إن رفض الولايات المتحدة الأميركية خروجها بخفي حنين بعد سقوط مشروعها في سورية ثم في المنطقة بأقل الخسائر، يدفعها وأدواتها إلى إشعال الحرائق في غير مكان تحقيقاً لأي مكسب لها مهما كانت التكلفة والنتائج.

إن المشكلة الحقيقية في السياسة الحالية للولايات المتحدة، بحسب ما يؤكده الكثير من المحللين والكتَّاب ومراكز الأبحاث في الغرب ذاته، تكمن في الافتقار للحسابات الدقيقة والتصورات المستقبلية لمآل هذه السياسات المشوبة باللاعقلانية والازدواجية في المعايير ما يعكس اضطراباً وقلقاً في الفعل ورد الفعل الأميركي تكون نتائجه في أغلب الأحيان خروجاً عن السيطرة وعدم القدرة على التحكم بمسار ومآل ما هو مرسوم ومخطط، وبناء عليه فإنه يمكن فهم الصورة الراهنة للمنطقة استناداً إلى هذا المبدأ:

■ ابتداءً بما يحدث في ليبيا وخروج الوضع الأمني عن السيطرة بعد أن فعلت أميركا ما فعلت بها، واليوم لم يعد بوسع البرلمان الليبي إلا مناشدة المجتمع الدولي التدخل فوراً لحماية المدنيين.

■ إلى مصر التي سقط فيها المشروع الإخواني، على عكس آمال واشنطن.

■ إلى لبنان الذي حاولت دول العالم بما فيها الغرب والدول الإقليمية حتى الرجعية منها النأي به وعزله عن حرائق المنطقة وأزماتها.

■ إلى غزة التي فشلت «إسرائيل» في عدوانها عليها من تحقيق مكاسب عسكرية أو سياسية.

■ إلى العراق الذي أضحى بحد ذاته بركاناً تريد الولايات المتحدة إقامة دويلات منقسمة على فوهته الملتهبة.

■ إلى دول الخليج ذاتها المهددة من تنظيم «الدولة الإسلامية».

■ إلى الإرهاب العابر للقارات الذي لم يعد خافياً لأجهزة الاستخبارات الغربية وما تتناقله وسائل إعلام الغرب بأن تنظيم «داعش» بدأ بالتخطيط لهجمات في أوروبا وأميركا.

إن السؤال الأساس الذي تفرضه هذه الصورة المعقدة والغامضة هو: ما الذي حققته الولايات المتحدة بعد قرابة أربع سنوات من فوضاها الخلاقة في المنطقة؟ وماذا في جعبتها بعد؟

إن واشنطن التي امتلكت منذ فترة لا بأس بها فرصة للحل السياسي مع الطرف الروسي حول عدة ملفات في المنطقة والعالم «خاصة بعد انكفائها عن عدوانها العسكري المباشر على سورية صيف العام الماضي مبدية استجابة لذلك الحل بشكل أو بآخر تخرج من خلاله بعدة مكاسب، وتُخرِج المنطقة والعالم من دمار محتمل» إلا أن الولايات المتحدة ظنت في إشغال روسيا باختلاق الأزمة الأوكرانية وسيلة ناجعة للتفرد بمشكلات المنطقة والتحكم بمساراتها، مدركة أن الانسحاب من هذه الحرب سيعطي فرصة ذهبية لإعادة تمتين وتمكين محور المقاومة بطريقة أكثر قوة وعمقاً، وإلغاء الدور المنوط بالأنظمة الرجعية، هذا الدور المرتبط بمصالح الصهيونية العالمية وأميركا، إضافة إلى تسارع مؤكد في ظهور قطبية متعددة في العالم، هذه النتائج المتوقعة وغيرها التي هي بمنزلة نهاية حتمية لآمال ونفوذ واشنطن في المنطقة إلى غير رجعة ومن ثم إضعاف دورها في العالم، حدا بها إلى النسف بآفاق الحلول الدبلوماسية بل تصعيد حدة التوتر إلى أقصى مدى.

إن الواضح تماماً في نتائج سياسات الولايات المتحدة هو الفشل في كل المناطق والبلدان التي أشعلت فيها حرائقها ولو بدرجات متفاوتة، فمنها ما هو فاشل بالمطلق (نماذج سورية ومصر وليبيا وغزة)، ومنها ما هو مهدِّد لمصالح الغرب بعد ظهور شبح «داعش» في لبنان ما ينذر بتفجير أزمة جديدة قد لا تتحملها المنطقة بحسب قناعات الغرب عينه.

ومنها ما هو لواشنطن و«إسرائيل» لو حصل، ألا وهو الاحتمال القوي لتوجه أنظار «داعش» إلى الخليج النفطي.

ويبقى العراق الساحة الواضحة المعالم منذ فترة ليست بالبعيدة لتصعيد أميركي يكسب من خلاله هامشاً للمناورة بعد تحقيق أهداف تقسيمية، يكون تنظيم «داعش» المفتاح والوسيلة لذلك وهو الذي أُسِّس في الحقيقة لتقسيم منطقة الشرق الأوسط بحسب مذكرات هيلاري كلينتون.

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: ماذا لو خرجت السيطرة من أيدي الولايات المتحدة مرة أخرى وكانت النتائج على عكس الحسابات، وأفلتت «داعش» عن دائرة التحكم؟ وما بدائل الولايات المتحدة وآلياتها ونطاقها الجغرافي بعد ذلك؟ وهل سيضطر العالم في لحظة ما إلى التعاون الحقيقي والجدي لمحاربة الإرهاب؟ وهل يكون صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2170 في 15 آب 2014 «الذي تقدمت به بريطانيا بدعم أميركي، وينص على فرض عقوبات على كل من يقدم الدعم لتنظيمي النصرة وداعش الإرهابيين» مقدمةً لذلك؟ وهل يشي بشيء من هذا القبيل ما صرح به وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن تطورات مهمة ستطرأ قريباً على مسار الأزمة في سورية من خلال تسوية تلوح في الأفق؟ وما أعقب هذا التصريح من بوادر توافق دولي وإقليمي لفض الاشتباك السياسي في العراق بعد تكليف حيدر العبادي تشكيل حكومة جديدة عوضاً عن رئيس الوزراء نوري المالكي.

في النهاية إن الخناق الذي يضيق على الولايات المتحدة يوماً تلو يوم يدفع بها إلى إشعال آخر حرائقها قبيل وصولها إليها وإلى أتباعها، ولربما وضعت في حسبانها خطاً للرجعة قبيل الطوفان، ولربما هو الطوفان.

  • فريق ماسة
  • 2014-08-19
  • 9052
  • من الأرشيف

الطوفان.. والحسابات الأميركية غير المدروسة

إن رفض الولايات المتحدة الأميركية خروجها بخفي حنين بعد سقوط مشروعها في سورية ثم في المنطقة بأقل الخسائر، يدفعها وأدواتها إلى إشعال الحرائق في غير مكان تحقيقاً لأي مكسب لها مهما كانت التكلفة والنتائج. إن المشكلة الحقيقية في السياسة الحالية للولايات المتحدة، بحسب ما يؤكده الكثير من المحللين والكتَّاب ومراكز الأبحاث في الغرب ذاته، تكمن في الافتقار للحسابات الدقيقة والتصورات المستقبلية لمآل هذه السياسات المشوبة باللاعقلانية والازدواجية في المعايير ما يعكس اضطراباً وقلقاً في الفعل ورد الفعل الأميركي تكون نتائجه في أغلب الأحيان خروجاً عن السيطرة وعدم القدرة على التحكم بمسار ومآل ما هو مرسوم ومخطط، وبناء عليه فإنه يمكن فهم الصورة الراهنة للمنطقة استناداً إلى هذا المبدأ: ■ ابتداءً بما يحدث في ليبيا وخروج الوضع الأمني عن السيطرة بعد أن فعلت أميركا ما فعلت بها، واليوم لم يعد بوسع البرلمان الليبي إلا مناشدة المجتمع الدولي التدخل فوراً لحماية المدنيين. ■ إلى مصر التي سقط فيها المشروع الإخواني، على عكس آمال واشنطن. ■ إلى لبنان الذي حاولت دول العالم بما فيها الغرب والدول الإقليمية حتى الرجعية منها النأي به وعزله عن حرائق المنطقة وأزماتها. ■ إلى غزة التي فشلت «إسرائيل» في عدوانها عليها من تحقيق مكاسب عسكرية أو سياسية. ■ إلى العراق الذي أضحى بحد ذاته بركاناً تريد الولايات المتحدة إقامة دويلات منقسمة على فوهته الملتهبة. ■ إلى دول الخليج ذاتها المهددة من تنظيم «الدولة الإسلامية». ■ إلى الإرهاب العابر للقارات الذي لم يعد خافياً لأجهزة الاستخبارات الغربية وما تتناقله وسائل إعلام الغرب بأن تنظيم «داعش» بدأ بالتخطيط لهجمات في أوروبا وأميركا. إن السؤال الأساس الذي تفرضه هذه الصورة المعقدة والغامضة هو: ما الذي حققته الولايات المتحدة بعد قرابة أربع سنوات من فوضاها الخلاقة في المنطقة؟ وماذا في جعبتها بعد؟ إن واشنطن التي امتلكت منذ فترة لا بأس بها فرصة للحل السياسي مع الطرف الروسي حول عدة ملفات في المنطقة والعالم «خاصة بعد انكفائها عن عدوانها العسكري المباشر على سورية صيف العام الماضي مبدية استجابة لذلك الحل بشكل أو بآخر تخرج من خلاله بعدة مكاسب، وتُخرِج المنطقة والعالم من دمار محتمل» إلا أن الولايات المتحدة ظنت في إشغال روسيا باختلاق الأزمة الأوكرانية وسيلة ناجعة للتفرد بمشكلات المنطقة والتحكم بمساراتها، مدركة أن الانسحاب من هذه الحرب سيعطي فرصة ذهبية لإعادة تمتين وتمكين محور المقاومة بطريقة أكثر قوة وعمقاً، وإلغاء الدور المنوط بالأنظمة الرجعية، هذا الدور المرتبط بمصالح الصهيونية العالمية وأميركا، إضافة إلى تسارع مؤكد في ظهور قطبية متعددة في العالم، هذه النتائج المتوقعة وغيرها التي هي بمنزلة نهاية حتمية لآمال ونفوذ واشنطن في المنطقة إلى غير رجعة ومن ثم إضعاف دورها في العالم، حدا بها إلى النسف بآفاق الحلول الدبلوماسية بل تصعيد حدة التوتر إلى أقصى مدى. إن الواضح تماماً في نتائج سياسات الولايات المتحدة هو الفشل في كل المناطق والبلدان التي أشعلت فيها حرائقها ولو بدرجات متفاوتة، فمنها ما هو فاشل بالمطلق (نماذج سورية ومصر وليبيا وغزة)، ومنها ما هو مهدِّد لمصالح الغرب بعد ظهور شبح «داعش» في لبنان ما ينذر بتفجير أزمة جديدة قد لا تتحملها المنطقة بحسب قناعات الغرب عينه. ومنها ما هو لواشنطن و«إسرائيل» لو حصل، ألا وهو الاحتمال القوي لتوجه أنظار «داعش» إلى الخليج النفطي. ويبقى العراق الساحة الواضحة المعالم منذ فترة ليست بالبعيدة لتصعيد أميركي يكسب من خلاله هامشاً للمناورة بعد تحقيق أهداف تقسيمية، يكون تنظيم «داعش» المفتاح والوسيلة لذلك وهو الذي أُسِّس في الحقيقة لتقسيم منطقة الشرق الأوسط بحسب مذكرات هيلاري كلينتون. وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: ماذا لو خرجت السيطرة من أيدي الولايات المتحدة مرة أخرى وكانت النتائج على عكس الحسابات، وأفلتت «داعش» عن دائرة التحكم؟ وما بدائل الولايات المتحدة وآلياتها ونطاقها الجغرافي بعد ذلك؟ وهل سيضطر العالم في لحظة ما إلى التعاون الحقيقي والجدي لمحاربة الإرهاب؟ وهل يكون صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2170 في 15 آب 2014 «الذي تقدمت به بريطانيا بدعم أميركي، وينص على فرض عقوبات على كل من يقدم الدعم لتنظيمي النصرة وداعش الإرهابيين» مقدمةً لذلك؟ وهل يشي بشيء من هذا القبيل ما صرح به وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن تطورات مهمة ستطرأ قريباً على مسار الأزمة في سورية من خلال تسوية تلوح في الأفق؟ وما أعقب هذا التصريح من بوادر توافق دولي وإقليمي لفض الاشتباك السياسي في العراق بعد تكليف حيدر العبادي تشكيل حكومة جديدة عوضاً عن رئيس الوزراء نوري المالكي. في النهاية إن الخناق الذي يضيق على الولايات المتحدة يوماً تلو يوم يدفع بها إلى إشعال آخر حرائقها قبيل وصولها إليها وإلى أتباعها، ولربما وضعت في حسبانها خطاً للرجعة قبيل الطوفان، ولربما هو الطوفان.

المصدر : فراس فرزت القطان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة