انهار أخيراً العمود الثالث في بيت الشعر الفلسطيني المقاوم. رحل توفيق زيّاد باكراً، ثم لحق به محمود درويش، وها هو سميح القاسم (1939ــ2014) ينهي المعزوفة بضربة مؤثرة. «شعراء الأرض المحتلة»، هكذا تلقينا الحصة الأولى لدرس النشيد، بانتباه وحماسة ونشوة، فتعرّفنا عن كثب إلى صورة فلسطين من جهة البرتقال والزيتون والبرقوق. رائحة ستهبّ على الدوام مع كل قصيدة تعبر الحدود والأسوار.

 في غياب توفيق زيّاد، ومغادرة محمود درويش بلاده، بقي سميح القاسم في الداخل الفلسطيني «مثل السيف فردا»، بنبرة عالية لا تقبل المساومة، مازجاً الروح الكنعانية بالنشيد العالي في سبيكة شعرية تستدعي النفير، وبلاغة الأسلاف، وروح الرفض، إذ كانت قصيدته بمثابة وثيقة في تمجيد الجغرافيا الأم التي لطالما كانت بوصلته إلى الحرية. الشيوعي الذي انتهى عروبياً صلباً في زمن الهشاشة والمقاولات الوطنية، وصداقة الأعداء، شذّب نصّه من شوائب الوهم الأممي، وذهب «منتصب القامة» إلى مشتله الأول لإعادة ابتكار الحبق في حقول البلاد المدماة، فههنا قصيدة غير مياومة، إنما تمدُّ جذورها عميقاً في التراب، على هيئة وشم لا يزول. اوركسترا تزاوج بين الكمان والناي في حداء طويل، وبشارةٍ قادمة، كأن كل الهزائم والكبوات ومراتب اليأس، لم تثر غباراً في طريقه إلى الجلجلة، ولم تخفت صوته الناري في تأصيل النشيد الفلسطيني المقاوم.

 كانت قصيدته وثيقة في تمجيد الجغرافيا الأم التي لطالما كانت بوصلته إلى الحرية

 هو سليل المنابر والهتاف والإيقاع، قبل أن تخلو المنصة من شعرائها الكبار، إذ لا مسافة فاصلة بين القصيدة والأغنية، حين اختار اسم «أغاني الدروب» عنواناً لمجموعته الشعرية الأولى (1958). وسوف تزداد شحنة الغضب، تبعاً لزمهرير الشعر والرفض. لهذه الأسباب سيكتب باطمئنان «دمي على كفي»، و«لا أستأذن أحداً»، إلى نحو 60 عنواناً آخر، تمثّل مسالك حبره الموزع بين أجناس إبداعية مختلفة، في مفكرة ضخمة للأمل بترابٍ آخر لا تدنسه أحذية الأعداء، وهوية راسخة لا يلوثها حبر المنفى والحنين. وسوف يدافع عن مساره الشعري الغارق في المباشرة بقوله «هناك سوناتا سيئة ومارش جيد». في وقتٍ لاحق، سيكتب سوناتات جيدة أيضاً، فليس كل ما كتبه القاسم تحت بند «شعر المقاومة»، أو في باب المديح، كما يأخذ عليه بعضهم. التاريخ الدامي لبلاده كان بوصلته المتحوّلة في أرشفة الألم العام وشجنه الشخصي، وقبل كل ذلك علاج الجرح المفتوح بملح الكلمات. هكذا تبزغ حداثة نوعية في منجزه الشعري الشاسع، جنباً إلى جنب مع روحه الهوميروسية الهائمة بين بحر عكا وصحراء النقب، كما يتجاور «ديوان الحماسة» مع عنوان نافر مثل «أرض مراوغة. حرير كاسد. لا بأس»، أو «كولاج». وسوف نقع على جوانب أخرى من سيرته في كتاب «الرسائل»، الرسائل المتبادلة مع رفيق روحه محمود درويش في تلك الحوارية المدهشة بين الوطن والمنفى، وبين الصلابة والحنين، والضمير والجرح، وكتاب الإقامة، وكتاب الهجرة. يكتب محمود درويش في إحدى رسائله: «لم يحدث في تاريخ السطو البشريّ، يا عزيزي، ما يشبه هذا السطو، كأن يرافق الطرد من الوطن بمحاولة الطرد من الوعي والهوية. كأن نعجز عن قول ما هو مقول في الواقع بطريقة لا تخرّب توازن الكرة الأرضية. فعندما يتحوّل الاحتلال إلى «وطن وحيد» للمحتلّ، تصير مطالباً بأن تعتذر عن كلّ سليقة، وبأن تبرز أناقة قتلك بخصوصية لا تؤذي سمعة الخنجر المغروس في لحمك».

ويقول سميح القاسم في رسالةٍ أخرى: «لسنا غصناً مقطوعاً من شجرة هذه الأمة. نحن حرّاس أحلامها وسدنة نارها الطاهرة». لاحقاً، سيسأله محمود درويش بنبرة يائسة: «أين قبري يا أخي؟ أين قبري»، فيجيبه سميح: «لا تسألني أين قبرك. ما دام هذا المهد قضية معلّقة فسيظل القبر سؤالاً محرجاً يتيم الإجابة». سننتبه إلى أنّ حديث الموت اقتحم نصوص القاسم باكراً، ألم يكتب «قرآن الموت والياسمين»(1971)، و«الموت الكبير» (1972)، و«إلهي إلهي لماذا قتلتني؟» (1974)، و«سأخرج من صورتي ذات يوم»(2000).

كأن حياة هذا الشاعر منذورة للنكبات، فمن الاعتقال في سجون الاحتلال، إلى الإقامة الجبرية، كان على وحش السرطان أن يداهمه في مبارزة طويلة. يسأله علاء حليحل في مقابلةٍ شاملة «ألم يكسرك مرض السرطان؟»، فيجيب: «لم انكسر ولكن التوى فيّ شيء ما، بلا شك، ولكن داخلي لم ينكسر». بهذه الإرادة الصلبة، عاش سميح القاسم حياته المتشظيّة بين برازخ كثيرة، وعبرت قصيدته الحدود بكامل غضبها وبلاغتها وروحها المتمرّدة. وسنتذكر ذلك المشهد الاستثنائي خلال زيارته دمشق قبل سنوات، حين وطأت قدماه مخيم اليرموك قبل نكبته الأخيرة، فعبرَ المخيّم محمولاً على الأكتاف مسافة سبعة كيلومترات، كأن أهالي المخيم كانوا يودون ردّ الدين له بقصيدة مماثلة. وربما في مثالٍ آخر، علينا أن نستعيد ما خاطبه به محمود درويش: «لو كان قلبي معك، وأودعته خشب السنديان، لكنت قطعت الطريق بموتٍ أقل». لكن هل هي المصادفة وحدها أن يرحل صاحب «كتاب القدس» في اليوم نفسه الذي رحل فيه الشاعر الأندلسي فريدريكو غارسيا لوركا؟.

  • فريق ماسة
  • 2014-08-20
  • 12458
  • من الأرشيف

لوركا الفلسطيني بين بحر عكا وصحراء النقب

انهار أخيراً العمود الثالث في بيت الشعر الفلسطيني المقاوم. رحل توفيق زيّاد باكراً، ثم لحق به محمود درويش، وها هو سميح القاسم (1939ــ2014) ينهي المعزوفة بضربة مؤثرة. «شعراء الأرض المحتلة»، هكذا تلقينا الحصة الأولى لدرس النشيد، بانتباه وحماسة ونشوة، فتعرّفنا عن كثب إلى صورة فلسطين من جهة البرتقال والزيتون والبرقوق. رائحة ستهبّ على الدوام مع كل قصيدة تعبر الحدود والأسوار.  في غياب توفيق زيّاد، ومغادرة محمود درويش بلاده، بقي سميح القاسم في الداخل الفلسطيني «مثل السيف فردا»، بنبرة عالية لا تقبل المساومة، مازجاً الروح الكنعانية بالنشيد العالي في سبيكة شعرية تستدعي النفير، وبلاغة الأسلاف، وروح الرفض، إذ كانت قصيدته بمثابة وثيقة في تمجيد الجغرافيا الأم التي لطالما كانت بوصلته إلى الحرية. الشيوعي الذي انتهى عروبياً صلباً في زمن الهشاشة والمقاولات الوطنية، وصداقة الأعداء، شذّب نصّه من شوائب الوهم الأممي، وذهب «منتصب القامة» إلى مشتله الأول لإعادة ابتكار الحبق في حقول البلاد المدماة، فههنا قصيدة غير مياومة، إنما تمدُّ جذورها عميقاً في التراب، على هيئة وشم لا يزول. اوركسترا تزاوج بين الكمان والناي في حداء طويل، وبشارةٍ قادمة، كأن كل الهزائم والكبوات ومراتب اليأس، لم تثر غباراً في طريقه إلى الجلجلة، ولم تخفت صوته الناري في تأصيل النشيد الفلسطيني المقاوم.  كانت قصيدته وثيقة في تمجيد الجغرافيا الأم التي لطالما كانت بوصلته إلى الحرية  هو سليل المنابر والهتاف والإيقاع، قبل أن تخلو المنصة من شعرائها الكبار، إذ لا مسافة فاصلة بين القصيدة والأغنية، حين اختار اسم «أغاني الدروب» عنواناً لمجموعته الشعرية الأولى (1958). وسوف تزداد شحنة الغضب، تبعاً لزمهرير الشعر والرفض. لهذه الأسباب سيكتب باطمئنان «دمي على كفي»، و«لا أستأذن أحداً»، إلى نحو 60 عنواناً آخر، تمثّل مسالك حبره الموزع بين أجناس إبداعية مختلفة، في مفكرة ضخمة للأمل بترابٍ آخر لا تدنسه أحذية الأعداء، وهوية راسخة لا يلوثها حبر المنفى والحنين. وسوف يدافع عن مساره الشعري الغارق في المباشرة بقوله «هناك سوناتا سيئة ومارش جيد». في وقتٍ لاحق، سيكتب سوناتات جيدة أيضاً، فليس كل ما كتبه القاسم تحت بند «شعر المقاومة»، أو في باب المديح، كما يأخذ عليه بعضهم. التاريخ الدامي لبلاده كان بوصلته المتحوّلة في أرشفة الألم العام وشجنه الشخصي، وقبل كل ذلك علاج الجرح المفتوح بملح الكلمات. هكذا تبزغ حداثة نوعية في منجزه الشعري الشاسع، جنباً إلى جنب مع روحه الهوميروسية الهائمة بين بحر عكا وصحراء النقب، كما يتجاور «ديوان الحماسة» مع عنوان نافر مثل «أرض مراوغة. حرير كاسد. لا بأس»، أو «كولاج». وسوف نقع على جوانب أخرى من سيرته في كتاب «الرسائل»، الرسائل المتبادلة مع رفيق روحه محمود درويش في تلك الحوارية المدهشة بين الوطن والمنفى، وبين الصلابة والحنين، والضمير والجرح، وكتاب الإقامة، وكتاب الهجرة. يكتب محمود درويش في إحدى رسائله: «لم يحدث في تاريخ السطو البشريّ، يا عزيزي، ما يشبه هذا السطو، كأن يرافق الطرد من الوطن بمحاولة الطرد من الوعي والهوية. كأن نعجز عن قول ما هو مقول في الواقع بطريقة لا تخرّب توازن الكرة الأرضية. فعندما يتحوّل الاحتلال إلى «وطن وحيد» للمحتلّ، تصير مطالباً بأن تعتذر عن كلّ سليقة، وبأن تبرز أناقة قتلك بخصوصية لا تؤذي سمعة الخنجر المغروس في لحمك». ويقول سميح القاسم في رسالةٍ أخرى: «لسنا غصناً مقطوعاً من شجرة هذه الأمة. نحن حرّاس أحلامها وسدنة نارها الطاهرة». لاحقاً، سيسأله محمود درويش بنبرة يائسة: «أين قبري يا أخي؟ أين قبري»، فيجيبه سميح: «لا تسألني أين قبرك. ما دام هذا المهد قضية معلّقة فسيظل القبر سؤالاً محرجاً يتيم الإجابة». سننتبه إلى أنّ حديث الموت اقتحم نصوص القاسم باكراً، ألم يكتب «قرآن الموت والياسمين»(1971)، و«الموت الكبير» (1972)، و«إلهي إلهي لماذا قتلتني؟» (1974)، و«سأخرج من صورتي ذات يوم»(2000). كأن حياة هذا الشاعر منذورة للنكبات، فمن الاعتقال في سجون الاحتلال، إلى الإقامة الجبرية، كان على وحش السرطان أن يداهمه في مبارزة طويلة. يسأله علاء حليحل في مقابلةٍ شاملة «ألم يكسرك مرض السرطان؟»، فيجيب: «لم انكسر ولكن التوى فيّ شيء ما، بلا شك، ولكن داخلي لم ينكسر». بهذه الإرادة الصلبة، عاش سميح القاسم حياته المتشظيّة بين برازخ كثيرة، وعبرت قصيدته الحدود بكامل غضبها وبلاغتها وروحها المتمرّدة. وسنتذكر ذلك المشهد الاستثنائي خلال زيارته دمشق قبل سنوات، حين وطأت قدماه مخيم اليرموك قبل نكبته الأخيرة، فعبرَ المخيّم محمولاً على الأكتاف مسافة سبعة كيلومترات، كأن أهالي المخيم كانوا يودون ردّ الدين له بقصيدة مماثلة. وربما في مثالٍ آخر، علينا أن نستعيد ما خاطبه به محمود درويش: «لو كان قلبي معك، وأودعته خشب السنديان، لكنت قطعت الطريق بموتٍ أقل». لكن هل هي المصادفة وحدها أن يرحل صاحب «كتاب القدس» في اليوم نفسه الذي رحل فيه الشاعر الأندلسي فريدريكو غارسيا لوركا؟.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة