يربط الخبراء بين تحسين النظام الاقتصادي المصري وبين إعادة إنتاج نظام عربي لن يكون أسوأ من التفكك السائد حالياً، لذلك التأم مؤتمر «شرم الشيخ» الأخير بهذه الخلفية،

 

 لكنّ نتائجه أظهرت أنّ هناك الكثير من المال المقدّم، إنما على شكل استثمارات سياحية ومدنية، وتجميد أموال في المصرف المركزي المصري لتمتين أسعار الجنيه المصري مقابل الدولار وهذا جيد. لكنّ أطرف أنواع هذا الاستثمار هو الاتفاق على بناء عاصمة إدارية لمصر بكلفة 45 مليار دولار من دولة الإمارات، تحتاج إلى ربع قرن لاستكمالها.

 

 

وبالتدقيق، يتبين أنّ هذه الاستثمارات تلائم النظام السياسي المصري بتوسيع قاعدة مؤيديه، لكنها لا تتطابق مع الحاجات الملحة لنحو 45 مليون مصري هم تحت خط الفقر، ويحتاجون إلى إنعاش من نوعين: سريع ومتوسط، من دون أن ننسى الأعداد الكبيرة للفقراء، مقابل عشرة في المئة فقط يسيطرون على معظم الدخل القومي المصري.

 

وللإشارة، فإنّ مصر، ومنذ عهد السادات، أهملت قطاعاتها الاقتصادية الناصرية الإنتاجية لمصلحة السياحة والنقل و»المقاولات» السياسية. لقد وعد الخليج والولايات المتحدة الأميركية الرئيس السادات بمشروع «مارشال» اقتصادي، حين وقع على معاهدة «كامب دايفيد» مع «إسرائيل» برعاية أميركية، وبعد ست وثلاثين سنة على هذا الاتفاق أصبحت «أم الدنيا» أكثر فقراً وبؤساً ومن دون وزن سياسي، على مستوى الإقليم مع أوضاع داخلية غير مستقرة، لذلك تصحّ المقارنة بين ما فعله الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وبين «مرحلة مصر الأميركية» في عهد السادات.

 

اتسم الاقتصاد، في الحقبة الناصرية، ببناء قطاعات إنتاجية دائمة كالسدّ العالي ومصانع النسيج والحديد والصلب والسكر ومجمل الصناعات الحيوية، بعد تأميم الإقطاعات الزراعية الكبرى لمصلحة الفلاحين، ما أدى إلى نشوء طبقات وسطى فلاحية ومدينية على قياس مصر، وأسس لبناء دور إقليمي واسع جداً وإنشاء تحالفات دولية وازنة. كانت مصر الناصرية فقيرة، لكنها لم تكن جائعة أو متسولة، أما مدى قرارها السياسي فكان أكبر بكثير من إمكاناتها الاقتصادية، لذلك كان القرار بإسقاط عبد الناصر وليد تخطيط أميركي ـ سعودي، وتسرُّع عبد الناصر بالخروج إلى الإقليم قبل البناء الداخلي للدولة على أسس متينة، لكنّ إنجازات الرجل لا تُنكر، وتعتبر امتداداً إنما أصغر حجماً لمحاولات محمد علي باشا في القرن التاسع عشر.

 

إنّ كلّ التجارب التاريخية التي قامت على قاعدة «اقتصاد الخدمات» سقطت عند توقف موارد التمويل المرتبطة بها، فمن يضمن استمرار السياحة ومشاريع الاستيراد والتصدير ومشاريع الترف الوطني والمساعدات والقروض؟ هذه وسائل تؤدي عادة إلى تقليص الدور السياسي. وهناك نظرية في الاقتصاد تعتبر أنّ الإنفاق على مشاريع غير منتجة، وفي بلد لا موارد دائمة فيها، تؤدي دوماً إلى الإفلاس… وهذه حالة لبنان الذي استدان قرابة 45 مليار دولار ولم ينشئ مصنعاً أو معملاً أو مؤسسة إنتاج دائمة ولا كهرباء ولا مياه ولا بنى تحتية، بل مجرد بنى لزوم السياحة والخدمات. فهل هناك تطابق بين نتائج شرم الشيخ وحاجات المصريين؟

 

يجب الإقرار بأنّ هذه المشاريع الاستثمارية تحتاج إلى عقود لاستكمالها، ما يعني أنّ تدني مستويات البطالة والتضخم مرجأة إلى وقت لاحق، أما تحسُّن السياحة فمرتبط بدورة الاستقرار في البلاد، هذا الاستقرار الذي يتدهور مع تصاعد العمليات الإرهابية في كلّ ناحية والمؤدي تلقائياً إلى ضرب السياحة. أما بناء عاصمة إدارية جديدة فهو يحتاج إلى ربع قرن، فلو اتجه شرم الشيخ إلى تأمين سكن للفقراء المصريين المقيمين في «العشوائيات» و»المقابر»، وهم بالملايين، بكلفة العاصمة الإدارية نفسها التي قد تكون مرتبطة بشركات النقل والسياحة عند خطوط المنتجعات في البحر الأحمر والإسكندرية، لكان أفضل لأنه يكون قد حلّ معضلة اجتماعية مستعصية، وكان من المستحسن لو جرى رصد أموال لإعادة تحديث المصانع الكبرى وتوسيع إنتاجها، ما يؤمن فرصاً للعاطلين عن العمل، ويؤفر للبلاد حاجاتها الاستهلاكية ويؤمن التوازن الطبقي.

 

وكان من الأفضل أيضاً، لو رصد أهل الخليج مشروع ثورة زراعية، على مستوى مصر والسودان، زهيدة الكلفة وبوسعها توفير «الغذاء الحرّ غير المشروط» لكلّ العرب بالتئام ثلاثة عناصر، الرساميل الخليجية والمساحات السودانية الخصبة والخبرات والعمالة المصرية، فنوفّر على العرب، استهلاك «الأذلاء» ونحافظ على حرية قراراتهم الغذائية والسياسية.

 

لكنّ ما يريده الممولون يذهب في مناح أخرى، لأنّ هدفهم هو الإمساك بالثور من قرنيه، وتدجينه ليصبح نعجة، وهذا ما فعلوه مع السادات الذي تحول من منتصر في حرب أكتوبر 73 إلى منهزم على المستوى السياسي ومحطم للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وكذلك خليفته مبارك، الذي واصل أداء دور السادات، إنما من دون جعجعته.

 

وما يؤسف له أنّ هناك ميلاً لدى النظام المصري الحالي إلى تكرار الدور نفسه عبر علاقات اقتصادية ريعية مع الخليج على أساس قطاعات غير منتجة، وهذا يؤدي إلى انسجام سياسي مع الخليج وواشنطن وتبقى «كامب دايفيد» الراعي الأساس للانهزام في الإقليم العربي، وبذلك تواصل القاهرة خسارة دورها الإقليمي.

 

كشف وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن تأييده لمؤتمر شرم الشيخ، بالتعهد بإعادة العمل بمعاهدة التسليح الأميركي لمصر التي كانت مجمّدة لأسباب تتعلق بالرهان الأميركي السابق على الإخوان المسلمين.

 

وهكذا نتبين أنّ إعادة إنتاج نظام عربي جديد ليست على برنامج عمل السيسي، وأقصى المطلوب هو الاصطفاف في حلف مصري ـ خليجي ـ تركي للوقوف في وجه إيران وروسيا والصين. فهل تكون الانتصارات على الإرهاب في سورية والعراق بديلاً من الدور المصري؟

 

المعركة طويلة، لكنّ بشائر النصر بدأت تطلّ من خلف الأفق الأسود ببسالة أبطال سورية والعراق الذين يسجلون الملاحم في أصعب الظروف التاريخية والمصرية.

 

 

 

  • فريق ماسة
  • 2015-03-16
  • 12300
  • من الأرشيف

هل تبقى مصر فندقاً وبندقية للإيجار؟

يربط الخبراء بين تحسين النظام الاقتصادي المصري وبين إعادة إنتاج نظام عربي لن يكون أسوأ من التفكك السائد حالياً، لذلك التأم مؤتمر «شرم الشيخ» الأخير بهذه الخلفية،    لكنّ نتائجه أظهرت أنّ هناك الكثير من المال المقدّم، إنما على شكل استثمارات سياحية ومدنية، وتجميد أموال في المصرف المركزي المصري لتمتين أسعار الجنيه المصري مقابل الدولار وهذا جيد. لكنّ أطرف أنواع هذا الاستثمار هو الاتفاق على بناء عاصمة إدارية لمصر بكلفة 45 مليار دولار من دولة الإمارات، تحتاج إلى ربع قرن لاستكمالها.     وبالتدقيق، يتبين أنّ هذه الاستثمارات تلائم النظام السياسي المصري بتوسيع قاعدة مؤيديه، لكنها لا تتطابق مع الحاجات الملحة لنحو 45 مليون مصري هم تحت خط الفقر، ويحتاجون إلى إنعاش من نوعين: سريع ومتوسط، من دون أن ننسى الأعداد الكبيرة للفقراء، مقابل عشرة في المئة فقط يسيطرون على معظم الدخل القومي المصري.   وللإشارة، فإنّ مصر، ومنذ عهد السادات، أهملت قطاعاتها الاقتصادية الناصرية الإنتاجية لمصلحة السياحة والنقل و»المقاولات» السياسية. لقد وعد الخليج والولايات المتحدة الأميركية الرئيس السادات بمشروع «مارشال» اقتصادي، حين وقع على معاهدة «كامب دايفيد» مع «إسرائيل» برعاية أميركية، وبعد ست وثلاثين سنة على هذا الاتفاق أصبحت «أم الدنيا» أكثر فقراً وبؤساً ومن دون وزن سياسي، على مستوى الإقليم مع أوضاع داخلية غير مستقرة، لذلك تصحّ المقارنة بين ما فعله الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وبين «مرحلة مصر الأميركية» في عهد السادات.   اتسم الاقتصاد، في الحقبة الناصرية، ببناء قطاعات إنتاجية دائمة كالسدّ العالي ومصانع النسيج والحديد والصلب والسكر ومجمل الصناعات الحيوية، بعد تأميم الإقطاعات الزراعية الكبرى لمصلحة الفلاحين، ما أدى إلى نشوء طبقات وسطى فلاحية ومدينية على قياس مصر، وأسس لبناء دور إقليمي واسع جداً وإنشاء تحالفات دولية وازنة. كانت مصر الناصرية فقيرة، لكنها لم تكن جائعة أو متسولة، أما مدى قرارها السياسي فكان أكبر بكثير من إمكاناتها الاقتصادية، لذلك كان القرار بإسقاط عبد الناصر وليد تخطيط أميركي ـ سعودي، وتسرُّع عبد الناصر بالخروج إلى الإقليم قبل البناء الداخلي للدولة على أسس متينة، لكنّ إنجازات الرجل لا تُنكر، وتعتبر امتداداً إنما أصغر حجماً لمحاولات محمد علي باشا في القرن التاسع عشر.   إنّ كلّ التجارب التاريخية التي قامت على قاعدة «اقتصاد الخدمات» سقطت عند توقف موارد التمويل المرتبطة بها، فمن يضمن استمرار السياحة ومشاريع الاستيراد والتصدير ومشاريع الترف الوطني والمساعدات والقروض؟ هذه وسائل تؤدي عادة إلى تقليص الدور السياسي. وهناك نظرية في الاقتصاد تعتبر أنّ الإنفاق على مشاريع غير منتجة، وفي بلد لا موارد دائمة فيها، تؤدي دوماً إلى الإفلاس… وهذه حالة لبنان الذي استدان قرابة 45 مليار دولار ولم ينشئ مصنعاً أو معملاً أو مؤسسة إنتاج دائمة ولا كهرباء ولا مياه ولا بنى تحتية، بل مجرد بنى لزوم السياحة والخدمات. فهل هناك تطابق بين نتائج شرم الشيخ وحاجات المصريين؟   يجب الإقرار بأنّ هذه المشاريع الاستثمارية تحتاج إلى عقود لاستكمالها، ما يعني أنّ تدني مستويات البطالة والتضخم مرجأة إلى وقت لاحق، أما تحسُّن السياحة فمرتبط بدورة الاستقرار في البلاد، هذا الاستقرار الذي يتدهور مع تصاعد العمليات الإرهابية في كلّ ناحية والمؤدي تلقائياً إلى ضرب السياحة. أما بناء عاصمة إدارية جديدة فهو يحتاج إلى ربع قرن، فلو اتجه شرم الشيخ إلى تأمين سكن للفقراء المصريين المقيمين في «العشوائيات» و»المقابر»، وهم بالملايين، بكلفة العاصمة الإدارية نفسها التي قد تكون مرتبطة بشركات النقل والسياحة عند خطوط المنتجعات في البحر الأحمر والإسكندرية، لكان أفضل لأنه يكون قد حلّ معضلة اجتماعية مستعصية، وكان من المستحسن لو جرى رصد أموال لإعادة تحديث المصانع الكبرى وتوسيع إنتاجها، ما يؤمن فرصاً للعاطلين عن العمل، ويؤفر للبلاد حاجاتها الاستهلاكية ويؤمن التوازن الطبقي.   وكان من الأفضل أيضاً، لو رصد أهل الخليج مشروع ثورة زراعية، على مستوى مصر والسودان، زهيدة الكلفة وبوسعها توفير «الغذاء الحرّ غير المشروط» لكلّ العرب بالتئام ثلاثة عناصر، الرساميل الخليجية والمساحات السودانية الخصبة والخبرات والعمالة المصرية، فنوفّر على العرب، استهلاك «الأذلاء» ونحافظ على حرية قراراتهم الغذائية والسياسية.   لكنّ ما يريده الممولون يذهب في مناح أخرى، لأنّ هدفهم هو الإمساك بالثور من قرنيه، وتدجينه ليصبح نعجة، وهذا ما فعلوه مع السادات الذي تحول من منتصر في حرب أكتوبر 73 إلى منهزم على المستوى السياسي ومحطم للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وكذلك خليفته مبارك، الذي واصل أداء دور السادات، إنما من دون جعجعته.   وما يؤسف له أنّ هناك ميلاً لدى النظام المصري الحالي إلى تكرار الدور نفسه عبر علاقات اقتصادية ريعية مع الخليج على أساس قطاعات غير منتجة، وهذا يؤدي إلى انسجام سياسي مع الخليج وواشنطن وتبقى «كامب دايفيد» الراعي الأساس للانهزام في الإقليم العربي، وبذلك تواصل القاهرة خسارة دورها الإقليمي.   كشف وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن تأييده لمؤتمر شرم الشيخ، بالتعهد بإعادة العمل بمعاهدة التسليح الأميركي لمصر التي كانت مجمّدة لأسباب تتعلق بالرهان الأميركي السابق على الإخوان المسلمين.   وهكذا نتبين أنّ إعادة إنتاج نظام عربي جديد ليست على برنامج عمل السيسي، وأقصى المطلوب هو الاصطفاف في حلف مصري ـ خليجي ـ تركي للوقوف في وجه إيران وروسيا والصين. فهل تكون الانتصارات على الإرهاب في سورية والعراق بديلاً من الدور المصري؟   المعركة طويلة، لكنّ بشائر النصر بدأت تطلّ من خلف الأفق الأسود ببسالة أبطال سورية والعراق الذين يسجلون الملاحم في أصعب الظروف التاريخية والمصرية.      

المصدر : د. وفيق ابراهيم


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة