لم يتوقف العالم الغربي في التعبير عن سعادته بانهيار الاتحاد السوفياتي وإعلان غورباتشوف الشهير من قلب الساحة الحمراء وفاة هذه الدولة العملاقة التي شغلت سدس مساحة المعمورة، وكانت القوة الأساسية الموازنة في العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن الغرب ظل يضع نصب عينيه (روسيا) كبلد عملاق لابد أن ينهض يوماً ما ليشكل منافساً حقيقياً من ناحية، وقوة عالمية تكبح نهم الغرب نحو السيطرة، والهيمنة، وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية.

وبالرغم من الوعود المعسولة التي قدمها هذا الغرب لـ غورباتشوف بعدم توسع حلف الناتو شرقاً إذا ما سحب جنود الجيش السوفياتي من ألمانيا الشرقية فإن هذه الوعود سرعان ما تلاشت في الهواء مع شعور هذا الغرب بنشوة الانتصار في حربه الباردة، ونجاحه في تفكيك يوغسلافيا، ثم الانتقال لضم بلدان معسكر حلف (وارسو) سابقاً، دولة- دولة وتحولها إلى قواعد متقدمة للناتو بدأت تحيط بروسيا لتطوقها، وتقتل أي مجال لتمددها الحيوي، وتهدد مصالح أمنها القومي.

لم تكن هذه السياسة المتدحرجة لحلف الناتو خافية على الرئيس بوتين الذي تسلم السلطة إثر انتخابات رئاسية عام 2000، ولكنه أراد تطبيق مقولته الشهيرة: (كل من لا يحب الاتحاد السوفياتي هو بلا قلب، ولكن كل من يريد تكرار تجربته فهو بلا عقل...) ولهذا فإن بوتين عمل بداية على لملمة آثار انهيار الاتحاد السوفياتي، وبدء علامات الضعف الداخلي في روسيا الاتحادية نفسها، والتي كانت هدفاً استراتيجياً لواشنطن، وحلفائها عبر استخدام نفس التكتيك الذي استخدم ضد الاتحاد السوفياتي أي استغلال الضعف الاقتصادي، والتناقضات القومية- والمدينية، والحديث الفارغ المتكرر عن الديمقراطية- وحقوق الإنسان، وتشغيل عملاء الرأسمال العالمي، والطغم المالية التي تشكلت في عهد بوريس يلتسين وتحولت إلى قوى تتحكم بقوت الشعب الروسي، واقتصاد روسيا، وقرارها السياسي.

أما الناحية الأخرى التي عمل بوتين على إحيائها فهي إعادة الروح الوطنية الروسية، وتجذير الهوية الروسية، وتقوية القدرات الدفاعية والعسكرية، والاستخباراتية، مع تعزيز لعوامل القوة الناعمة (الإعلام- وسائل التواصل الاجتماعي- جمعيات المجتمع الأهلي- دور الكنيسة الأرثوذكسية) والأهم من كل ذلك النهضة الاقتصادية التي ترافقت مع تشبيك واضح مع الاقتصاد العالمي، والاتحاد الأوروبي سواءٌ عبر مصادر الطاقة، أو التبادل التجاري، أو الاستثمارات التي فُتحت للرأسمال الأوروبي خاصة، والغربي عامة.

ترافق كل ذلك مع عودة واضحة للسياسة الخارجية الروسية عبر أكثر من ملف إقليمي، ودولي، ولكن اندلاع جحيم ما سمي (الربيع العربي) جعل موسكو مضطرة لأخذ مواقف أكثر وضوحاً، واندفاعاً تجاه ما يجري في المنطقة التي تعتبر حساسة لأمنها القومي، وبرز ذلك في أول فيتو مشترك روسي- صيني في مجلس الأمن بعد عدة أشهر من بدء الأحداث في سورية.

التقاط موسكو لإشارات الإنذار الغربية لم ترتبط بالحدث السوري فقط، بل تعود إلى آب 2008 عندما قامت القوات الجورجية بالاعتداء على قوات السلام الروسية في أبخازيا- الأمر الذي اضطر موسكو لإرسال قواتها إلى داخل جورجيا لتأديب الرئيس الجورجي ميخائيل ساكا شفيللي المرتبط بواشنطن قلباً وقالباً، وهو ما اضطر حلف الناتو إلى لملمة أوضاعه، والتراجع قليلاً، وآنذاك قالها الروس بوضوح (إن ما بعد آب/2008، غير ما قبله...).

طموح أميركا، وحلفائها في أوروبا وأدواتهم في المنطقة لإضعاف روسيا لم يتوقف، بالرغم من محاولات موسكو المتكررة لإيجاد قواسم مشتركة مع الغرب قائمة على المصالح المشتركة، وإبعاد لغة الحرب الباردة، ولكن الأزمة الأوكرانية كشفت مرة أخرى عدوانية هذا الغرب وخاصة أمريكا تجاه الرئيس بوتين، وروسيا، وأظهرت كذب وعوده ونفاقه منذ الكذبة الأولى التي أقنعت غورباتشوف، إلى استمرار المديح والنفاق لبوريس يلتسين بأنه زعيم ديمقراطي فذ، وأنه سيجلب المن والسلوى لروسيا وشعبها.

قد تكون دمشق هي المحطة المفصلية التي ستحسم هذا الصراع الكبير الذي يمتد من كييف إلى دمشق، والذي على أساسه سيتحدد توازن العلاقات الدولية، والنظام الإقليمي الجديد، وخريطة المنطقة لعقود قادمة، ولأن دور روسيا أساسي- ومهم لحماية أمنها القومي من جحافل القتلة- والمجرمين الذين ما إن ينتهي دورهم في سورية، حتى يبدأ تصديرهم إلى مناطق القوقاز من أجل إطلاق (خلافة إسلامية) مزعومة جديدة تحت شعارات بديلة، ومظالم مفبركة، وإعلام مواكب، ولأن الرئيس بوتين يقرأ هذه المعادلات بعناية، وفهم كبيرين ويدرك أن المستهدف هو موسكو كما هي دمشق، فإنه سيبقى مكروهاً من الغرب- مادام أنه يدافع عن كرامة بلده، ومصالحه كما هو الأمر بالنسبة للرئيس الأسد.

الغرب باختصار شديد: يعشق، ويحب، ويمجد من يلعب دور العميل، والمتواطئ مع طموحاته، ومشاريعه، وليس من يدافع عن وطنه، ويعتز بجيشه، وتاريخه،ويؤمن بشعبه، وهذا أمر طبيعي، ولهذا فإن بوتين لا ينتظر شهادات حسن سلوك من الغرب، وإنما من شعبه، وشعبه فقط، وهو الأمر الذي يزيد من غضب، وكره الغرب له، ومحاولة تشويه صورته عبر إعلام موجه ومدفوع الثمن مسبقاً لخدمة الأجندة الأساسية.

 

  • فريق ماسة
  • 2014-09-20
  • 11986
  • من الأرشيف

لماذا يكره الغرب الرئيس بوتين!!

لم يتوقف العالم الغربي في التعبير عن سعادته بانهيار الاتحاد السوفياتي وإعلان غورباتشوف الشهير من قلب الساحة الحمراء وفاة هذه الدولة العملاقة التي شغلت سدس مساحة المعمورة، وكانت القوة الأساسية الموازنة في العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن الغرب ظل يضع نصب عينيه (روسيا) كبلد عملاق لابد أن ينهض يوماً ما ليشكل منافساً حقيقياً من ناحية، وقوة عالمية تكبح نهم الغرب نحو السيطرة، والهيمنة، وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية. وبالرغم من الوعود المعسولة التي قدمها هذا الغرب لـ غورباتشوف بعدم توسع حلف الناتو شرقاً إذا ما سحب جنود الجيش السوفياتي من ألمانيا الشرقية فإن هذه الوعود سرعان ما تلاشت في الهواء مع شعور هذا الغرب بنشوة الانتصار في حربه الباردة، ونجاحه في تفكيك يوغسلافيا، ثم الانتقال لضم بلدان معسكر حلف (وارسو) سابقاً، دولة- دولة وتحولها إلى قواعد متقدمة للناتو بدأت تحيط بروسيا لتطوقها، وتقتل أي مجال لتمددها الحيوي، وتهدد مصالح أمنها القومي. لم تكن هذه السياسة المتدحرجة لحلف الناتو خافية على الرئيس بوتين الذي تسلم السلطة إثر انتخابات رئاسية عام 2000، ولكنه أراد تطبيق مقولته الشهيرة: (كل من لا يحب الاتحاد السوفياتي هو بلا قلب، ولكن كل من يريد تكرار تجربته فهو بلا عقل...) ولهذا فإن بوتين عمل بداية على لملمة آثار انهيار الاتحاد السوفياتي، وبدء علامات الضعف الداخلي في روسيا الاتحادية نفسها، والتي كانت هدفاً استراتيجياً لواشنطن، وحلفائها عبر استخدام نفس التكتيك الذي استخدم ضد الاتحاد السوفياتي أي استغلال الضعف الاقتصادي، والتناقضات القومية- والمدينية، والحديث الفارغ المتكرر عن الديمقراطية- وحقوق الإنسان، وتشغيل عملاء الرأسمال العالمي، والطغم المالية التي تشكلت في عهد بوريس يلتسين وتحولت إلى قوى تتحكم بقوت الشعب الروسي، واقتصاد روسيا، وقرارها السياسي. أما الناحية الأخرى التي عمل بوتين على إحيائها فهي إعادة الروح الوطنية الروسية، وتجذير الهوية الروسية، وتقوية القدرات الدفاعية والعسكرية، والاستخباراتية، مع تعزيز لعوامل القوة الناعمة (الإعلام- وسائل التواصل الاجتماعي- جمعيات المجتمع الأهلي- دور الكنيسة الأرثوذكسية) والأهم من كل ذلك النهضة الاقتصادية التي ترافقت مع تشبيك واضح مع الاقتصاد العالمي، والاتحاد الأوروبي سواءٌ عبر مصادر الطاقة، أو التبادل التجاري، أو الاستثمارات التي فُتحت للرأسمال الأوروبي خاصة، والغربي عامة. ترافق كل ذلك مع عودة واضحة للسياسة الخارجية الروسية عبر أكثر من ملف إقليمي، ودولي، ولكن اندلاع جحيم ما سمي (الربيع العربي) جعل موسكو مضطرة لأخذ مواقف أكثر وضوحاً، واندفاعاً تجاه ما يجري في المنطقة التي تعتبر حساسة لأمنها القومي، وبرز ذلك في أول فيتو مشترك روسي- صيني في مجلس الأمن بعد عدة أشهر من بدء الأحداث في سورية. التقاط موسكو لإشارات الإنذار الغربية لم ترتبط بالحدث السوري فقط، بل تعود إلى آب 2008 عندما قامت القوات الجورجية بالاعتداء على قوات السلام الروسية في أبخازيا- الأمر الذي اضطر موسكو لإرسال قواتها إلى داخل جورجيا لتأديب الرئيس الجورجي ميخائيل ساكا شفيللي المرتبط بواشنطن قلباً وقالباً، وهو ما اضطر حلف الناتو إلى لملمة أوضاعه، والتراجع قليلاً، وآنذاك قالها الروس بوضوح (إن ما بعد آب/2008، غير ما قبله...). طموح أميركا، وحلفائها في أوروبا وأدواتهم في المنطقة لإضعاف روسيا لم يتوقف، بالرغم من محاولات موسكو المتكررة لإيجاد قواسم مشتركة مع الغرب قائمة على المصالح المشتركة، وإبعاد لغة الحرب الباردة، ولكن الأزمة الأوكرانية كشفت مرة أخرى عدوانية هذا الغرب وخاصة أمريكا تجاه الرئيس بوتين، وروسيا، وأظهرت كذب وعوده ونفاقه منذ الكذبة الأولى التي أقنعت غورباتشوف، إلى استمرار المديح والنفاق لبوريس يلتسين بأنه زعيم ديمقراطي فذ، وأنه سيجلب المن والسلوى لروسيا وشعبها. قد تكون دمشق هي المحطة المفصلية التي ستحسم هذا الصراع الكبير الذي يمتد من كييف إلى دمشق، والذي على أساسه سيتحدد توازن العلاقات الدولية، والنظام الإقليمي الجديد، وخريطة المنطقة لعقود قادمة، ولأن دور روسيا أساسي- ومهم لحماية أمنها القومي من جحافل القتلة- والمجرمين الذين ما إن ينتهي دورهم في سورية، حتى يبدأ تصديرهم إلى مناطق القوقاز من أجل إطلاق (خلافة إسلامية) مزعومة جديدة تحت شعارات بديلة، ومظالم مفبركة، وإعلام مواكب، ولأن الرئيس بوتين يقرأ هذه المعادلات بعناية، وفهم كبيرين ويدرك أن المستهدف هو موسكو كما هي دمشق، فإنه سيبقى مكروهاً من الغرب- مادام أنه يدافع عن كرامة بلده، ومصالحه كما هو الأمر بالنسبة للرئيس الأسد. الغرب باختصار شديد: يعشق، ويحب، ويمجد من يلعب دور العميل، والمتواطئ مع طموحاته، ومشاريعه، وليس من يدافع عن وطنه، ويعتز بجيشه، وتاريخه،ويؤمن بشعبه، وهذا أمر طبيعي، ولهذا فإن بوتين لا ينتظر شهادات حسن سلوك من الغرب، وإنما من شعبه، وشعبه فقط، وهو الأمر الذي يزيد من غضب، وكره الغرب له، ومحاولة تشويه صورته عبر إعلام موجه ومدفوع الثمن مسبقاً لخدمة الأجندة الأساسية.  

المصدر : الوطن / د. بسام أبو عبد الله


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة