من الواضح أن تغييرات طرأت على خريطة «سايكس- بيكو» في أعقاب اندلاع حرب الإرهاب في العراق وسورية وعليهما.

 تقارير صحافية مصدرها أميركا وأوروبا تشير إلى سيطرة «الدولة الإسلامية داعش» على نحو ثلث مساحة العراق، وأن «داعش» و»النصرة» تسيطران أيضاً على نحو ثلث مساحة سورية. سواء كانت هذه التقارير دقيقة أو مغالية، فإن الأهم من المساحة المسيطر عليها هو عدد السكان والمواقع الاستراتيجية المشمولة بالسيطرة. ذلك أن معلومات متعددة المصادر تتقاطع على أن عدد سكان محافظات غرب العراق وشرق سورية التي باتت تحت سيطرة «داعش» يناهز العشرين مليوناً.

إلى ذلك، فإن المناطق التي تسيطر عليها «داعس» عابرةٌ للحدود التي رسمتها خريطة «سايكس بيكو» بين العراق وسورية. فهي تقع بين نهري دجلة والفرات، وتحتوي بحيرات وسدوداً مائية وآبار نفطٍ ومصافٍ ومرافق مائية وكهربائية عامة. ويشكّل امتدادها الجغرافي اسفيناً يفصل جيوسياسياً جنوب شرقي سورية عن جنوب غربي العراق، وبالتالي عن إيران.

ثمة رأيان في الجهة التي تعبث بخريطة «سايكس بيكو» على النحو المبيّن آنفاً. الأول يشير إلى «داعش» تحديداً ويدل على صحة حكمه بالبيانات المتعددة الصادرة عنها، والتي تشي بأن مخططها يرمي إلى السيطرة على بلاد الرافدين وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية بما فيها السعودية وإمارات الخليج واليمن. وقد أوحت أخيراً أن مخططها يشمل أيضاً ليبيا ومصر وتونس. ويكتسب هذا الرأي صدقية إضافية بالمحاولات المتكررة التي يقوم بها أمراء «الدولة الإسلامية» ودعاتها للاستحصال على بيعة من قادة التنظيمات «الجهادية» في شتى بلاد العرب لـِ «الخليفة» أبي بكر البغدادي.

الرأي الثاني، يعتبر الولايات المتحدة الجهة التي تعبث بخريطة «سايكس بيكو»، ويقدّم أدلة لافتة في هذا المجال. فهي دعمت تنظيمات «جهادية» عدة ناشطة في شرق سورية وشمالها، وسارعت إلى دعم إقليم كردستان العراق ذي الحكم الذاتي عندما تعرّضت عاصمته أربيل لهجمة من قوات «الدولة الإسلامية» خلال الصيف الماضي، وسرّبت مذ كان نائب الرئيس الأميركي جو بايدن عضواً في مجلس الشيوخ مخططاً يرمي إلى تقسيم العراق الى ثلاث دويلات، كردية وسنيّة وشيعية، ودعت إلى إنشاء وتسليح وتدريب «جيش عشائري خاص» للمحافظات السنيّة في غرب العراق، واستدعت وفداً منها إلى واشنطن للبحث معه في تفاصيل التنفيذ، واشتركت بشخص سفيرها السابق في كرواتيا الخبير في إجراءات تقسيم يوغسلافيا السابقة في وفد أوروبي أميركي زار محافظة الحسكة السورية لحثّ القوى الكردية الناشطة فيها على التعاون مع سلطات إقليم كردستان العراق بعيداً من حكومة دمشق، وسكتت إن لم تكن شجعت «لواء اليرموك» التابع لـِ»الجيش الحر» الذي يقول موقع «دبكافايل الإسرائيلي» إن ضباطاً وخبراء من وكالة الاستخبارات الأميركية درّبوه لمدة سنتين في الأردن على الانضمام ميدانياً إلى قوات «داعش» في مناطق الجولان السورية المجاورة لخط الفصل مع منطقة الاحتلال «الإسرائيلي»، وتغاضت عن توريد السلاح والرجال للتنظيمات «الجهادية» في سورية عبر تركيا.

سواء كانت «داعش» أو الولايات المتحدة هي الجهة التي تعبث بخريطة «سايكس بيكو»، فإن ذلك لا يحول دون تلاقي الطرفين وتعاونهما على تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، لأن إقامة دولة انفصالية بين دجلة والفرات من شأنها تحقيق مصالح وازنة لكلٍ من الولايات المتحدة و»داعش» على النحو الآتي:

أولاً، إضعاف كلٍ من حكومتي بغداد ودمشق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على هدفين ثابتين لواشنطن، هما حماية مصالحها في المنطقة ودعم أمن «اسرائيل»، إضافة إلى هدف ثالث هو تفكيك بلاد الرافدين وبلاد الشام والسيطرة عليهما من دون أن يمسّ ذلك بالضرورة بمصالح «داعش».

ثانياً، تمكين التنظيمات «الجهادية» كما تلك التابعة لـِ»المعارضة السورية المعتدلة» من إقامة «منطقة عازلة» على طول خطوط الفصل الممتدة على مدى 75 كيلومتراً من الحدود مع لبنان في الغرب إلى الحدود مع الأردن في الجنوب. إن إقامة هذه المنطقة العازلة تخدم مصالح الولايات المتحدة و»إسرائيل» و»الدولة الإسلامية» بدعمها أمن «إسرائيل» وإضعاف أمن سورية ما يفيد الدولتين الأولى والثانية، وإيجاد موطئ قدم وموقع تقاطع مع «إسرائيل»، ما يفيد الدولة الثالثة ويمكّنها من المشاركة في أية مفاوضات لتقرير مستقبل المنطقة.

ثالثاً، فصل سورية جيوسياسياً عن إيران بإقامة دولة اسفين فاصلة في محافظات العراق الغربية ومحافظات سورية الشرقية، تمتد من الحدود مع تركيا في الشمال إلى الحدود مع الأردن في الجنوب ما يؤثّر سلباً في دور سورية كحلقة ربط استراتيجية بين إيران وقوى المقاومة المتعاونة معها في لبنان وفلسطين المحتلة.

رابعاً، فصل الأردن عن العراق وربما عن سورية أيضاً، الامر الذي يبقيه أسير ارتباطٍ جبري مع «إسرائيل» استراتيجياً واقتصادياً، فضلاً عن وضع «داعش » الموجودة على حدوده الشرقية والشمالية في مركز قوي لدعم القوى الإسلامية المؤيدة لها في الداخل الأردني.

خامساً، تهديد قوى المقاومة في لبنان بدعم القوى «الجهادية» المواليـة لـِ»داعش» لإقامة «منطقة عازلة» عبر الحدود اللبنانية السورية بين منطقة القلمون السورية ومنطقة البقاع الشمالي اللبنانية، ومحاولة التمدد شمالاً للوصول إلى منطقة عكار وبالتالي إلى البحر المتوسط.

قد تبدو هذه الأخطار والتحديات بعيدة المنال أو تنطوي على قدْر من المغالاة. لكن احتمال قيام تعاون مباشر أو غير مباشر بين الولايات المتحدة و»داعش» يبعث فعلاً على القلق ويستدعي التفكير الجدّي بخطة متكاملة للمواجهة.

درهم وقاية خير من قنطار علاج.

  • فريق ماسة
  • 2014-12-21
  • 10332
  • من الأرشيف

من يعبث بخريطة «سايكس ـ بيكو» ولماذا؟

من الواضح أن تغييرات طرأت على خريطة «سايكس- بيكو» في أعقاب اندلاع حرب الإرهاب في العراق وسورية وعليهما.  تقارير صحافية مصدرها أميركا وأوروبا تشير إلى سيطرة «الدولة الإسلامية داعش» على نحو ثلث مساحة العراق، وأن «داعش» و»النصرة» تسيطران أيضاً على نحو ثلث مساحة سورية. سواء كانت هذه التقارير دقيقة أو مغالية، فإن الأهم من المساحة المسيطر عليها هو عدد السكان والمواقع الاستراتيجية المشمولة بالسيطرة. ذلك أن معلومات متعددة المصادر تتقاطع على أن عدد سكان محافظات غرب العراق وشرق سورية التي باتت تحت سيطرة «داعش» يناهز العشرين مليوناً. إلى ذلك، فإن المناطق التي تسيطر عليها «داعس» عابرةٌ للحدود التي رسمتها خريطة «سايكس بيكو» بين العراق وسورية. فهي تقع بين نهري دجلة والفرات، وتحتوي بحيرات وسدوداً مائية وآبار نفطٍ ومصافٍ ومرافق مائية وكهربائية عامة. ويشكّل امتدادها الجغرافي اسفيناً يفصل جيوسياسياً جنوب شرقي سورية عن جنوب غربي العراق، وبالتالي عن إيران. ثمة رأيان في الجهة التي تعبث بخريطة «سايكس بيكو» على النحو المبيّن آنفاً. الأول يشير إلى «داعش» تحديداً ويدل على صحة حكمه بالبيانات المتعددة الصادرة عنها، والتي تشي بأن مخططها يرمي إلى السيطرة على بلاد الرافدين وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية بما فيها السعودية وإمارات الخليج واليمن. وقد أوحت أخيراً أن مخططها يشمل أيضاً ليبيا ومصر وتونس. ويكتسب هذا الرأي صدقية إضافية بالمحاولات المتكررة التي يقوم بها أمراء «الدولة الإسلامية» ودعاتها للاستحصال على بيعة من قادة التنظيمات «الجهادية» في شتى بلاد العرب لـِ «الخليفة» أبي بكر البغدادي. الرأي الثاني، يعتبر الولايات المتحدة الجهة التي تعبث بخريطة «سايكس بيكو»، ويقدّم أدلة لافتة في هذا المجال. فهي دعمت تنظيمات «جهادية» عدة ناشطة في شرق سورية وشمالها، وسارعت إلى دعم إقليم كردستان العراق ذي الحكم الذاتي عندما تعرّضت عاصمته أربيل لهجمة من قوات «الدولة الإسلامية» خلال الصيف الماضي، وسرّبت مذ كان نائب الرئيس الأميركي جو بايدن عضواً في مجلس الشيوخ مخططاً يرمي إلى تقسيم العراق الى ثلاث دويلات، كردية وسنيّة وشيعية، ودعت إلى إنشاء وتسليح وتدريب «جيش عشائري خاص» للمحافظات السنيّة في غرب العراق، واستدعت وفداً منها إلى واشنطن للبحث معه في تفاصيل التنفيذ، واشتركت بشخص سفيرها السابق في كرواتيا الخبير في إجراءات تقسيم يوغسلافيا السابقة في وفد أوروبي أميركي زار محافظة الحسكة السورية لحثّ القوى الكردية الناشطة فيها على التعاون مع سلطات إقليم كردستان العراق بعيداً من حكومة دمشق، وسكتت إن لم تكن شجعت «لواء اليرموك» التابع لـِ»الجيش الحر» الذي يقول موقع «دبكافايل الإسرائيلي» إن ضباطاً وخبراء من وكالة الاستخبارات الأميركية درّبوه لمدة سنتين في الأردن على الانضمام ميدانياً إلى قوات «داعش» في مناطق الجولان السورية المجاورة لخط الفصل مع منطقة الاحتلال «الإسرائيلي»، وتغاضت عن توريد السلاح والرجال للتنظيمات «الجهادية» في سورية عبر تركيا. سواء كانت «داعش» أو الولايات المتحدة هي الجهة التي تعبث بخريطة «سايكس بيكو»، فإن ذلك لا يحول دون تلاقي الطرفين وتعاونهما على تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، لأن إقامة دولة انفصالية بين دجلة والفرات من شأنها تحقيق مصالح وازنة لكلٍ من الولايات المتحدة و»داعش» على النحو الآتي: أولاً، إضعاف كلٍ من حكومتي بغداد ودمشق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على هدفين ثابتين لواشنطن، هما حماية مصالحها في المنطقة ودعم أمن «اسرائيل»، إضافة إلى هدف ثالث هو تفكيك بلاد الرافدين وبلاد الشام والسيطرة عليهما من دون أن يمسّ ذلك بالضرورة بمصالح «داعش». ثانياً، تمكين التنظيمات «الجهادية» كما تلك التابعة لـِ»المعارضة السورية المعتدلة» من إقامة «منطقة عازلة» على طول خطوط الفصل الممتدة على مدى 75 كيلومتراً من الحدود مع لبنان في الغرب إلى الحدود مع الأردن في الجنوب. إن إقامة هذه المنطقة العازلة تخدم مصالح الولايات المتحدة و»إسرائيل» و»الدولة الإسلامية» بدعمها أمن «إسرائيل» وإضعاف أمن سورية ما يفيد الدولتين الأولى والثانية، وإيجاد موطئ قدم وموقع تقاطع مع «إسرائيل»، ما يفيد الدولة الثالثة ويمكّنها من المشاركة في أية مفاوضات لتقرير مستقبل المنطقة. ثالثاً، فصل سورية جيوسياسياً عن إيران بإقامة دولة اسفين فاصلة في محافظات العراق الغربية ومحافظات سورية الشرقية، تمتد من الحدود مع تركيا في الشمال إلى الحدود مع الأردن في الجنوب ما يؤثّر سلباً في دور سورية كحلقة ربط استراتيجية بين إيران وقوى المقاومة المتعاونة معها في لبنان وفلسطين المحتلة. رابعاً، فصل الأردن عن العراق وربما عن سورية أيضاً، الامر الذي يبقيه أسير ارتباطٍ جبري مع «إسرائيل» استراتيجياً واقتصادياً، فضلاً عن وضع «داعش » الموجودة على حدوده الشرقية والشمالية في مركز قوي لدعم القوى الإسلامية المؤيدة لها في الداخل الأردني. خامساً، تهديد قوى المقاومة في لبنان بدعم القوى «الجهادية» المواليـة لـِ»داعش» لإقامة «منطقة عازلة» عبر الحدود اللبنانية السورية بين منطقة القلمون السورية ومنطقة البقاع الشمالي اللبنانية، ومحاولة التمدد شمالاً للوصول إلى منطقة عكار وبالتالي إلى البحر المتوسط. قد تبدو هذه الأخطار والتحديات بعيدة المنال أو تنطوي على قدْر من المغالاة. لكن احتمال قيام تعاون مباشر أو غير مباشر بين الولايات المتحدة و»داعش» يبعث فعلاً على القلق ويستدعي التفكير الجدّي بخطة متكاملة للمواجهة. درهم وقاية خير من قنطار علاج.

المصدر : البناء / د. عصام نعمان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة