دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
ثمة تخبّط سياسي وعسكري يعصف بأطراف «التحالف الدولي ضد الإرهاب». مردُّ التخبّط تناقض مرامي أطرافه من وراء الحرب في الحاضر والمستقبل.
أول مظاهر التناقض يتجلّى في تحديد الجهات التي تستهدفها الحرب. ظاهر الحال يوحي بأنّ الهدف الرئيس هو تنظيم «الدولة الإسلامية داعش». واقع الحال يشير إلى هدف آخر هو سورية. الولايات المتحدة وتركيا لا تخفيان استهداف سورية، بل أن تركيا تشترط تفاهماً مسبقاً بينها وبين الولايات المتحدة على إزاحة الرئيس الأسد ونظامه قبل الموافقة على الانخراط في الحرب ضدّ «داعش».
ثاني مظاهر التناقض يتجلى في توصيف الجهات التي تستهدفها الحرب. الولايات المتحدة تعتبر «داعش»، ظاهراً في الأقلّ، تنظيماً إرهابياً وهدفاً مباشراً لغاراتها الجوية. تركيا لا تعتبر «داعش» عدواً وترفض، تالياً، مشاركة الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين في المجهود الحربي الرامي لمنع «داعش» من اجتياح مدينة عين العرب كوباني ذات الغالبية الكردية. إلى ذلك، لا تعتبر الولايات المتحدة «وحدات حماية الشعب الكردي» وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري تنظيمين إرهابيّين، في حين أن تركيا تعتبرهما إرهابيّين بامتياز بسبب تأييدهما حزب العمال الكردستاني التركي.
ثالث مظاهر التناقض رفضُ أنقرة طلب واشنطن السماح لأكراد تركيا بإرسال الرجال والسلاح عبر الحدود التركية السورية لدعم المقاتلين الكرد المدافعين عن عين العرب، في حين أنها وافقت على تمكين نحو 200 مقاتل من تنظيم «البيشمركة» التابع لمسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، بالتوجه إلى عين العرب عبر الأراضي التركية لمساندة المدافعين عنها.
رابع مظاهر التناقض معارضةُ الولايات المتحدة مشاركة إيران في «التحالف الدولي ضدّ الإرهاب»، ومعارضتها مشاركة إيران في الدفاع عن العراق ضدّ «داعش» على رغم موافقتها على مشاركتها سابقاً في الدفاع عن أربيل، عاصمة كردستان العراق، عندما هدّدها «داعش» بالاجتياح قبل نحو شهرين.
خامس مظاهر التناقض معارضةُ الولايات المتحدة من جهة قبول لبنان هبة الأسلحة المجانية التي قدمتها إيران على رغم تعرّضه لاعتداءات يومية من «داعش» وجبهة «النصرة»، وامتناعها من جهة أخرى عن بيع لبنان أسلحة ثقيلة يحتاجها الجيش في تصديه للتنظيمات الإرهابية.
هذه التناقضات ما كانت لتظهر لولا التعارض في المصالح والمخططات بين أطراف «التحالف الدولي» في شأن الحرب في سورية وعليها، والمسألة الكردية وانعكاساتها على سورية والعراق وتركيا، والمقاومة الفلسطينية ولا سيما في قطاع غزة وانعكاسها على أمن «إسرائيل»، ودور إيران «النووية» ونفوذها في الإقليم.
غير أن تناقضات المصالح والمخططات بين أطراف «التحالف الدولي» لا تعني عدم وجود مصالح وأهداف مشتركة بينها حيال الأطراف التي يجري استهدافها، مباشرةً أو مداورة، وفي مقدمها سورية والكرد وقوى المقاومة الفلسطينية. أميركا وتركيا متفقتان، مثلاً، على إزاحة الأسد ونظامه وتفكيك سورية وإعادة «تنظيمها» بما يخدم مصالحهما وأمن «إسرائيل». في هذا الإطار هما متفقتان على سلخ مناطق تواجد الأكراد عن جسم البلاد وسلطة الحكومة المركزية في دمشق. كما هما متفقتان على إعادة صياغة العراق على نحوٍ يؤدّي إلى قيام ثلاثة كيانات قد يجمعها وقد لا يجمعها نظام فيديرالي أو كونفيديرالي ضعيف. إلى ذلك، قد تنطوي الاتفاقات الضمنية بين أميركا وتركيا ودول أخرى في الإقليم على تفاهمات حول مصالح ومشاريع كبرى تتعلق بخطوط توريد النفط والغاز عبر العراق وسورية وصولاً إلى تركيا وتالياً إلى اوروبا.
يتحصّل من مجمل هذه التناقضات الظاهرة والاتفاقات الضمنية والتفاعلات الناشطة على مستوى الإقليم أن الأطراف النافذة في «التحالف الدولي»، ولا سيما الولايات المتحدة وتركيا، بصدد رسم خريطة سياسية جديدة للدول القائمة، وأنّ هذه العملية معقدة وقد تتطلب إجراء تعديلات في الحدود السياسية المتعارف عليها بموجب اتفاق سايكس – بيكو أو قد تتمّ في نطاقها، وأنها ستكون نتيجة حربٍ مديدة بالنظر إلى التعقيدات والأخطار التي تنطوي عليها الصراعات الحادة مع قوى «الإسلام الجهادي» عموماً و«الدولة الإسلامية- داعش» خصوصاً.
الحرب المديدة ستكون على حساب العرب والكرد بالدرجة الأولى لأنّ مسارحها وجولاتها ستشمل، غالباً، العراق وسورية ولبنان، وربما الأردن أيضاً، وقد تمتدّ أيضاً إلى تركيا إذا تحرك أكرادها 20 مليوناً في منطقة ديار بكر لنصرة إخوتهم في بلاد الرافدين وبلاد الشام.
لأن الحرب تنطوي على استنزاف متزامن للعرب والكرد فقد تسعى تركيا إلى احتوائها لتفادي انعكاساتها السلبية عليها. في هذا السياق يمكن تفسير قبول أنقرة بأن تتوجه قوة من «البيشمركة الكردية العراقية عبر أراضيها إلى عين العرب وذلك بقصد أن تكون للبرزاني، حليفها الضمني، يدٌ في احتواء إخوته الأكراد السوريين، فلا يتمادون في إدارتهم الذاتية لمناطقهم على نحوٍ ينقل عدواها إلى إخوتهم في ديار بكر التركية المجاورة.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنّ شعور قادة إيران بأنّ الحكومة والجيش العراقيّين عاجزان عن لجم «داعش» قد يحملهم على التدخل عسكرياً للحؤول دون قيامه، منفرداً أو بالتواطؤ مع أميركا وحلفائها، بمدِّ نشاطه إلى داخل إيران نفسها لتفجير فتنة سنيّة – شيعية.في هذه الحالة، لن تكون الحرب مديدة فحسب بل شاملة وقاسية أيضاً وذات أبعاد ومفاعيل عالمية.
المصدر :
البناء /د. عصام نعمان
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة