، ولكنه بذات المعنى جهد وصمود ودم جنوب لبنان وغزة وبغداد والأهم والأخطر سورية، لذلك قال "المعلم" وليد في مناقشة له مع وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف: إن صمود سورية هو الذي يمكّنك من التفاوض من موقع قوي مع الغرب حول الملف النووي. ويفسر هذا ما أعلنه مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، أن إيران قدمت مساعدات مالية لسورية بلغت (4,2 مليار دولار) منذ عام 2011. وتعادل المساعدات التي قدمتها طهران لسورية (4,2 مليار دولار) كل المبالغ التي أفرج عنها من مجموع الأرصدة الإيرانية المجمدة ضمن اتفاقية جنيف النووية في حزيران الماضي.   حاولت واشنطن أن تجعل من إنهيار الإتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية عموماً، مناسبة لإعادة هندسة العالم بأسره حسب مصالحها السياسية والإقتصادية والثقافية... فأعلنت نهاية التاريخ، وإنتصار النموذج الأمريكي في كل شيء... وأرَّخَت لبداية تفردها بإدارة شؤون العالم بحرب الخليج الثانية 1990-1991. تقول الحكمة الصوفية "عند التمام يبدأ النقصان"، ولا شيء ينهك الإمبراطوريات مثل إغراء الحلول السريعة بإستخدام القوة لفرض الإرادة وحلّ المشكلات... سريعاً تحرك الغرب بزعامة واشنطن لإلتهام المجال الحيوي لموسكو المنهارة. ضُربت بغداد بعد أن تجرأت على الغزو في زمن الغزو الأمريكي، وأستهدفت يوغسلافيا، من حرب البوسنة والهرسك أذار1991، وحتى حرب كوسوفو 21/6/1999، والتي كانت نتيجتها تفكيك الاتحاد اليوغسلافي وتقسيمه إلى جمهوريات مستقلة... غواية القدرة وسطوة التفرد، والغياب شبه الكامل للمنافسين، والرغبة الجامحة لإستغلال الظرف التاريخي لإدامة التفرد والهيمنة... ساهم في "طفو" مجموعة أمريكيّة غاية في التطرف والعنصرية والعدوانية والغباء، المحافظون الجدد. كانت أحداث 11/9/2001 في برجي مركز التجارة الدولية ومقر البنتاجون، "بيرل هاربر" القرن الواحد والعشرين، والتي جعل منها المحافظون الجدد الذريعة لغزو العالم، ومنع تفلّته من بين أيديهم... وجعلوا من مقولة "الصدمة والترويع" العنوان العريض لعهدهم. لم يأت غزو أفغانستان والعراق بالنتائج المنتظرة؛ بل شكل كارثة كبرى على المحافظين الجدد ومشروعهم وعلى قدرة وقدرات أمريكا ذاتها. لقد أُنهكت واشنطن سياسيّاً وعسكريّاً، وفقدت ألآف المليارات خلال هذه الحروب، وتداعت مشاريعها السياسية والإقتصادية في المنطقة والعالم... وكان المستفيد الأكبر من هذا الغرق المستمر موسكو و"دينغ شياو بينغ" الذي كان يراقب "صينه" تنمو، وتصبح أكبر مستثمر في سندات الخزينة الأمريكية على الإطلاق... وعندما فكر أحدهم بتوجيه ضربة للصين، ردّ عليه المتغطرس "ديك تشيني" نائب الرئيس الأمريكي:"نحن بحاجة للإستدانة من الصين حتى نستطيع غزوها". بعد أربع سنوات من "ربيع الدم" جاءت واقعة القنيطرة لتكشف عن الخلل الهائل في موازن القوى الإقليميّة والدوليّة، ضُرب العدو الصهيوني ولم يجرؤ على الردّ، وعلقت واشنطن بأن الأمر لا يستحق شنّ حرب!؟. سقط حلفاء آل سعود وأدواتهم في اليمن، وأكتفت واشنطن بتزويد طائرات آل سعود بالوقود وإنقاذ طياريهم ما أمكنها ذلك. رفض أردوغان مساعدة عين العرب فأضطر أوباما لإسقاط الدعم بالمظلات. بدأت أوروبا بالحديث عن قوة خاصة بها خارج النيتو، وتجرعت واشنطن مرارة إنفضاض حتى أقرب الحلفاء عنها بصمت... أي أن واشنطن تعمد في المشرق العربي إلى إعادة ضبط حجوم أدواتها عقب إنتفاخها خلال الأعوام الماضية لتمرر تسوية كبرى تسعى إليها جاهدة بعيداً حتى عن أوروبا، بينما تحاول هذه الأدوات توريطها في المنطقة أكثر وأكثر... وأما على مستوى العالم فهي تراقب في أكثر الأحيان، وتتدخل ما أمكنها ذلك. إن الخزائن البريطانية الفارغة مكنت واشنطن يوماً من شراء نصف العالم، ويبدو بأنها تتجرع اليوم من ذات الكأس.    * كلمة أخيرة:   قبل أيام قال المدعو سعود الفيصل: النظام السوري فقد كل ما لديه من اتصالات بالعالم المتحضر. هذا صحيح، لأن آخر عالم "متحضر" يتذكره سعود كان يتزعمه "اليانكي"، ولم يدرك حتى اللحظة بأن هناك عالم متحضر جديد خلق، ستكون مملكته أحد ضحاياه المحتملين.  

المصدر : سمير الفزاع


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة