دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
مدينة النفط والقمح والقطن وسحر الفرات لم تعد تعرف طعماً للحياة مع ما يصيبها بشكل يومي في احد أكثر المواقع سخونة في سوريا من الناحية الطبيعية والعسكرية معاً. إلى دير الزور توجهت «السفير» في محاولة رصد تفاصيل الحياة في «ولاية الخير».
خمس ساعات هي الفترة الزمنية التي تتطلبها المسافة من دمشق إلى دير الزور براً. طبعاً هناك خيارات أخرى مثل السفر جوا أو نحو القامشلي، ثم ثلاث ساعات توصلك إلى المدينة. كما يمكن التوجه برحلة نهرية من الرقة، لكن مهلاً فكل الظروف تغيرت وأصبح الخيار الوحيد هو عبور الصحراء برحلة تمتد لأكثر من 10 ساعات.
لن تكون وحدك في الطريق، فالعشرات يتوجهون يومياً إلى هناك محكومين بظروفهم وعملهم وأهاليهم، لكنها رحلة لن تشبه غيرها، ستستمع إلى مجموعة تعليمات قبل الصعود إلى الحافلة، وعلى النساء اصطحاب «محرم» معهن، والجلوس في الصفوف الخلفية، وارتداء الخمار وملابس سوداء تجنباً لغضب حواجز تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»-»داعش»، وقد يعمد السائق لتجنبهم إلى السير في طرقات ترابية، ستكون سبباً إضافيا في تأخير الوصول، وقد تفضي إلى الرقة أو الميادين والبوكمال، فكل شيء وارد هنا، بما فيه الضياع أو تعطل الحافلة، في طريق يمتد من دمشق الى حمص ثم تدمر فدير الزور.
وتصل الرحلة أخيرا إلى دوار البانوراما. هناك حاجز للجيش السوري، حيث لا يزال جزء من المدينة في قبضة الدولة. أما المواقع الخاضعة لسيطرة «داعش» فعلى القادم نحوها عبور الطريق من الرقة أو الميادين ثم عبور نهر الفرات وجسر السياسية.
الحياة رغم كل شيء
في داخل مدينة دير الزور قصص كثيرة عما يجري. كل شيء فيها تغير. بعض الأحياء أصبحت أثرا بعد عين، والدمار منتشر فيها من الشارع العام إلى الرشدية وشارع النهر والحويقة. الجسر المعلق، احد ابرز معالم دير الزور ومقصد سكانها اليومي، أصيب ودمر من المنتصف.
السوق القديم المقبب ليس بأفضل حال، وبالطبع التجول هناك معناه خطر الموت في أي لحظة. هناك أحياء أخرى استقبلت نازحي المناطق المدمرة، فزادها الحال بؤساً على ما هي عليه، وخطر القذائف لا يتوقف في أي وقت. ببساطة، لا يمكن وصف الحياة في دير الزور إلا بالمعجزة.
وتنقسم السيطرة في دير الزور بين الحكومة السورية، التي تحكم قبضتها على أحياء الجورة والقصور والموظفين والمطار العسكري من جهة، فيما ينتشر عناصر «داعش» في باقي الأحياء وكامل الريف من جهة أخرى. ومع ذلك تتشابه ظروف الحياة بشكل أو بآخر، فالكهرباء زائر غريب يطرق أبواب السكان بضع ساعات في اليوم، هذا إن حضرت طبعاً في مدينة تقارب درجات الحرارة فيها الخمسين درجة. وضع المياه أفضل قليلاً، لكن منسوب الفرات تراجع بشكل لافت بفعل الجفاف والسدود. الاتصالات الأرضية تعمل بشكل جيد والشبكة الخلوية تعمل بشكل متقطع ومعها الانترنت، أما الغاز فهو أكثر من متوفر بل ويوزع بسعر زهيد جداً.
وبرغم قسوة الحياة، فقد تمكن الناس من التأقلم مع هذه الظروف. ويقول حسن (33 سنة ـ موظف): «نقتصد في إعداد الطعام بحيث تكفي الوجبة ليوم واحد، فالبرادات لم تعد تعمل والمواد التموينية تتخرب بسرعة بالحرارة. صحيح أن البعض قد أمن مولدات للطاقة، لكن الفقراء ما زالوا عاجزين عنها، والوقود يرتفع سعره يوماً تلو الآخر، وما بيدنا حيلة أكثر من هذا. هناك مستشفى وحيد في المدينة يقع على مدخل طريق الشام، فيما معظم الأطباء قد تركوا العمل وغادروا».
أما سامي (29 سنة ـ مدرس) فيوضح كيف تكيف الناس مع الظروف، قائلا إن «العديد من المحال التجارية قد فتحت أبوابها، ومؤسسات الدولة تعمل بشكل طبيعي. قبل أسابيع أنجزنا امتحانات الشهادة الثانوية والآن نستعد لدورة تكميلية للجامعات. عند انقطاع الكهرباء يخرج الناس من منازلهم مستخدمين أضواء بسيطة للتحرك، ورحلة يوم الجمعة إلى النهر ما زالت طقساً يتكرر بشكل أسبوعي من دون انقطاع». ويضيف: «نحن محكومون بالبقاء مهما حدث. الذهاب إلى دمشق مكلف جداً والحياة هناك لا تطاق. اعرف كثيرين غادروا ونفدت مدخراتهم أو لم يتمكنوا من إيجاد عمل فعادوا إلى هنا».
«داعش» يحاول كسب السكان
المشهد في باقي الأحياء، حيث يسيطر «داعش» يبدو عادياً، وهو أمر ينسحب على الريف، باستثناء التوتر الذي حصل قبل أيام مع عشيرة الشعيطات والقرى المجاورة، فتغيرت معاملة التنظيم ليغلق عشرات الطرق ويبدأ بإقامة الحواجز مع حملة اعتقالات وتخوف الأهالي من عمليات إعدام جماعية.
أما نشطاء «الثورة» فبعضهم أعلن توبته وبقي في المدينة تحت المراقبة، وبعضهم الآخر فضل المغادرة خشية اعتقاله أو إعدامه، بينما فضل البعض مبايعة «الدولة الإسلامية» بل والتشدد في التعاطي مع مناوئيه.
ويقول شاب من المنطقة، فضل عدم ذكر اسمه، إن «الأيام الأولى لسيطرة داعش شهدت حالة من الرضا، فمع سيطرة التنظيم انتهت فوضى السلاح التي غرقت بها المنطقة مع تعدد الكتائب والاقتتال بينها وبين الدولة الإسلامية، واضطرت المجموعات القائمة على السرقة أو تهريب النفط إلى المبايعة والامتثال لأوامر الوالي أو المغادرة الى الخارج، شأنها شأن باقي القيادات في جبهة النصرة وأحرار الشام وغيرها من الفصائل الكبرى التي شنت حرباً على داعش، لكن هذه الحالة تشوبها أجواء قلق وتوتر من أي غدر بالأهالي، وقمع يشابه ما يحدث في جارتهم الرقة».
ويقول آخر: «مللنا من تعدد السلطات وحالة الاقتتال والحرب اليومية. هناك عائلات كثيرة لا مكان لها سوى هذه البيوت، ولا تستطيع النزوح، إضافة إلى نازحين موجودين بالأصل هنا».
ويلفت ممرض عشريني في المنطقة إلى مسعى «داعشي» قد يعمد له القادة في سبيل كسب ود الناس، من خلال ضبط الفوضى وتوزيع المعونات، لكن كل هذا قد يتحول إلى حرب شعواء مع أول ردة فعل من الأهالي، وهو ما بدأت علاماته بعد ما حصل مع عشيرة الشعيطات وفي مدينة الشحيل، وإغلاق التنظيم لقناة دير الزور التي تبث من المنطقة ووضع شروط جديدة للعمل .
لا احد يعرف ماذا يخبئ المستقبل لأبناء الفرات، ولمدينة عاكسها القدر منذ عقود، مع حالة الإهمال والنأي عن دعم المشاريع التنموية وصولاً إلى أزمات الجفاف المتوالية، ثم الأحداث الأخيرة التي أعادت تشكيل الخريطة في المنطقة الشرقية. ومع كل هذا أصبح التسليم بالواقع حالة عامة، وكأنما كتب على دير الزور أن تتعمد بالمآسي والحروب من دون توقف.
المصدر :
الماسة السورية/ طارق العبد
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة