لا يصيبني بالسقم إلا سماع الكلام الذي يسقط فوق تلال الكلام وتتكسر فيه أنصال الحروف على أنصال الحروف من دون أن تصل الى القلب

 كما تكسرت نصال السهام على نصال السهام التي أثخنت قلب المتنبي الذي صار في غشاء من نبال الأيام… فيزيد تكسّر الكلام على الكلام من تعبي ومن وجعي ومن غضبي… لأنّ تلال الكلام الذي لا يضيء ولا يشعّ ولا يتوهج لا تشبه إلا أكواماً من السماد العضوي في الزرائب… فما نفع الكلام اذا لم يتحوّل مع الزمن الى مادة مشعّة تتألق كاليورانيوم في العقل وتشعل مفاعلاته وتشطر نوى الأفكار والخواطر لتطلق انفجارات النظريات والمشاريع الإنسانية الكبرى… الكلام الذي لا يشعّ مثل اليورانيوم ولا يشطر الموروث ليطلق التفاعلات النووية لا يستعمل الا سماداً… تسمّد فيه عقول الثوار…

خلال قرن من الزمن قلنا كلاماً كثيراً عن أحلامنا… وكنا نعتقد أننا نخصّب اليورانيوم المدفون في العقول لكننا اكتشفنا أنّ غيرنا سبقنا وملأها بفضلات الزرائب وأفرغ العقول من الكلام المشعّ… لأنّ ما ظهر بيننا بعد قرن كامل من الكلام عن الحرية وعن الوحدة وعن العدو وعن الحلم… هو الخليفة… وجنود الخليفة… وروث الخليفة… فهل يقطف الكرّام الكرمة اذا زرع الأفيون؟ وهل تجنى الحكمة والموعظة والفلسفة من بيادر زرعت حقولها بالعواء والهواء والرياء؟

اليوم يفاجأ الناس بالخليفة يظهر من كهفه القديم وهو ينفض غبار الصحراء عن عمامته وعباءته وشاربيه ولحيته وينفث الرمال من منخريه ورئتيه… البعض يقول بأنه وصل على ناقة محمد بن عبد الوهاب التي هبطت علينا من الفضاء مثل المخلوقات الغريبة التي طفت على بقع الزيت الأسود… والبعض يقول بأنه وصل مع طلائع الدبابات الامريكية التي دخلت بغداد والتي مدّت جسراً من الخلفاء من تورا بورا الى الأنبار… فيما يقول آخرون بأنّ الخليفة تسلّل متخفياً في عباءة سلاطين بني عثمان الجدد وفي طرابيشهم… ولكن أين المفاجأة في ظهوره؟ وهل كان ظهوره بلا مقدمات؟

ان من يبحث عن الخليفة في الأنبار والموصل والرقة لن يجده… فالخليفة يلعب معنا لعبة الغميضة حيث يختبئ في مكان يمرّ به كلّ الناس وفي كلّ الشوارع ولكن لا يراه أحد وربما لا يريد أحد ان يعترف أنه يراه… الخليفة يدخل الى بيوتنا وغرف نومنا ومطابخنا… ويشاركنا في أراكيلنا وفي أكواب الشاي ويلعب معنا الورق كلّ مساء… وفي الصباح نتقاتل مع جنوده وظلاله…

الى من فوجئ بالخليفة يصلّي في الموصل فإنني أعتذر إنْ قلت له بأن الخليفة صار في بيوتنا منذ أن وصل الينا كارل ماركس على ظهر ناقة عربية… فالناقة العربية حملت شيوعيّينا وبركت أمام الخليفة… ولولا ذلك لما تحوّل الشيوعيون العرب الى أتباع للخليفة العثماني في الثورات العربية في ومضة عين، ولما حلّت المراجع الفقهية للطوائف محلّ ديالكتيك هيغل… الشيوعيون العرب بايعوا الخليفة العثماني بالأمس… وفي يوم آخر أدّوا البيعة للخليفة البغدادي…

والخليفة صار في بيوتنا منذ أن رضي البعث والقوميون العرب أن يسكنوا في خيمة سايكس ـ بيكو قرناً كاملاً من دون أن يهدموا عمودها ويجتثوا أوتادها… ومن يسكن في خيمة سايكس ـ بيكو قرناً كاملاً لن يخرج منها إلا الى خيمة الخليفة بعد أن «تسيكس» الوعي و»تبيكن» الحلم…

والى من يحارب جنود الخليفة في الموصل وفي عرسال والرقة ويريد أن يسقطه عن سنام جمله في ديار محمد بن عبد الوهاب، فأخشى ان أقول له بأنّ للخليفة رأساً مثل رأس الهيدرا كلما قطعته خرج منه رأسان… ومن أراد هزيمة الهيدرا فعليه أن يقطع جذورها وشروشها… ومن يريد أن يحاصر الخليفة في الموصل فأعتذر إنْ قلت له بأنّ حصار الخليفة لن يكون إلا في الدساتير التي كتبها لنا أحفاد ريتشارد قلب الأسد حيث أخفاه الأعداء… فصار الخليفة يحاصرنا من دستورنا… ولم يعد يأكل التمر ويشرب اللبن من ضروع الابل… بل يشرب لبنه من ضروع الدساتير…

كيف سيخرج الخليفة من أرضنا ونحن نفرش له الدساتير والأعراف السياسية في الشرق وفي الغرب؟ ولماذا نلوم فضائيات أبي جهل وجرائده ونلوم وعّاظ السلاطين وفقهاء الدم؟… فما الذي فعله الخليفة سوى أنه جاء الى أرض دستورها داعشي…؟

ففي لبنان عرف سياسي داعشي وضعه الفرنسيون وينص هذا العرف صراحة على أنّ كلّ طائفة تجلس على قطعة من الدستور ولا تتزحزح… طائفة في كرسي الرئاسة… وطائفة في كرسي البرلمان… وطائفة في كرسي رئاسة الوزارة… ولا تسمح طائفة لأيّ مواطن من طائفة أخرى أن تطأ أرضها وقطعتها من الدستور… كما تريد «داعش» الآن في فتاواها… وصار الحديث عن الطوائف جزءاً من الحديث عن الدستور المقدس… وكلما تغيّرت موازين الطوائف وأثقالها الدستورية حدث تفاعل كيماوي رهيب بين مكونات الدستور والعرف سمّيناه الحرب الأهلية… تنتهي بطائف للطوائف ودستور داعشي… والحرب الأهلية في الشرق كانت دوماً لإعادة أو كسر توازن طائفي، وليس من باب الصراعات الحزبية كما في الحرب الأهلية الاسبانية…

وفي العراق جاء الأمريكيون واجتثوا «البعث» وزرعوا مكانه بالقوة عن سابق تصور وتصميم خبيث عرفاً سياسياً يقضي بتقطيع جسد الدستور العراقي على الطوائف مثل قسائم الحصص التموينية… وهناك في بغداد زرع الخليفة عصاه بين خطوط العرف الجديد الذي يعطي ما للشيعة للشيعة وما للسنة للسنة… فتطاولت ثقافة الطوائف وترسّخت حدودها… وأخطر ما فيها أنها صارت جزءاً من اللغة اليومية… فقد كنت منذ أيام أستمع لنائبة في البرلمان العراقي كانت تتحدث بوطنية فائقة عن العراق، ولكن كلّ كلامها كان عن المكون السني العراقي كمكون أصيل وطني عراقي… وبين كلّ عبارتين كانت هناك فاصلة عن المكون السني الأصيل والذي يحسّ بالمظلومية… وقبلها تحدث نائب عراقي أكثر وطنية عن الوطن العراقي الشامل وعن المكون الشيعي الأصيل الذي عانى من المظلومية… وبين المكونين الشيعي والسني وضع الخليفة عرشه… لأنّ «داعش» انبثقت من بين مفاصل الدستور العراقي ومكوناته وأعرافه السياسية الوليدة في توزيع الوطن على الطوائف… وهذا الكلام عن مكونات مذهبية لوطن هو بالضبط ما أسمّيه بالكلام الذي لا يشعّ ولا يمكن أن يكون يورانيوم الأمة والجيل القادم، بل فضلات هذه الزريبة العربية التي يتكوّم كلامها عن الطوائف في الدساتير السياسية والحزبية كما يتكوّم الروث في الزرائب…

«داعش» هي حالة انعكاس لاستسلام القوى العلمانية والوطنية واستهتارها بالمبدأ الوطني والعقد الاجتماعي الذي يربط قوى المجتمع بروابط مدنية وإنسانية ووطنية لتحلّ محلها الروابط الدينية والمذهبية… فتفكّكت الروابط الاجتماعية القديمة التي عاشت منذ حمورابي وقويت على حسابها الروابط الدينية والمذهبية… ولكن الحقيقة هي أنّ تثبيت «الداعشية السياسية» سيكون حقيقة ناجزة مقدسة كما صارت الطائفية السياسية في لبنان شيئاً واقعاً ومقدساً ما لم تتمّ مواجهتها بشجاعة… لأنّ ما يُسمّى في لبنان طائفية سياسية هو «داعشية سياسية» من دون نقصان… لأنّ «داعش» استيقطت في لبنان أثناء الحرب الأهلية في كلّ الطوائف… فقطعت الطوائف ما طاب لها من رؤوس خصومها وخطفت الناس وفقد الآلاف ولم يعودوا حتى اليوم… ولكن لم يكن هناك يوتيوب ومواقع تواصل اجتماعي أثناء الحرب الأهلية اللبنانية لتبث دواعش ذلك الزمان إنجازات وشعارات الموت والذبح… بل انّ سمير جعجع نفسه كان أحد أمراء الحرب المشهورين يقف على الحواجز اللبنانية ويقتل طوائف الخصوم كما يفعل أمراء «داعش» في العراق وسورية من دون أدنى فرق… وعندما وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا وصفها شارون بأنها «مجزرة قام بها مسيحيون عرب ضدّ مسلمين عرب»… في محاولة منه للهروب من مسؤوليته في رعاية دواعش لبنان في القوات اللبنانية آنذاك، والذين كان يشرف عليهم ويغطي تمرّدهم كما يشرف نتنياهو الآن والمخابرات الغربية على دواعش هذا الزمن من الاسلاميين ليقول نتنياهو لنا: «انّ اليوم هو مرآة الأمس لكنه معكوس… لأنّ داعش هم مسلمون عرب يقتلون مسيحيين عرباً… وداعش أيضاً هم عرب سنة يقتلون عرباً شيعة… ونحن لا دخل لنا في هذا القتل»…

مع ظاهرة «داعش» نحن أمام تجربة تحاكي تماماً تجربتنا مع سايكس بيكو، التي كنا نلقي عليها أطنان الكلام والشتائم، ولكن في النهاية بقيت خطوط التقسيم وبقيت سايكس ـ بيكو وبقيت تلال الكلام الذي جمعناه وأنتجناه في قرن كامل والذي لم يتحوّل الى يورانيوم في عقول الناس ليشعّ لهباً ويذيب فولاذ الخطوط…

لا أزال أتوقف أمام خارطة سايكس ـ بيكو التي قهرت عدة أجيال وعدة أحزاب وعدة شعوب ولم يقدر أحد أن يزحزح خطاً واحداً فيها ولا أن يعدّل الخطوط الحمراء والزرقاء والسمراء وصار الكلام بلا معنى ونصال الكلام عن تلك الخطوط تكسّرت على نصال الكلام…

قرن كامل على خطوط سايكس ـ بيكو وهي جاثمة لا تتحرك كأننا ندفع بأيدينا العارية جسد أبي الهول ولا نزال لا نعرف سبب رسوخ الخطوط وسطوتها، وسرّ تلك التعويذة المقدسة التي كتبها سايكس وبيكو على ورقة… كأنها تعويذة مقدسة لا تقدر حتى الزلازل على تجاوز خطوطها…

 

لكن اليوم بدأنا نعرف سرّ التعويذة وسبب اندحار غزواتنا على سايكس وبيكو وسبب عدم تخصيب يورانيوم الكلام في العقول… وقد جاءت «داعش» بالسر وربما بالدواء… فـ»سايكس وبيكو» لم يجلسا على الحدود يراقبان العابرين وينصبان نقاط التفتيش ومقرات الهجرة والجوازات… بل جلس هذان الخبيثان في الدستور في أول مادة ترسم الحدود النهائية لكلّ بلد في سورية ولبنان والعراق والأردن، وانضمّت فلسطين باختراع القرار الفلسطيني المستقلّ كنظير للمادة الأولى من دساتير بلاد الشام والعراق التي وقفت خلف قضبان سجن سايكس ـ بيكو… وصار احترام الحدود مدخلاً لاحترام الدستور المقدس واحترام الدستور مدخلاً الى الهوية الجديدة والانفصال النفسي… فلبنان دولة مستقلة… وسورية دولة مستقلة والأردن والعراق وفلسطين… وأول بنود الدستور في هذه البلدان هو تقديس استقلال هذه الكيانات المستقلة…

خرجت جيوش سايكس وبيكو من الجغرافيا، ولكن الرجلين دخلا قلعة الدساتير الوطنية وأقفلا الباب الحديدي خلفهما… وعبثاً يبحث الناس عن مفاتيح الحدود وعن ديناميت ينسف الجدران أو سلالم تتسلّقها… وكانت أنصال الكلام تتكسّر على أنصال الكلام عن الوحدة وعن الحدود المصطنعة وعن وحدة المصير وكسر إرادة الاستعمار… ولكن لم يجرؤ أحد على دخول الدستور الوطني وكتابة المادة الأولى فيه أنّ بلاد الشام والعراق دولة واحدة… بل كان أعز طلب لدى ثوار «الحئيأة» اللبنانيين هو إيجاد سفارة لسورية في لبنان… كنوع إضافي من تكريس تعويذة سايكس ـ بيكو…

وفي لبنان عاشت «داعش» عقوداً ستة في الطائفية السياسية والتي هي سايكس ـ بيكو دينية… وكأنها كانت تنتظر الخليفة وزمن الخليفة… فكيف لا يظهر خليفة في بلد دستوره مفصل على مقاس الخليفة… رعاياه مواطنون لا ينتمون الى وطن بل سنة وشيعة ودروز وموارنة… كلّ يبحث عن خليفة؟ في الحرب الاهلية اللبنانية كان الخلاف الظاهر على شعارات وطنية ولكن الجيوش والميليشيات التي تقاتلت كانت من أجل أن توسّع كلّ قبيلة قطعتها من الدستور الذي تجلس عليه… والدليل هو أنّ كلّ طائفة كان لها حزبها الذي يرتدي اسماً براقاً من الحرية والتقدمية والاشتراكية والأمل… وأستثني من هذه المعمعة حزبين أو ثلاثة…

داعشية الحياة السياسة في لبنان والعراق التي تحاصرنا في سورية والإصرار على بقاء الطائفية السياسية في هذين البلدين سيعني أنّ عقيدة «داعش» السياسية ستحكم المنطقة، وان اختفت كظاهرة عسكرية كما يتوقع لها لتنفجر بين فينة وأخرى… لأنّ عقيدتها ستبقى في دستور بول بريمر ودستور استقلال لبنان…

في سورية سيُهزم المشروع الاسلامي لعقيدة «داعش» كما هُزم الإسلام السياسي… وبقيت ثمالة ستبقى بسببها رائحة «داعش» في حياة السوريين وتكمن في المادة الثالثة للدستور التي تقضي بأن يكون دين رئيس البلاد هو الإسلام… وأذكر اننا قبلنا بتلك المادة على مضض لضرورات المرحلة على أن يتمّ إخضاعها للنقاش والتعديل في مرحلة لاحقة بعد نهاية الأزمة… فهي الآن آخر بقايا «داعش» في سورية…

 

ويجب الاستفادة من حقيقة أنّ سورية هي التي دحرت مشروع الإسلام السياسي، وبصمودها بدأت مصر بالانقضاض عليه… ولا شك انّ تركيا لا يمكن ان يستمرّ فيها الإسلام السياسي اذا تمّ عزله عن الجنوب وهو يناطح أسوار سورية والعراق ومصر… لذلك على سورية أن تبدأ باقتلاع ما بقي من الداعشية السياسية في المنطقة… وإلغاء هذه المادة من دستورها في قادمات الأيام… فإلغاء هذه المادة هو الذي سيشكل رداً على ثقافة «داعش»، وتأسيساً لمرحلة حقيقية من مواجهة سايكس ـ بيكو الديني والجغرافي ويشكل دعوة حقيقية لوقف نزيف المسيحيين المشرقيين الى المهاجر… لأنّ «داعش» تريد استئصالهم واستئصال الأقليات جميعها بالساطور… ولكنها تستأصلهم مع غيرهم بالدستور أيضاً… وإذا انتهت الداعشية السياسية بخطوة شجاعة في سورية التي ستهزم الداعشية العسكرية كما صار حتمياً وتثبت الدين لله والوطن للجميع فإنّ ذلك قد يساعد في إطلاق موجة نحو العراق ولبنان والمنطقة لأنّ لهذه القضايا تأثير الدومينو… تسقط فيها الطائفية السياسية… وتسقط معها الداعشية السياسية تدريجياً… والا أعدنا درس سايكس ـ بيكو المؤلم…

في زمن ماض كنت أحلم يوماً بحزب «البعث» الحجازي… وبفرع للحزب الناصري في نجد… وأحلم بحزب اشتراكي في الامارات أو قطر… واذ بي أفيق من أحلامي لأجد أنّ الناصرية هُزمت في مصر… و»البعث» انتهى في العراق… وأنّ سورية تمكّنت من الإفلات من مصير رهيب بثمن كبير، وأننا دخلنا في بعث داعش… ووهابية الشيوعيين… وأن الصراع الدائر بين الرمل والنهر لا يسير في مصلحة النهر… فلقد غلب الرمل مياه النهر… ولا ندري كيف وصل الرمل الى مياه النيل بدل أن يصل النيل الى الربع الخالي ويرويه… ولا ندري كيف ارتفعت كثبان الرمل وابتلعت دجلة والفرات… وكبف تجرأ الرمل على بردى…

لكن الحقيقة هي أننا وجدنا أن في بيتنا خليفة… وفي دستورنا سقيفة…

أنا لم أقتل خليفة يوماً… ولكني سأدعو الى قتل دستور الخليفة…

وانا لم أهدم سقيفة… ولكني أدعوكم لتشاركوني في هدم السقيفة التي يجلس في ظلها الخليفة…

فهل تشاركونني في هدم السقيفة على رأس الخليفة؟

 

 

 

 

 

 

 

  • فريق ماسة
  • 2014-09-08
  • 13279
  • من الأرشيف

في بيتنا خليفة... وفي دستورنا سقيفة ...بقلم نارام سرجون

لا يصيبني بالسقم إلا سماع الكلام الذي يسقط فوق تلال الكلام وتتكسر فيه أنصال الحروف على أنصال الحروف من دون أن تصل الى القلب  كما تكسرت نصال السهام على نصال السهام التي أثخنت قلب المتنبي الذي صار في غشاء من نبال الأيام… فيزيد تكسّر الكلام على الكلام من تعبي ومن وجعي ومن غضبي… لأنّ تلال الكلام الذي لا يضيء ولا يشعّ ولا يتوهج لا تشبه إلا أكواماً من السماد العضوي في الزرائب… فما نفع الكلام اذا لم يتحوّل مع الزمن الى مادة مشعّة تتألق كاليورانيوم في العقل وتشعل مفاعلاته وتشطر نوى الأفكار والخواطر لتطلق انفجارات النظريات والمشاريع الإنسانية الكبرى… الكلام الذي لا يشعّ مثل اليورانيوم ولا يشطر الموروث ليطلق التفاعلات النووية لا يستعمل الا سماداً… تسمّد فيه عقول الثوار… خلال قرن من الزمن قلنا كلاماً كثيراً عن أحلامنا… وكنا نعتقد أننا نخصّب اليورانيوم المدفون في العقول لكننا اكتشفنا أنّ غيرنا سبقنا وملأها بفضلات الزرائب وأفرغ العقول من الكلام المشعّ… لأنّ ما ظهر بيننا بعد قرن كامل من الكلام عن الحرية وعن الوحدة وعن العدو وعن الحلم… هو الخليفة… وجنود الخليفة… وروث الخليفة… فهل يقطف الكرّام الكرمة اذا زرع الأفيون؟ وهل تجنى الحكمة والموعظة والفلسفة من بيادر زرعت حقولها بالعواء والهواء والرياء؟ اليوم يفاجأ الناس بالخليفة يظهر من كهفه القديم وهو ينفض غبار الصحراء عن عمامته وعباءته وشاربيه ولحيته وينفث الرمال من منخريه ورئتيه… البعض يقول بأنه وصل على ناقة محمد بن عبد الوهاب التي هبطت علينا من الفضاء مثل المخلوقات الغريبة التي طفت على بقع الزيت الأسود… والبعض يقول بأنه وصل مع طلائع الدبابات الامريكية التي دخلت بغداد والتي مدّت جسراً من الخلفاء من تورا بورا الى الأنبار… فيما يقول آخرون بأنّ الخليفة تسلّل متخفياً في عباءة سلاطين بني عثمان الجدد وفي طرابيشهم… ولكن أين المفاجأة في ظهوره؟ وهل كان ظهوره بلا مقدمات؟ ان من يبحث عن الخليفة في الأنبار والموصل والرقة لن يجده… فالخليفة يلعب معنا لعبة الغميضة حيث يختبئ في مكان يمرّ به كلّ الناس وفي كلّ الشوارع ولكن لا يراه أحد وربما لا يريد أحد ان يعترف أنه يراه… الخليفة يدخل الى بيوتنا وغرف نومنا ومطابخنا… ويشاركنا في أراكيلنا وفي أكواب الشاي ويلعب معنا الورق كلّ مساء… وفي الصباح نتقاتل مع جنوده وظلاله… الى من فوجئ بالخليفة يصلّي في الموصل فإنني أعتذر إنْ قلت له بأن الخليفة صار في بيوتنا منذ أن وصل الينا كارل ماركس على ظهر ناقة عربية… فالناقة العربية حملت شيوعيّينا وبركت أمام الخليفة… ولولا ذلك لما تحوّل الشيوعيون العرب الى أتباع للخليفة العثماني في الثورات العربية في ومضة عين، ولما حلّت المراجع الفقهية للطوائف محلّ ديالكتيك هيغل… الشيوعيون العرب بايعوا الخليفة العثماني بالأمس… وفي يوم آخر أدّوا البيعة للخليفة البغدادي… والخليفة صار في بيوتنا منذ أن رضي البعث والقوميون العرب أن يسكنوا في خيمة سايكس ـ بيكو قرناً كاملاً من دون أن يهدموا عمودها ويجتثوا أوتادها… ومن يسكن في خيمة سايكس ـ بيكو قرناً كاملاً لن يخرج منها إلا الى خيمة الخليفة بعد أن «تسيكس» الوعي و»تبيكن» الحلم… والى من يحارب جنود الخليفة في الموصل وفي عرسال والرقة ويريد أن يسقطه عن سنام جمله في ديار محمد بن عبد الوهاب، فأخشى ان أقول له بأنّ للخليفة رأساً مثل رأس الهيدرا كلما قطعته خرج منه رأسان… ومن أراد هزيمة الهيدرا فعليه أن يقطع جذورها وشروشها… ومن يريد أن يحاصر الخليفة في الموصل فأعتذر إنْ قلت له بأنّ حصار الخليفة لن يكون إلا في الدساتير التي كتبها لنا أحفاد ريتشارد قلب الأسد حيث أخفاه الأعداء… فصار الخليفة يحاصرنا من دستورنا… ولم يعد يأكل التمر ويشرب اللبن من ضروع الابل… بل يشرب لبنه من ضروع الدساتير… كيف سيخرج الخليفة من أرضنا ونحن نفرش له الدساتير والأعراف السياسية في الشرق وفي الغرب؟ ولماذا نلوم فضائيات أبي جهل وجرائده ونلوم وعّاظ السلاطين وفقهاء الدم؟… فما الذي فعله الخليفة سوى أنه جاء الى أرض دستورها داعشي…؟ ففي لبنان عرف سياسي داعشي وضعه الفرنسيون وينص هذا العرف صراحة على أنّ كلّ طائفة تجلس على قطعة من الدستور ولا تتزحزح… طائفة في كرسي الرئاسة… وطائفة في كرسي البرلمان… وطائفة في كرسي رئاسة الوزارة… ولا تسمح طائفة لأيّ مواطن من طائفة أخرى أن تطأ أرضها وقطعتها من الدستور… كما تريد «داعش» الآن في فتاواها… وصار الحديث عن الطوائف جزءاً من الحديث عن الدستور المقدس… وكلما تغيّرت موازين الطوائف وأثقالها الدستورية حدث تفاعل كيماوي رهيب بين مكونات الدستور والعرف سمّيناه الحرب الأهلية… تنتهي بطائف للطوائف ودستور داعشي… والحرب الأهلية في الشرق كانت دوماً لإعادة أو كسر توازن طائفي، وليس من باب الصراعات الحزبية كما في الحرب الأهلية الاسبانية… وفي العراق جاء الأمريكيون واجتثوا «البعث» وزرعوا مكانه بالقوة عن سابق تصور وتصميم خبيث عرفاً سياسياً يقضي بتقطيع جسد الدستور العراقي على الطوائف مثل قسائم الحصص التموينية… وهناك في بغداد زرع الخليفة عصاه بين خطوط العرف الجديد الذي يعطي ما للشيعة للشيعة وما للسنة للسنة… فتطاولت ثقافة الطوائف وترسّخت حدودها… وأخطر ما فيها أنها صارت جزءاً من اللغة اليومية… فقد كنت منذ أيام أستمع لنائبة في البرلمان العراقي كانت تتحدث بوطنية فائقة عن العراق، ولكن كلّ كلامها كان عن المكون السني العراقي كمكون أصيل وطني عراقي… وبين كلّ عبارتين كانت هناك فاصلة عن المكون السني الأصيل والذي يحسّ بالمظلومية… وقبلها تحدث نائب عراقي أكثر وطنية عن الوطن العراقي الشامل وعن المكون الشيعي الأصيل الذي عانى من المظلومية… وبين المكونين الشيعي والسني وضع الخليفة عرشه… لأنّ «داعش» انبثقت من بين مفاصل الدستور العراقي ومكوناته وأعرافه السياسية الوليدة في توزيع الوطن على الطوائف… وهذا الكلام عن مكونات مذهبية لوطن هو بالضبط ما أسمّيه بالكلام الذي لا يشعّ ولا يمكن أن يكون يورانيوم الأمة والجيل القادم، بل فضلات هذه الزريبة العربية التي يتكوّم كلامها عن الطوائف في الدساتير السياسية والحزبية كما يتكوّم الروث في الزرائب… «داعش» هي حالة انعكاس لاستسلام القوى العلمانية والوطنية واستهتارها بالمبدأ الوطني والعقد الاجتماعي الذي يربط قوى المجتمع بروابط مدنية وإنسانية ووطنية لتحلّ محلها الروابط الدينية والمذهبية… فتفكّكت الروابط الاجتماعية القديمة التي عاشت منذ حمورابي وقويت على حسابها الروابط الدينية والمذهبية… ولكن الحقيقة هي أنّ تثبيت «الداعشية السياسية» سيكون حقيقة ناجزة مقدسة كما صارت الطائفية السياسية في لبنان شيئاً واقعاً ومقدساً ما لم تتمّ مواجهتها بشجاعة… لأنّ ما يُسمّى في لبنان طائفية سياسية هو «داعشية سياسية» من دون نقصان… لأنّ «داعش» استيقطت في لبنان أثناء الحرب الأهلية في كلّ الطوائف… فقطعت الطوائف ما طاب لها من رؤوس خصومها وخطفت الناس وفقد الآلاف ولم يعودوا حتى اليوم… ولكن لم يكن هناك يوتيوب ومواقع تواصل اجتماعي أثناء الحرب الأهلية اللبنانية لتبث دواعش ذلك الزمان إنجازات وشعارات الموت والذبح… بل انّ سمير جعجع نفسه كان أحد أمراء الحرب المشهورين يقف على الحواجز اللبنانية ويقتل طوائف الخصوم كما يفعل أمراء «داعش» في العراق وسورية من دون أدنى فرق… وعندما وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا وصفها شارون بأنها «مجزرة قام بها مسيحيون عرب ضدّ مسلمين عرب»… في محاولة منه للهروب من مسؤوليته في رعاية دواعش لبنان في القوات اللبنانية آنذاك، والذين كان يشرف عليهم ويغطي تمرّدهم كما يشرف نتنياهو الآن والمخابرات الغربية على دواعش هذا الزمن من الاسلاميين ليقول نتنياهو لنا: «انّ اليوم هو مرآة الأمس لكنه معكوس… لأنّ داعش هم مسلمون عرب يقتلون مسيحيين عرباً… وداعش أيضاً هم عرب سنة يقتلون عرباً شيعة… ونحن لا دخل لنا في هذا القتل»… مع ظاهرة «داعش» نحن أمام تجربة تحاكي تماماً تجربتنا مع سايكس بيكو، التي كنا نلقي عليها أطنان الكلام والشتائم، ولكن في النهاية بقيت خطوط التقسيم وبقيت سايكس ـ بيكو وبقيت تلال الكلام الذي جمعناه وأنتجناه في قرن كامل والذي لم يتحوّل الى يورانيوم في عقول الناس ليشعّ لهباً ويذيب فولاذ الخطوط… لا أزال أتوقف أمام خارطة سايكس ـ بيكو التي قهرت عدة أجيال وعدة أحزاب وعدة شعوب ولم يقدر أحد أن يزحزح خطاً واحداً فيها ولا أن يعدّل الخطوط الحمراء والزرقاء والسمراء وصار الكلام بلا معنى ونصال الكلام عن تلك الخطوط تكسّرت على نصال الكلام… قرن كامل على خطوط سايكس ـ بيكو وهي جاثمة لا تتحرك كأننا ندفع بأيدينا العارية جسد أبي الهول ولا نزال لا نعرف سبب رسوخ الخطوط وسطوتها، وسرّ تلك التعويذة المقدسة التي كتبها سايكس وبيكو على ورقة… كأنها تعويذة مقدسة لا تقدر حتى الزلازل على تجاوز خطوطها…   لكن اليوم بدأنا نعرف سرّ التعويذة وسبب اندحار غزواتنا على سايكس وبيكو وسبب عدم تخصيب يورانيوم الكلام في العقول… وقد جاءت «داعش» بالسر وربما بالدواء… فـ»سايكس وبيكو» لم يجلسا على الحدود يراقبان العابرين وينصبان نقاط التفتيش ومقرات الهجرة والجوازات… بل جلس هذان الخبيثان في الدستور في أول مادة ترسم الحدود النهائية لكلّ بلد في سورية ولبنان والعراق والأردن، وانضمّت فلسطين باختراع القرار الفلسطيني المستقلّ كنظير للمادة الأولى من دساتير بلاد الشام والعراق التي وقفت خلف قضبان سجن سايكس ـ بيكو… وصار احترام الحدود مدخلاً لاحترام الدستور المقدس واحترام الدستور مدخلاً الى الهوية الجديدة والانفصال النفسي… فلبنان دولة مستقلة… وسورية دولة مستقلة والأردن والعراق وفلسطين… وأول بنود الدستور في هذه البلدان هو تقديس استقلال هذه الكيانات المستقلة… خرجت جيوش سايكس وبيكو من الجغرافيا، ولكن الرجلين دخلا قلعة الدساتير الوطنية وأقفلا الباب الحديدي خلفهما… وعبثاً يبحث الناس عن مفاتيح الحدود وعن ديناميت ينسف الجدران أو سلالم تتسلّقها… وكانت أنصال الكلام تتكسّر على أنصال الكلام عن الوحدة وعن الحدود المصطنعة وعن وحدة المصير وكسر إرادة الاستعمار… ولكن لم يجرؤ أحد على دخول الدستور الوطني وكتابة المادة الأولى فيه أنّ بلاد الشام والعراق دولة واحدة… بل كان أعز طلب لدى ثوار «الحئيأة» اللبنانيين هو إيجاد سفارة لسورية في لبنان… كنوع إضافي من تكريس تعويذة سايكس ـ بيكو… وفي لبنان عاشت «داعش» عقوداً ستة في الطائفية السياسية والتي هي سايكس ـ بيكو دينية… وكأنها كانت تنتظر الخليفة وزمن الخليفة… فكيف لا يظهر خليفة في بلد دستوره مفصل على مقاس الخليفة… رعاياه مواطنون لا ينتمون الى وطن بل سنة وشيعة ودروز وموارنة… كلّ يبحث عن خليفة؟ في الحرب الاهلية اللبنانية كان الخلاف الظاهر على شعارات وطنية ولكن الجيوش والميليشيات التي تقاتلت كانت من أجل أن توسّع كلّ قبيلة قطعتها من الدستور الذي تجلس عليه… والدليل هو أنّ كلّ طائفة كان لها حزبها الذي يرتدي اسماً براقاً من الحرية والتقدمية والاشتراكية والأمل… وأستثني من هذه المعمعة حزبين أو ثلاثة… داعشية الحياة السياسة في لبنان والعراق التي تحاصرنا في سورية والإصرار على بقاء الطائفية السياسية في هذين البلدين سيعني أنّ عقيدة «داعش» السياسية ستحكم المنطقة، وان اختفت كظاهرة عسكرية كما يتوقع لها لتنفجر بين فينة وأخرى… لأنّ عقيدتها ستبقى في دستور بول بريمر ودستور استقلال لبنان… في سورية سيُهزم المشروع الاسلامي لعقيدة «داعش» كما هُزم الإسلام السياسي… وبقيت ثمالة ستبقى بسببها رائحة «داعش» في حياة السوريين وتكمن في المادة الثالثة للدستور التي تقضي بأن يكون دين رئيس البلاد هو الإسلام… وأذكر اننا قبلنا بتلك المادة على مضض لضرورات المرحلة على أن يتمّ إخضاعها للنقاش والتعديل في مرحلة لاحقة بعد نهاية الأزمة… فهي الآن آخر بقايا «داعش» في سورية…   ويجب الاستفادة من حقيقة أنّ سورية هي التي دحرت مشروع الإسلام السياسي، وبصمودها بدأت مصر بالانقضاض عليه… ولا شك انّ تركيا لا يمكن ان يستمرّ فيها الإسلام السياسي اذا تمّ عزله عن الجنوب وهو يناطح أسوار سورية والعراق ومصر… لذلك على سورية أن تبدأ باقتلاع ما بقي من الداعشية السياسية في المنطقة… وإلغاء هذه المادة من دستورها في قادمات الأيام… فإلغاء هذه المادة هو الذي سيشكل رداً على ثقافة «داعش»، وتأسيساً لمرحلة حقيقية من مواجهة سايكس ـ بيكو الديني والجغرافي ويشكل دعوة حقيقية لوقف نزيف المسيحيين المشرقيين الى المهاجر… لأنّ «داعش» تريد استئصالهم واستئصال الأقليات جميعها بالساطور… ولكنها تستأصلهم مع غيرهم بالدستور أيضاً… وإذا انتهت الداعشية السياسية بخطوة شجاعة في سورية التي ستهزم الداعشية العسكرية كما صار حتمياً وتثبت الدين لله والوطن للجميع فإنّ ذلك قد يساعد في إطلاق موجة نحو العراق ولبنان والمنطقة لأنّ لهذه القضايا تأثير الدومينو… تسقط فيها الطائفية السياسية… وتسقط معها الداعشية السياسية تدريجياً… والا أعدنا درس سايكس ـ بيكو المؤلم… في زمن ماض كنت أحلم يوماً بحزب «البعث» الحجازي… وبفرع للحزب الناصري في نجد… وأحلم بحزب اشتراكي في الامارات أو قطر… واذ بي أفيق من أحلامي لأجد أنّ الناصرية هُزمت في مصر… و»البعث» انتهى في العراق… وأنّ سورية تمكّنت من الإفلات من مصير رهيب بثمن كبير، وأننا دخلنا في بعث داعش… ووهابية الشيوعيين… وأن الصراع الدائر بين الرمل والنهر لا يسير في مصلحة النهر… فلقد غلب الرمل مياه النهر… ولا ندري كيف وصل الرمل الى مياه النيل بدل أن يصل النيل الى الربع الخالي ويرويه… ولا ندري كيف ارتفعت كثبان الرمل وابتلعت دجلة والفرات… وكبف تجرأ الرمل على بردى… لكن الحقيقة هي أننا وجدنا أن في بيتنا خليفة… وفي دستورنا سقيفة… أنا لم أقتل خليفة يوماً… ولكني سأدعو الى قتل دستور الخليفة… وانا لم أهدم سقيفة… ولكني أدعوكم لتشاركوني في هدم السقيفة التي يجلس في ظلها الخليفة… فهل تشاركونني في هدم السقيفة على رأس الخليفة؟              

المصدر : نارام سرجون


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة