كلام زياد الرحباني الأخير بمثابة شهقة وجع في ظرف من أقسى الظروف التاريخية، التي تمر على المنطقة، طغياناً واستعصاءً ومعاداةً للمنطق والحق. لكنّه يحمل دلائل واضحة على حبّ وحرص ومسؤولية لا تتعمد الإغاظة، بقدر ما تنطوي على نقد مؤلم لسياسات حزب الله الداخلية. لم تُثر عباراته غيظ الحزب وسخطه، لكن قرعها هذه المرة كان أشدّ. مسّت الذات من الداخل. حرّكت سكّة الجدل.

بدأت بعض القيادات تعرق وتفكّر. ذلك أنّ زياد لم يقل أشياءه في ميعة حفلة فيها خمرة وثرثرة، بل أراد أن يشدّ وثاق الحزب وعضده بأخيه في النضال والمقاومة (الحزب الشيوعي).

الأخطاء المادية والمعنوية، التي بلغت قدراً كافياً لتجعل زياد يحنق ويتذمر من معالم المشكلة التاريخية الغامضة، والأزمة المهذبة التي تأرجحت إلى الأمام والخلف في سكون، سحابة عقدين ونيف من الزمن، إلى أن صاح زياد. كان يبدو أنّه يغني ولكنه كان يصرخ. كان يبدو أنّه يرقص ولكنه كالطير يرقص مذبوحاً من الألم!

بين حزب الله واليسار اللبناني ديالكتيك بيروقراطي خجول يعتمد على تقدير المواقف والمخاطر والخواطر، أكثر من بحثه عن المصالح المشتركة أو توكيده على أوضاع القوة لديهما.

ديالكتيك يقترب من لغة الغايات ويبتعد عن لغة الوسائل والممارسات. يتضمن أفكاراً ذكية، غير أنّه لا ينطق بها. يسترخي على أرائك من التشكيلات الكلامية ومجموعة من الرواسم (الكليشيهات)، وينأى بنفسه عن حقائق الأرض وتفاعلات السياسة. يختزن توقاً ثورياً جارفاً، لكنه يتكدس على صورة أهراءات مهملة. يُبقي مستوى العلاقة بين الطرفين أشبه بسباحة على الرمل، أي أن يظل كل واحد في مكانه لا يبارحه! هكذا، بقيت المحاورات على ضيقها وترسباتها الأيديولوجية والتاريخية، ولم تفلح بالخروج إلى مدارها الصحيح حيث المشترك الإنساني، أي المقاومة ضد الاحتلال في أعمق أبعادها، والنضال الاجتماعي ضد الاستغلال والاستبداد والطائفية في أجلى تفاعلاته الوطنية التي تتيح إعادة بناء المجتمع بصورة جديدة تلتزم معايير المساواة والعدالة.

لا تفسير معقولاً لبرودة العلاقة غير ما يمليه المقتضى الأيديولوجي الذي يحجب حركة التاريخ ويشوّه الواقع. قصور لا ينسجم والتجارب النضالية لكلا الفريقين، وعجز يحول دون خلق شبكة جديدة من الخطوط الساخنة لمواكبة التطورات والتحديات القائمة. من وجهة نظر معينة، تبدو الأيديولوجيا أقوى من تأسيسات الدم النقي الذي أريق في مواجهات بطولية مع العدو الإسرائيلي، ومن ثوريّة نبيلة شفافة ضجّت بها ساحات المدن اللبنانية الرئيسية، تتطلع إلى تكوين مجتمع إنساني مدني يضع حدّاً لكل الاجترارات الطائفية والقبلية التي يقوم بها نظام عقيم مهمته الأولى تعليم الخضوع والتمذهب. ومن وجهة نظر أخرى، تبدو الإشكالية في خريطة حزب الله الثقافية - السياسية التي لا تستوعب كيانات تمارس وظيفة الاجتهاد على ضوء العقل لا الدين. وعند الطرف المقابل، تبدو الملاحظات متصلة بأنماط السلوك الحزبي، لجهة البطء في الخروج من المدار السياسي المقفل، والعجز في بناء جسر متين بين القديم والحديث بمقدروه أن يربط بين تجربتين ومشروعين يعملان في المقاومة والإصلاح على الساحة الوطنية وعلى الساحة القومية. لكل جهة مآخذها على غيرها، كما ولها اختناقاتها الداخلية الأثيرة، وداؤها (الجميل) الذي لا تريد الشفاء منه. وهو ذا من يحدد أسس خطابها الاجتماعي والتاريخي بالرغم من تصادمه مع المزاج الجمعي لدى مناصري ومحازبي كل جهة، ترى أنّ فرصاً كبيرة تُهدر، وأهدافاً مشتركة تضلّ السبيل، وأحلاماً باطنة مكبوتة لا تعرف كيف تطفو على سطح الحياة. التحديات المطلبية كانت دائماً قادرة على استفزاز المخزون الشعوري والإنساني لدى جمهور الرايات الصفراء والحمراء على حدّ سواء، لكن لم يحسن التصرف مع بأسها ودافقيتها في مشروع إصلاحي على مستوى الوطن كله. وتحديات الوجود الصهيوني وحركته الإرهابية الاحتلالية كانت دائماً قادرة على شحن حياة الآلاف من المقاومين (الإخوة والرفاق) بالحماسة والحميّة الوطنية، لكنها لم تسر في طريق مرسوم منظم يُقدّم صورة جديدة عن النضال المشترك. وتحديات التكفير كانت دائماً قادرة على تظهير الوجه الآخر لهذه الظاهرة الشيطانية، من خلال الآفاق المضيئة للإيمان النقي والعلمانية الإنسانية بحيث يمكن أن يُشكل تحالفهما ضربة قوية للتعصب المذهبي والتيبّس الفكري ولشريعة الذبح باسم الله.

هكذا يبدو أنّ المسألة في حراجتها تقف عند حاجز العجز عن الانعتاق من الروابط والعقد التاريخية والنفسية والفكرية، وطبعاً كل بحسبها تضاؤلاً واتساعاً. وتظهر العلاقة مشروطة بمعيارية لحظوية محدودة ومتعثرة لا تتمثل بأفعال وحقائق سياسية وثقافية وتائهة لا تعرف طريق الانخراط في أفق المستقبل واحتمالاته وتساؤلاته وتحولاته بالاستفادة من طاقات وإمكانات للأسف، لا تُفعّل.

هناك حاجة، إذاً، لتحريض الطرفين لاستنهاض حيويتهما في صيغة حلم مشترك يتلمس تغيير الواقع الوطني وإلباسه ثوباً جديداً. فنتاج حزب الله والحزب الشيوعي العمود الفقري لليسار، يشترك بعدد من السمات المحورية التي يمكنها أن تحدد شكل الواقع اللبناني بمستوياته السياسية والاجتماعية على أقل تقدير. يمكنها تشكيل منظومة قيم بديلة عن النهب والتزوير والابتزاز والتهميش. يمكنها تنقية الهواء من غبار الطائفية الأصفر ودخان المذهبية الأسود. يمكنها أن تخرج بالجماهير إلى ميادين الحرية كي يستعيدوا وجودهم وحضورهم. يمكنها أن تجعل الوطن مكاناً فسيحاً للبوح النضالي الأصيل تتلاقى فيه قوى وتيارات قديمة وحديثة المنشأ تنشد الحرية بيمينها، وترفع السلاح بيسارها اقتراباً من حلم طال انتظاره وهو تحرير فلسطين من سرّاقها ومغتصبيها. يمكنها تشكيل قوة اجتماعية وأخرى عسكرية، وثالثة ثقافية تبدأ من الرغيف والبندقية والقلم لحماية لبنان من التقسيم أو الذوبان في لعبة الصياغات الإقليمية – الدولية.

الشيوعيون يتساءلون: لا يكفي أن يحتفظ الحزب بالمعجبين. ينبغي أن يجرّ القارب مسافة كافية لنصعد عليه معاً. وبدل أن يقلّب وجه الكلام بشِعر جميل، علينا أن نقلّب معاً وجه الواقع وننظفه من أوساخ الطائفية ونفايات الفساد، وبدل أن يمضي وحيداً إلى المعركة يمكننا أن نتشارك الدم والعرق والأناشيد والأغاني الثورية في الطريق إلى الحرية وإلى فلسطين. الشيوعيون يرون أنّ تجربة حزب الله تظل مغلقة مهما حاول أن يفتح كوى ونوافذ على حركات إسلامية جهادية خارج بيئته العقائدية، أثبتت التحديات مع التحولات في العالم العربي والأزمة في سوريا أنها حركات انتهازية أو شكلية لا وزن لها لا تتشارك مع الحزب سوى لتحصيل الأرباح والمكاسب، بينما كان الأولى لمجابهة المد التكفيري المذهبي التحالف مع قوى علمانية ووطنية وقومية مبدئية في معاداتها للمشاريع الأميركية والصهيونية ولكل جماعة طائفية تريد أن تفرض نموذجها في العيش والدين بحدّ السيف. وكان الأجدى التحالف مع قوى لا تتجنب وعور الشعاب، بل تنصهر في براكين الرفض والمقاومة بغير انتظار لأي جوائز وعوائد مادية. قوى لا تستسلم للتحولات إذا عاكستها باسم الواقعية. قوى تعتبر أنّ التنوع والتغاير قوة ثقاقية وسياسية تحرك وتجدّد وتكشف وتحرّر وتتخطى التماثل العازل الذي يسبب الجمود ونشوء الذهنيات الفاشية. لسان حال أهل اليسار اليوم، أنّ حزب الله (الديني) نجح في التحالف مع دولة علمانية (سوريا) لأسباب ودوافع قومية استراتيجية، وهذا جيد. ولكنّه فشل في بناء تحالف وطني مع حزب علماني (الشيوعي) لأسباب ودوافع سياسية وطائفية، وهذا سيئ! ولذا تبدو المفارقة قاسية وغريبة في أوضاع تتشابك فيها مصائر أمم وشعوب ودول وجماعات. ومن العسير أن يكون حظ الحزب من الإلهام في بعض المواقع أقل من حظه من التنظيم، وما يقتبسه على مستوى التجارب العسكرية أسرع مما يبتكره على مستوى الفكر. لذلك نحن خارج القارب. هكذا يقول الشيوعيون!

أما «الحزب اللهيون» فيجدون في الحزب الشيوعي تفككاً لا على مستوى العقيدة فحسب، بل على مستوى البنية التنظيمية والشخصية المعنوية. ولسان حالهم يقول: مجرد الرغبة لا تكفي وحدها لإعفاء الذات من المسؤولية التي لها متطلبات يجب السير في اتجاهها. وتبرئة الذات وتجريم الآخر لا يدخلان في سياسة فتح الطرق التي يجيدها «الإخوة الرفاق» الذين حوّلوا الحزب الشيوعي إلى مجرد ظاهرة تاريخية. الكتلة التغييرية هي التي تواصل السير في الزمن ولا تتوقف عند الربع الأخير من القرن الماضي. الخروج من تحت رماد الانكسار لا يحتاج إلى فعالية النظر لدى بعض القيادات المتنورة فقط، بل إلى فعالية النظر والعمل لدى كل المستويات الحزبية. وليس من الطبيعي أن تستنقع قيادة الحزب نفسها في بؤر «ما كان»، بل عليها أن تخرج إلى فضاءات «ما يجب أن يكون». إذ ما جدوى الإصرار على لعبة الصبر والانتظار ما تجيء به الظروف!

أمام الملأ يظهر أهل الحزب موجودين وغير موجودين. وأغلب المؤشرات تدّل على أنهم منفصمون عن الواقع ولا ينخرطون في التاريخ. يستمرون بالتمسك بأدبيات تتناقص فعاليتها وجاذبيتها أمام غول الفوضى التي تشكل تاريخاً قاهراً للجميع. مؤمنون كـ»حزب اللهيين» بأنّ هناك ضرورة لنقف على المسرح معاً، وأن نتشارك طريقاً مضيئاً من منطلق إنساني ثوري وطني لا أثر فيه للحساسيات من هنا وهناك، ولكن علينا أن نكتشفه معاً لا بالرجاء وحده، بل بالمبادرات الجديّة. ندرك أنّ عصرنا يغور بالفعل الجماعي والتفكير الجماعي، لكن نحتاج منكم الى تدارك الموقف ولهب الصراع والزمن الذي تحول إلى عواصف. وصار لزاماً أن تروا الواقع بعيون جديدة بحيث يكون اللقاء أكثر من فرصة، بل مسؤولية مشتركة لاستيعاب حجم التفاعلات الجارية على تخوم عالم يتشكل على نحو السرعة.

في النتيجة، السؤال يبقى هو السؤال، أين تكمن صعوبة العلاقة بين حزب الله والأحزاب الوطنية العلمانية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي؟ السؤال الذي بات ملحّاً الإجابة عنه بفعل سيولة التحديات وضخامتها. السؤال الذي ترتهن به قضايا سلمٍ وحرب، سؤال يظهر كإشكالية بارزة على طريق تفكير يقوم على أساس الاعتراف بالمخاطر المتبادلة والمصالح المشتركة.

الحبّ لم يسقط بعد، والمقاومة مشروع نضال لن ينكسر أبداً، فلِمَ يبقَ المقاومون، رفاقاً وإخوة، غرباء!

  • فريق ماسة
  • 2014-10-16
  • 12129
  • من الأرشيف

مقاومون... لكن غرباء!

كلام زياد الرحباني الأخير بمثابة شهقة وجع في ظرف من أقسى الظروف التاريخية، التي تمر على المنطقة، طغياناً واستعصاءً ومعاداةً للمنطق والحق. لكنّه يحمل دلائل واضحة على حبّ وحرص ومسؤولية لا تتعمد الإغاظة، بقدر ما تنطوي على نقد مؤلم لسياسات حزب الله الداخلية. لم تُثر عباراته غيظ الحزب وسخطه، لكن قرعها هذه المرة كان أشدّ. مسّت الذات من الداخل. حرّكت سكّة الجدل. بدأت بعض القيادات تعرق وتفكّر. ذلك أنّ زياد لم يقل أشياءه في ميعة حفلة فيها خمرة وثرثرة، بل أراد أن يشدّ وثاق الحزب وعضده بأخيه في النضال والمقاومة (الحزب الشيوعي). الأخطاء المادية والمعنوية، التي بلغت قدراً كافياً لتجعل زياد يحنق ويتذمر من معالم المشكلة التاريخية الغامضة، والأزمة المهذبة التي تأرجحت إلى الأمام والخلف في سكون، سحابة عقدين ونيف من الزمن، إلى أن صاح زياد. كان يبدو أنّه يغني ولكنه كان يصرخ. كان يبدو أنّه يرقص ولكنه كالطير يرقص مذبوحاً من الألم! بين حزب الله واليسار اللبناني ديالكتيك بيروقراطي خجول يعتمد على تقدير المواقف والمخاطر والخواطر، أكثر من بحثه عن المصالح المشتركة أو توكيده على أوضاع القوة لديهما. ديالكتيك يقترب من لغة الغايات ويبتعد عن لغة الوسائل والممارسات. يتضمن أفكاراً ذكية، غير أنّه لا ينطق بها. يسترخي على أرائك من التشكيلات الكلامية ومجموعة من الرواسم (الكليشيهات)، وينأى بنفسه عن حقائق الأرض وتفاعلات السياسة. يختزن توقاً ثورياً جارفاً، لكنه يتكدس على صورة أهراءات مهملة. يُبقي مستوى العلاقة بين الطرفين أشبه بسباحة على الرمل، أي أن يظل كل واحد في مكانه لا يبارحه! هكذا، بقيت المحاورات على ضيقها وترسباتها الأيديولوجية والتاريخية، ولم تفلح بالخروج إلى مدارها الصحيح حيث المشترك الإنساني، أي المقاومة ضد الاحتلال في أعمق أبعادها، والنضال الاجتماعي ضد الاستغلال والاستبداد والطائفية في أجلى تفاعلاته الوطنية التي تتيح إعادة بناء المجتمع بصورة جديدة تلتزم معايير المساواة والعدالة. لا تفسير معقولاً لبرودة العلاقة غير ما يمليه المقتضى الأيديولوجي الذي يحجب حركة التاريخ ويشوّه الواقع. قصور لا ينسجم والتجارب النضالية لكلا الفريقين، وعجز يحول دون خلق شبكة جديدة من الخطوط الساخنة لمواكبة التطورات والتحديات القائمة. من وجهة نظر معينة، تبدو الأيديولوجيا أقوى من تأسيسات الدم النقي الذي أريق في مواجهات بطولية مع العدو الإسرائيلي، ومن ثوريّة نبيلة شفافة ضجّت بها ساحات المدن اللبنانية الرئيسية، تتطلع إلى تكوين مجتمع إنساني مدني يضع حدّاً لكل الاجترارات الطائفية والقبلية التي يقوم بها نظام عقيم مهمته الأولى تعليم الخضوع والتمذهب. ومن وجهة نظر أخرى، تبدو الإشكالية في خريطة حزب الله الثقافية - السياسية التي لا تستوعب كيانات تمارس وظيفة الاجتهاد على ضوء العقل لا الدين. وعند الطرف المقابل، تبدو الملاحظات متصلة بأنماط السلوك الحزبي، لجهة البطء في الخروج من المدار السياسي المقفل، والعجز في بناء جسر متين بين القديم والحديث بمقدروه أن يربط بين تجربتين ومشروعين يعملان في المقاومة والإصلاح على الساحة الوطنية وعلى الساحة القومية. لكل جهة مآخذها على غيرها، كما ولها اختناقاتها الداخلية الأثيرة، وداؤها (الجميل) الذي لا تريد الشفاء منه. وهو ذا من يحدد أسس خطابها الاجتماعي والتاريخي بالرغم من تصادمه مع المزاج الجمعي لدى مناصري ومحازبي كل جهة، ترى أنّ فرصاً كبيرة تُهدر، وأهدافاً مشتركة تضلّ السبيل، وأحلاماً باطنة مكبوتة لا تعرف كيف تطفو على سطح الحياة. التحديات المطلبية كانت دائماً قادرة على استفزاز المخزون الشعوري والإنساني لدى جمهور الرايات الصفراء والحمراء على حدّ سواء، لكن لم يحسن التصرف مع بأسها ودافقيتها في مشروع إصلاحي على مستوى الوطن كله. وتحديات الوجود الصهيوني وحركته الإرهابية الاحتلالية كانت دائماً قادرة على شحن حياة الآلاف من المقاومين (الإخوة والرفاق) بالحماسة والحميّة الوطنية، لكنها لم تسر في طريق مرسوم منظم يُقدّم صورة جديدة عن النضال المشترك. وتحديات التكفير كانت دائماً قادرة على تظهير الوجه الآخر لهذه الظاهرة الشيطانية، من خلال الآفاق المضيئة للإيمان النقي والعلمانية الإنسانية بحيث يمكن أن يُشكل تحالفهما ضربة قوية للتعصب المذهبي والتيبّس الفكري ولشريعة الذبح باسم الله. هكذا يبدو أنّ المسألة في حراجتها تقف عند حاجز العجز عن الانعتاق من الروابط والعقد التاريخية والنفسية والفكرية، وطبعاً كل بحسبها تضاؤلاً واتساعاً. وتظهر العلاقة مشروطة بمعيارية لحظوية محدودة ومتعثرة لا تتمثل بأفعال وحقائق سياسية وثقافية وتائهة لا تعرف طريق الانخراط في أفق المستقبل واحتمالاته وتساؤلاته وتحولاته بالاستفادة من طاقات وإمكانات للأسف، لا تُفعّل. هناك حاجة، إذاً، لتحريض الطرفين لاستنهاض حيويتهما في صيغة حلم مشترك يتلمس تغيير الواقع الوطني وإلباسه ثوباً جديداً. فنتاج حزب الله والحزب الشيوعي العمود الفقري لليسار، يشترك بعدد من السمات المحورية التي يمكنها أن تحدد شكل الواقع اللبناني بمستوياته السياسية والاجتماعية على أقل تقدير. يمكنها تشكيل منظومة قيم بديلة عن النهب والتزوير والابتزاز والتهميش. يمكنها تنقية الهواء من غبار الطائفية الأصفر ودخان المذهبية الأسود. يمكنها أن تخرج بالجماهير إلى ميادين الحرية كي يستعيدوا وجودهم وحضورهم. يمكنها أن تجعل الوطن مكاناً فسيحاً للبوح النضالي الأصيل تتلاقى فيه قوى وتيارات قديمة وحديثة المنشأ تنشد الحرية بيمينها، وترفع السلاح بيسارها اقتراباً من حلم طال انتظاره وهو تحرير فلسطين من سرّاقها ومغتصبيها. يمكنها تشكيل قوة اجتماعية وأخرى عسكرية، وثالثة ثقافية تبدأ من الرغيف والبندقية والقلم لحماية لبنان من التقسيم أو الذوبان في لعبة الصياغات الإقليمية – الدولية. الشيوعيون يتساءلون: لا يكفي أن يحتفظ الحزب بالمعجبين. ينبغي أن يجرّ القارب مسافة كافية لنصعد عليه معاً. وبدل أن يقلّب وجه الكلام بشِعر جميل، علينا أن نقلّب معاً وجه الواقع وننظفه من أوساخ الطائفية ونفايات الفساد، وبدل أن يمضي وحيداً إلى المعركة يمكننا أن نتشارك الدم والعرق والأناشيد والأغاني الثورية في الطريق إلى الحرية وإلى فلسطين. الشيوعيون يرون أنّ تجربة حزب الله تظل مغلقة مهما حاول أن يفتح كوى ونوافذ على حركات إسلامية جهادية خارج بيئته العقائدية، أثبتت التحديات مع التحولات في العالم العربي والأزمة في سوريا أنها حركات انتهازية أو شكلية لا وزن لها لا تتشارك مع الحزب سوى لتحصيل الأرباح والمكاسب، بينما كان الأولى لمجابهة المد التكفيري المذهبي التحالف مع قوى علمانية ووطنية وقومية مبدئية في معاداتها للمشاريع الأميركية والصهيونية ولكل جماعة طائفية تريد أن تفرض نموذجها في العيش والدين بحدّ السيف. وكان الأجدى التحالف مع قوى لا تتجنب وعور الشعاب، بل تنصهر في براكين الرفض والمقاومة بغير انتظار لأي جوائز وعوائد مادية. قوى لا تستسلم للتحولات إذا عاكستها باسم الواقعية. قوى تعتبر أنّ التنوع والتغاير قوة ثقاقية وسياسية تحرك وتجدّد وتكشف وتحرّر وتتخطى التماثل العازل الذي يسبب الجمود ونشوء الذهنيات الفاشية. لسان حال أهل اليسار اليوم، أنّ حزب الله (الديني) نجح في التحالف مع دولة علمانية (سوريا) لأسباب ودوافع قومية استراتيجية، وهذا جيد. ولكنّه فشل في بناء تحالف وطني مع حزب علماني (الشيوعي) لأسباب ودوافع سياسية وطائفية، وهذا سيئ! ولذا تبدو المفارقة قاسية وغريبة في أوضاع تتشابك فيها مصائر أمم وشعوب ودول وجماعات. ومن العسير أن يكون حظ الحزب من الإلهام في بعض المواقع أقل من حظه من التنظيم، وما يقتبسه على مستوى التجارب العسكرية أسرع مما يبتكره على مستوى الفكر. لذلك نحن خارج القارب. هكذا يقول الشيوعيون! أما «الحزب اللهيون» فيجدون في الحزب الشيوعي تفككاً لا على مستوى العقيدة فحسب، بل على مستوى البنية التنظيمية والشخصية المعنوية. ولسان حالهم يقول: مجرد الرغبة لا تكفي وحدها لإعفاء الذات من المسؤولية التي لها متطلبات يجب السير في اتجاهها. وتبرئة الذات وتجريم الآخر لا يدخلان في سياسة فتح الطرق التي يجيدها «الإخوة الرفاق» الذين حوّلوا الحزب الشيوعي إلى مجرد ظاهرة تاريخية. الكتلة التغييرية هي التي تواصل السير في الزمن ولا تتوقف عند الربع الأخير من القرن الماضي. الخروج من تحت رماد الانكسار لا يحتاج إلى فعالية النظر لدى بعض القيادات المتنورة فقط، بل إلى فعالية النظر والعمل لدى كل المستويات الحزبية. وليس من الطبيعي أن تستنقع قيادة الحزب نفسها في بؤر «ما كان»، بل عليها أن تخرج إلى فضاءات «ما يجب أن يكون». إذ ما جدوى الإصرار على لعبة الصبر والانتظار ما تجيء به الظروف! أمام الملأ يظهر أهل الحزب موجودين وغير موجودين. وأغلب المؤشرات تدّل على أنهم منفصمون عن الواقع ولا ينخرطون في التاريخ. يستمرون بالتمسك بأدبيات تتناقص فعاليتها وجاذبيتها أمام غول الفوضى التي تشكل تاريخاً قاهراً للجميع. مؤمنون كـ»حزب اللهيين» بأنّ هناك ضرورة لنقف على المسرح معاً، وأن نتشارك طريقاً مضيئاً من منطلق إنساني ثوري وطني لا أثر فيه للحساسيات من هنا وهناك، ولكن علينا أن نكتشفه معاً لا بالرجاء وحده، بل بالمبادرات الجديّة. ندرك أنّ عصرنا يغور بالفعل الجماعي والتفكير الجماعي، لكن نحتاج منكم الى تدارك الموقف ولهب الصراع والزمن الذي تحول إلى عواصف. وصار لزاماً أن تروا الواقع بعيون جديدة بحيث يكون اللقاء أكثر من فرصة، بل مسؤولية مشتركة لاستيعاب حجم التفاعلات الجارية على تخوم عالم يتشكل على نحو السرعة. في النتيجة، السؤال يبقى هو السؤال، أين تكمن صعوبة العلاقة بين حزب الله والأحزاب الوطنية العلمانية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي؟ السؤال الذي بات ملحّاً الإجابة عنه بفعل سيولة التحديات وضخامتها. السؤال الذي ترتهن به قضايا سلمٍ وحرب، سؤال يظهر كإشكالية بارزة على طريق تفكير يقوم على أساس الاعتراف بالمخاطر المتبادلة والمصالح المشتركة. الحبّ لم يسقط بعد، والمقاومة مشروع نضال لن ينكسر أبداً، فلِمَ يبقَ المقاومون، رفاقاً وإخوة، غرباء!

المصدر : الأخبار/ صادق النابلسي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة