دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
الجيش السوري المتقدم بحذر باتجاه مدينة دوما، يتابع معارك القضم التدريجي كالتي اتبعها مثلا في حمص وحلب. لكن المشهد الحقيقي هنا، صورة التقدم ببطء نحو ما يسمى «عاصمة الثورة» في منطقة الغوطة الشرقية، أكبر من ذلك، ويبدو مرتبطاً بمعركة «درع العاصمة» بكل ما لها من تداعيات، سياسياً وعسكرياً في ظل المشهد الإقليمي.
دوما، التي جرى العمل عليها منذ الأيام الاولى للعمل المسلح، لتكون شرارة الاختراق نحو العاصمة السورية، كانت أيضاً بيضة القبان في غرفة العمليات
العسكرية السعودية التي سبق أن أشرف عليها رئيس الاستخبارات السعودية السابق بندر بن سلطان انطلاقاً من الأراضي الأردنية. وهي بالتالي، مثلت الرهان السعودي الأكثر منطقية، لولوج العاصمة من هذه البوابة القريبة، المفتوحة على المدى المتسع لمناطق الغوطة المرتبطة بجبهات الجنوب. وفيها، في هذه المدينة، يتحصن «رجل السعودية الأول» زهران علوش، المعروف سخرية بين السوريين والعديد من الفصائل المسلحة، بأنه ملك الانسحاب من الجبهات.
معركة دوما لن تبدأ غداً. لكنها، فيما يقترب الجيش السوري منها تدريجياً، ستشكل تتويجاً لمعارك الغوطتين التي بدأت قبل اكثر من عامين، وراح ضحيتها آلاف الجنود والمسلحين. وربما اذا ما انهارات دفاعات زهران علوش، كما ترجح مصادر ميدانية مطلعة، ستؤشر الى «نهاية منظومة إسقاط مدينة دمشق».
لماذا دوما؟ وكما أسلفنا، فهي الى جانب كونها «عاصمة» للمسلحين على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة السورية، شكلت «بيئة حاضنة» للأفكار المتطرفة، منذ ما قبل الاضطرابات التي دخلتها سوريا في ربيع العام 2011. معركة دوما بهذا المعنى، أكثر من مجرد مواجهة عسكرية مع مجموعات مسلحة. هناك انتشار للبيئة السلفية التكفيرية تتلاقى مع حالة تمذهب تترعرع في مناطق مهملة اجتماعياً. وليست صدفة أن العديد من قتلى المسلحين في المواجهات التي جرت في مناطق جوبر وعين ترما وسقبا ومرج السلطان وغيرها، هم من أبناء الغوطة وبلداتها.
دوما بهذا المعنى، كانت كبيئة حاضنة، شرارة رئيسية في انطلاق العمل المسلح ضد النظام، وامتداده الى القرى والبلدات في الغوطتين، وهي كما يصفها مصدر مطلع على المشهد الميداني، «أحد أهم روافد النار التي أشعلت سوريا».
وبحسب المصدر، فإن المحطتين الأساسيتين في تحرك الجيش لاستعادة دوما، تجسدتا في السيطرة على المليحة التي استغرقت معركتها أكثر من مئة يوم، واختراق جوبر التي استرد الجيش نصفها تقريباً وقسَّم النصف الثاني منها الى ثلاثة أجزاء معزولة عن بعضها البعض، لقطع الأمدادات عنها. يقول المصدر إن المليحة وجوبر تمثلان خطوط الدفاع الحقيقية عن دوما، وهما الى جانب عين ترما، استخدمت طوال سنوات لقصف دمشق نفسها».
وكان الجيش السوري خلال الاسابيع الماضية تمكن من استرجاع الدخانية ووادي عين ترما وتل الصوان ومزارع الكردي ومزارع الريحانية وعدرا العمالية وعدرا الجديدة وعدرا البلد، ونجح بذلك بإرباك الإمدادات العسكرية ما بين دوما، وبين مناطق البادية الشاسعة. والمفاجأة التي اقدم عليها الجيش تمثلت بعد السيطرة على الكردي والريحانية والمعامل، بالانقضاض السريع على مزرعة حوش الفارة التي تتمثل اهميتها بأنها تساهم في تطويق بلدة ميدعا وتضييق الخناق على الإمدادات نحو دوما من البادية، وربما قطعها بالكامل إذا ما اكتمل الطوق بالسيطرة على كل من البلالية والنشابية.
دوما تستكمل معركة العتيبة الشهيرة. هذه المدينة عندما استردها الجيش في ربيع العام 2013، وعزل الغوطة عن البادية، علت اصوات جماعات المعارضة المسلحة، بأن سقوطها سيشكل بداية النهاية لوجودهم في الغوطة الشرقية. المسلحون أنفسهم سعوا مرة اخرى في ربيع العام 2014 الى محاولة الاستيلاء عليها، وفشلوا. دوما هي «تتويج للهجوم المضاد للجيش» الذي أحبط ما سمي وقتها بمعركة الغوطة التي شارك فيها آلاف المسلحين، انطلقت العديد من مجموعاتهم او تلقت مساندة من داخل الأراضي الأردنية عندما كان بندر بن سلطان رئيساً للاستخبارات، وكان شقيقه سلمان يقود غرفة العمليات السعودية، من الأردن.
وهناك ما يشبه السباق مع الزمن بين جبهتين مهمتين، اذ يترافق هذا التقدم الحذر للجيش السوري نحو دوما ومحاولة حسم معركة الغوطة الشرقية نهائياً، مع تصعيد لافت خلال الأسابيع الأخيرة على الجبهة الجنوبية في درعا والجولان، حيث النفوذ المتغلغل للاستخبارات الاردنية والسعودية والاسرائيلية في دعم فصائل «جهادية» ومسلحة، ما يحتم على دمشق ضمان إنهاء الوضع القائم في دوما لوضع اللبنة الاخيرة في جدار الدفاع الجنوبي عن العاصمة.
النفوذ السعودي على أبواب دمشق، كان حاضراً في المؤتمر الصحافي لوزير الخارجية السوري وليد المعلم في اواخر آب الماضي، عندما دعا مجلس الامن الدولي الى التعامل مع الارهاب بنظرة اكثر شمولية لا تقتصر على تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة»، وإنما تشمل أيضاً «الجبهة الاسلامية» التي يقودها زهران علوش ضمن تنظيمه «جيش الاسلام».
لكن من المبكر الجزم بحتمية اندلاع معركة شاملة في دوما. تدرك دمشق ان زهران علوش قابل للتراجع «التكتيتي». وربما بهذا المعنى، قد يسعى الجيش الى تجنيب المدينة التي كان يقطنها نحو 500 ألف شخص، الخراب الشامل، ربما بفتح نافذة هروب للمسلحين منها. وفي الوقت ذاته، يدرك علوش أن دوما هي «عاصمته» ومعقله الرئيسي، وسيكون خروجه منها نهاية لتسلطه العسكري على المدينة، واضمحلالا لدوره المراهن عليه إقليمياً، بعدما أظهر في الشهور الأخيرة، رفضه لوجود قيادات تحاول منازعته على السلطة فيها، بل إنه، كما اشارت العديد من التقارير في الفترة الاخيرة، عمد الى قمع تظاهرات واحتجاجات من اهالي المدينة ضد الوجود الميليشياوي فيها.
وهناك ورقة ابتزاز اخرى يستخدمها زهران علوش لحماية نفسه من هجوم كبير للجيش على المدينة، اذ تشير التقارير ايضا الى ان الآلاف من مخطوفي مدينة عدرا العمالية بالاضافة الى العسكريين، نقلوا الى درعا ليستخدمهم «جيش الاسلام» الذي يتزعمه، كدروع بشرية ومقايضة.
ويرجح المصدر ألا يعمد النظام الى خوض معركة حاسمة وسريعة في دوما يكون فيها زهران علوش، ومن معه من فصائل مسلحة، يقاتلون وظهرهم الى الحائط.
ولهذا يبدو احتمالان في الأفق:
1- ان يفرض الجيش حصاراً قاسياً على المدينة، يرافقه ضغط عسكري هائل وعملية استنزاف طويلة، تعيد المدينة الى الحاضنة السورية، على غرار ما جرى مثلا في حمص القديمة، وهو تطور من شأنه أن يعزز حصانة النظام على الأبواب المحتملة لاستئناف مسيرة جنيف الباردة.
2- استغلال التطويق العسكري المحكم لتشجيع المصالحات التي يعتبرها النظام من أولوياته. وهناك بالفعل جهود تبذل منذ اكثر من عام، ووفود من فعاليات المدينة تزور دمشق بين الحين والآخر لمتابعة الملف، وهي عملية تتلقى زخماً كلما خرجت تظاهرات محلية ضد سطوة علوش ورجاله. وقد تلقى هذه الجهود نجاحاً بعدما نُقل عن علوش نفسه القول مؤخراً بأنه «يوافق على ما يوافق عليه اهل العقد».
تلتقي فكرة المصالحات مع مسألتين: رغبة النظام في تعزيز حالة النقمة الشعبية في المدينة على المسلحين، كما جرى في العديد من البلدات السورية الملتهبة، واشتداد حمى المنافسة بين الفصائل المسلحة في دوما، ومع الطرح الجديد الذي قدمه المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا قبل يومين بشأن «تجميد» الاشتباكات في مناطق محددة لإطلاق عجلة التسويات المحلية، والتي أبدت دمشق ترحيباً أولياً بها.
وبعيداً عن معركة عين العرب في الشمال السوري، وما يجري في الجبهة الجنوبية من تطورات ميدانية اظهرت دور العامل الاسرائيلي، يتابع المراقبون ثلاث جبهات لا تقل خطورة ولها أبعاد إستراتيجية في مخاض الحرب السورية: دوما وما تمثله بالنسبة لمعركة دمشق، معركة مورك وتداعياتها في ريف حماة الشمالي، ومعركة حلب التي يواصل الجيش تقدمه حولها لاستكمال عزلها عن المسلحين في ريفها.
ومن مؤشرات أهمية ما يجري في شمال حلب، الإعلان المريب من جانب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بالامس بأن حلب هي «المدينة الرئيسية» في المعركة ضد تنظيم «داعش»، لا عين العرب.
وكانت صحيفة «راديكال» التركية نقلت عن مصادر أن مجلس الأمن القومي التركي، برئاسة رجب طيب اردوغان، بحث مصير حلب. وذكرت أن «أنقرة ليست فقط قلقة من سقوط حلب بيد داعش، بل إنها تحولت إلى كابوس لدى الحكومة التركية»، مشيرة الى ان انقرة تراهن من خلال التركيز على مصير حلب، على تعزيز مطلب أنقرة إقامة «منطقة عازلة» ومنع الطيران السوري من ضرب وإضعاف «الجيش الحر» الذي تراهن أطراف غربية وإقليمية عليه، لا لمقاتلة عصابات «داعش» وحده، وإنما الجيش السوري ايضاً، بتمويل وتسليح من السعودية مجدداً!
المصدر :
السفير/ خليل حرب
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة