دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
يجد تنظيم «القاعدة العالمي» نفسه أمام أخطر اختبار يواجهه في تاريخه. وقد لا نكون أمام المرة الأولى التي تتقاطع فيها مصالح «القاعدة» مع مصالح واشنطن وحلفائها الإقليميين والدوليين في مواجهة عدو مشترك، لكن الأمر هذه المرة مختلف من نواحٍ عديدة شرعية وواقعية، لذلك كان التعبير عن الموقف الحقيقي يستوجب تمويهه بكثير من الكلام المنمّق، والتدرج في كشفه بحسب متطلبات كل مقام.
فالحرب المعلنة اليوم هي بين «التحالف الدولي»، بقيادة واشنطن، من جهة، وبين تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»-»داعش» من جهة ثانية. وإذا كانت واشنطن حسب الأدبيات المنشورة ألدّ أعداء «القاعدة» وأوجبهم بالقتال، فإن «الدولة الإسلامية» أخطر منافسيه على قيادة «الجهاد العالمي» وأكثرهم قوة ونفوذاً. وبالتالي لن يكون سهلاً على قيادة «القاعدة» أن تختار الجهة التي تقف في صفها.
لا يعني ذلك بأي حال من الأحوال أن «القاعدة» يمكن أن يفكر بإعلان تأييده للحرب الأميركية على «داعش»، غير أن مجرد رفضه الوقوف إلى جانب «إخوة» الأمس سيعتبر بشكل مباشر أو غير مباشر نصرةً لواشنطن وخذلاناً لـ«المجاهدين»، كما سماهم زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري نفسه في آخر خطاب له بخصوص أحداث «الفتنة الجهادية» في الشام، وهو ما يزيد من تعقيد الوضع بالنسبة إلى تنظيم «القاعدة» وعجزه عن صياغة موقف يراعي الاعتبارات المتناقضة التي تتحكم بمجرياته وتطوراته.
وربما هذا التعقيد، والعجز عن مواجهته، هو ما دفع الظواهري إلى أن يلوذ بالصمت حتى الآن، وعدم إبداء موقفه إزاء الأحداث الجسام التي من المتوقع أن تترك تداعياتها على مصير المنطقة بكاملها عموماً، ومصير «التنظيمات الجهادية» خصوصاً. ولكن إذا كان الظواهري، بسبب ابتعاده الجغرافي وعزلته في جبال أفغانستان، يملك ترف الصمت، فإن أفرع «القاعدة» الأخرى وجدت نفسها مضطرة إلى الإعلان عن موقفها من التحالف الدولي، قبل أن تؤدي الخلافات داخلها إلى تشرذمها وانقسامها.
وفي هذا السياق صدر الأسبوع الماضي «بيان مشترك» عن فرعي «القاعدة» في كل من الجزيرة العربية وبلاد المغرب الإسلامي، حمل عنوان «نصرة المسلمين على حلف الصليبيين والمرتدين». ورغم أن ظاهر البيان يوحي بوقوف فرعي «القاعدة» ضد التدخل الأميركي، ويهدد بالتصدي له، مستنداً إلى مقولة زعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن «لا تشاور أحداً في قتال الأميركان»، إلا أن التمعن في البيان، وقراءة ما بين أسطره، قد يأخذنا إلى مكان مختلف.
فالبيان يؤيد بشكل غير مباشر، ومن طرف خفي، مقولة المؤامرة بين واشنطن من جهة و«الدولة الإسلامية» من جهة ثانية، وتبدّى ذلك بقوله «ها هي أميركا، رأس الكفر، تقود حملة صليبية لحرب الإسلام والمسلمين، تحت ذريعة ضرب الدولة الإسلامية، والقضاء عليها».
وبالتالي يعتبر البيان أن حرب «داعش» هي مجرد ذريعة يتذرع بها الأميركيون لتحقيق أهدافهم في قتال المسلمين عامةً، بمعنى آخر أن «الدولة الإسلامية» هي من أعطت الأميركيين هذه الذريعة لتحقيق مآربهم. ويعزز من هذا ما ورد في خاتمة البيان من تعزية بقادة «أحرار الشام» الذين قضوا مؤخراً بشكل جماعي في عملية لم تعرف ملابساتها حتى الآن. إذ من المعروف حجم العداوة بين «أحرار الشام» وبين «الدولة الإسلامية»، وبالتالي فإن التعزية فيهم في نفس البيان يعتبر مؤشراً مقصوداً من قبل واضعي البيان.
على أنه لا يمكن فهم البيان بأي شكل من الأشكال على أنه تغيير في الموقف من «الفتنة الجهادية في الشام»، وهو الموقف الذي طالما عبّر عنه الظواهري نفسه، مبدياً انحيازه الواضح إلى «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» في صراعهما مع «داعش».
وما قاله البيان المشترك تلميحاً وبشكل موارب، تولّى القيادي في «أحرار الشام» أبو العباس الشامي (محمد أيمن أبو التوت) قوله صراحةً ومن دون أقنعة، فهو مقتنع أن «المعادلة الصعبة التي يعيشها الجهاد الشامي هي الدفع به للارتماء في أحضان أحد قطبي المؤامرة». وبالنسبة إليه «لا يمكن حل هذه القضية من خلال البحث الفقهي الصرف بأحكام الاستعانة والإعانة ونحوها، بل في معرفة حقيقة المؤامرة ومعرفة أدواتها»، وذلك بعد أن فصّل تفصيلاً مملاً في اتهام «الدولة الإسلامية» بتنفيذ الأجندات الغربية.
وقد يكون أخطر ما قاله الشامي، وأكثره تعبيراً عن حقيقة موقفه، هو تحذيره لأنصاره من الوقوف إلى جانب أحد طرفي النزاع، وتنبيههم من الوقوع في فخ مقولة «عدو عدوي صديقي»، محدداً أنه يعني بذلك «بالضبط الاتجاه باتجاه داعش» ونسيان جرائمه وحقيقة دوره. ولا يفوت الشامي أن يشير باقتضاب إلى أن «أي تدخل خارجي في الداخل السوري هو احتلال»، لكنه لا يسترسل في مناقشته والتحذير منه لأن «الموقف الشرعي تجاهه واضح لا يحتاج إلى البيان».
وقد يكون الموقف الأهم هو الذي عبّر عنه «المسؤول الشرعي العام» السابق لـ«جبهة النصرة» أبو ماريا القحطاني، باعتباره محسوباً على تنظيم «القاعدة»، ويفترض أنه يعبر عن مواقفه وأدبياته. فلا يخفي القحطاني يقينه بنظرية المؤامرة، ويتساءل «من الذي عجّل بدخول الحملة الصليبية؟ من دعاهم إلى الدخول بفعله؟»، مشيراً بذلك إلى «داعش»، مجددا اتهاماته له بقتل «المجاهدين» وتكفير المسلمين.
ويذهب القحطاني بعيداً، ويرى أن قتال واشنطن لـ«داعش» ليس مبرراً لتكفير «من يضرب الخوارج إن ضربتهم أميركا»، معتبراً ذلك مشابهاً لقيام «الدولة الإسلامية» بضرب «المجاهدين» بالتزامن مع ضربهم من قبل الجيش السوري. وهذا من أخطر المواقف التي تبرر التدخل الأميركي من قبل أحد زعماء «فرع القاعدة في الشام»، لأن مقتضى كلام القحطاني هو حثّ أنصاره على عدم قتال القوات الأميركية التي تدخل إلى الأراضي السورية والعراقية بذريعة قتال «داعش»، وهو ما لم يجرؤ على قوله بمثل هذه الصراحة أبو العباس الشامي رغم عدم انتمائه إلى «القاعدة».
المصدر :
السفير / عبد الله سليمان علي
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة