“يعطيك العافية وطن”. هكذا بادر الانتحاري الذي فجَّر نفسه أمس في حاجز ضهر البيدر، المؤهل أول محمود جمال الدين، الذي كانت عيناه تجولان في سيارة النيسان مورانو الرصاصية اللون، متنقلتين بسرعة البرق بين أرجائها.

فالقوى الأمنية كانت اشتبهت حوالي الساعة الحادية عشرة والربع قبل الظهر بسيارة بتلك المواصفات، على الطريق الداخلية في صوفر متجهة إلى بحمدون. وكان حاجز ضهر البيدر أُعلم بفشل محاولة توقيفها، وبأن السائق فرَّ من أمام الدورية التي كانت تطارده، وعاد أدراجه إلى البقاع.

على الفور، بادر المؤهل أول جمال الدين سائق السيارة بعبارة “هويتك وتفضل نزال من السيارة”. وكان إلى جانبه عنصر من قوى الأمن الداخلي، يستعد للقيام بواجب التفتيش. ولم يكن المؤهل أول ولا العنصر على علم طبعاً بحال الهلع التي أصابت السائق، والإرباك الذي اعتراه، بمجرد إدراكه أن أمره ربما انكشف.

وفيما كان العنصر الأمني يستعد لتفتيش دقيق للسيارة بعد فتحه الباب، لمح فجأة أمراً غريباً كان السائق يهم بالقيام به عند قداحة البطارية، محركاً شريطاً أو فتيلاً أو خيطاً… لم يدرِ. وقبل أن يتمكن من سؤال السائق عن ماهية الشريط، تأكد أنه كان ينبري لعمل مشبوه، من خلال الطريقة التي كان يتحرك بها، حيث بدا متوتراً جداً.

في تلك اللحظة، أدرك المؤهل أول أن ثمة شيئاً غريباً في الموضوع… ولم يعلم قبلها طبعاً أن السائق المربك، انتحاري يؤمن أن ولوج الجنة جسره جثث الأبرياء.

وفي تلك اللحظة أيضاً، دفعت الغريزة الأمنية بالمؤهل أول إلى الصراخ “اهربوا… اهربوا… اهربوا…” فما كان من العناصر إلا أن ركضوا في الاتجاه الآخر، ومنهم العنصر الذي كان يقف قربه. أما المؤهل أول جمال الدين، فلم يتمكن من الفرار، واستشهد على الفور.

وبالنسبة إلى العنصر الأمني الذي كان يقف قرب المؤهل أول، فما هي إلا سبعة أمتار تقريباً قطعها، حتى حلَّت اللحظة اللعينة: فجر الانتحاري نفسه، ليحدث ما لم يكن في الحسبان: فوضى عارمة، أشلاء ودم، صراخ وعويل…

قوة الانفجار رمت بالعنصر إلى الأمام، متلقياً إصابات بليغة في رأسه وظهره ورجليه، حيث تمكن الأطباء من سحب أكثر من 16 شظية كبيرة، عدا الصغيرة التي تحتاج إلى مزيد من الوقت والعناية.

رمى الانفجار بالعنصر على الأرض. وفي خضمّ الفوضى الأمنية، وبلبلة المواطنين، اندفع أحد مشايخ الطائفة الدرزية من سيارته، وهمَّ بنقل العنصر المصاب إلى مستشفى شتورا.

وفي غضون ذلك، كان رئيس أحد أديرة زحلة، الذي كان يعرف العنصر الأمني المذكور، يتصل بأحد المسؤولين عن حاجز ضهر البيدر للاطمئنان إلى ما جرى. فما كان من المسؤول المذكور إلا أن أبلغ إليه اعتقاده بأن المؤهل أول والعنصر استشهدا، لأنهما كانا الأقرب إلى موقع الانفجار. وهذا ما يفسر الرسالة النصية التي أرسلتها إلى المواطنين بعض وسائل الإعلام تتحدث عن شهيدين من قوى الأمن الداخلي.

“يعطيك العافية وطن”. عبارة كانت مشؤومة أمس. فقط أمس. لكنها في سائر الأيام عنوان الأمل الباقي بالحياة، في وطن يبدو فيه الموت أحياناً أقوى من الحياة.

  • فريق ماسة
  • 2014-06-20
  • 10671
  • من الأرشيف

ماذا قال الإنتحاري للشهيد محمود جمال الدين؟

“يعطيك العافية وطن”. هكذا بادر الانتحاري الذي فجَّر نفسه أمس في حاجز ضهر البيدر، المؤهل أول محمود جمال الدين، الذي كانت عيناه تجولان في سيارة النيسان مورانو الرصاصية اللون، متنقلتين بسرعة البرق بين أرجائها. فالقوى الأمنية كانت اشتبهت حوالي الساعة الحادية عشرة والربع قبل الظهر بسيارة بتلك المواصفات، على الطريق الداخلية في صوفر متجهة إلى بحمدون. وكان حاجز ضهر البيدر أُعلم بفشل محاولة توقيفها، وبأن السائق فرَّ من أمام الدورية التي كانت تطارده، وعاد أدراجه إلى البقاع. على الفور، بادر المؤهل أول جمال الدين سائق السيارة بعبارة “هويتك وتفضل نزال من السيارة”. وكان إلى جانبه عنصر من قوى الأمن الداخلي، يستعد للقيام بواجب التفتيش. ولم يكن المؤهل أول ولا العنصر على علم طبعاً بحال الهلع التي أصابت السائق، والإرباك الذي اعتراه، بمجرد إدراكه أن أمره ربما انكشف. وفيما كان العنصر الأمني يستعد لتفتيش دقيق للسيارة بعد فتحه الباب، لمح فجأة أمراً غريباً كان السائق يهم بالقيام به عند قداحة البطارية، محركاً شريطاً أو فتيلاً أو خيطاً… لم يدرِ. وقبل أن يتمكن من سؤال السائق عن ماهية الشريط، تأكد أنه كان ينبري لعمل مشبوه، من خلال الطريقة التي كان يتحرك بها، حيث بدا متوتراً جداً. في تلك اللحظة، أدرك المؤهل أول أن ثمة شيئاً غريباً في الموضوع… ولم يعلم قبلها طبعاً أن السائق المربك، انتحاري يؤمن أن ولوج الجنة جسره جثث الأبرياء. وفي تلك اللحظة أيضاً، دفعت الغريزة الأمنية بالمؤهل أول إلى الصراخ “اهربوا… اهربوا… اهربوا…” فما كان من العناصر إلا أن ركضوا في الاتجاه الآخر، ومنهم العنصر الذي كان يقف قربه. أما المؤهل أول جمال الدين، فلم يتمكن من الفرار، واستشهد على الفور. وبالنسبة إلى العنصر الأمني الذي كان يقف قرب المؤهل أول، فما هي إلا سبعة أمتار تقريباً قطعها، حتى حلَّت اللحظة اللعينة: فجر الانتحاري نفسه، ليحدث ما لم يكن في الحسبان: فوضى عارمة، أشلاء ودم، صراخ وعويل… قوة الانفجار رمت بالعنصر إلى الأمام، متلقياً إصابات بليغة في رأسه وظهره ورجليه، حيث تمكن الأطباء من سحب أكثر من 16 شظية كبيرة، عدا الصغيرة التي تحتاج إلى مزيد من الوقت والعناية. رمى الانفجار بالعنصر على الأرض. وفي خضمّ الفوضى الأمنية، وبلبلة المواطنين، اندفع أحد مشايخ الطائفة الدرزية من سيارته، وهمَّ بنقل العنصر المصاب إلى مستشفى شتورا. وفي غضون ذلك، كان رئيس أحد أديرة زحلة، الذي كان يعرف العنصر الأمني المذكور، يتصل بأحد المسؤولين عن حاجز ضهر البيدر للاطمئنان إلى ما جرى. فما كان من المسؤول المذكور إلا أن أبلغ إليه اعتقاده بأن المؤهل أول والعنصر استشهدا، لأنهما كانا الأقرب إلى موقع الانفجار. وهذا ما يفسر الرسالة النصية التي أرسلتها إلى المواطنين بعض وسائل الإعلام تتحدث عن شهيدين من قوى الأمن الداخلي. “يعطيك العافية وطن”. عبارة كانت مشؤومة أمس. فقط أمس. لكنها في سائر الأيام عنوان الأمل الباقي بالحياة، في وطن يبدو فيه الموت أحياناً أقوى من الحياة.

المصدر : التيار/ جاد أبو جودة


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة