دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
روبرت فيسك يشهد «عذوبة» انتصار الأسد وسط حرب دموية ... إنه حقّاً سؤالٌ نسبيّ كيف استطاع الأسد الصمود في السلطة ؟
تفوّق بشار الأسد على انتصار المشير عبد الفتّاح السيسي في الانتخابات الرئاسية المصرية التي جرت الأسبوع الماضي، والتي فاز بها الأخير بنسبة 93.7 في المئة، على رغم أن سماء دمشق كانت تصدح بعويل الطائرات المقاتلة ودويّ الإنفجارات وهتاف مواطنيها ورقصهم خارج مراكز الاقتراع.
إثنان من السياسيين المملّين والمطيعين ـ المعروفة نتائج خسارتهما مسبقاً ـ أُضيفا إلى قائمة الرجل الواحد للمرة الأولى في تاريخ الحزب البعثي. لذلك عندما سألتُ وزير الخارجية السوري وليد المعلّم، حول احتمال خسارة بشار الأسد، أجاب بحكمة: «هذا الأمر متروك للشعب السوري».
آه، صحيح… إنه الشعب السوري. المسحوق، الذليل، المُعذّب، المسجون، المذبوح، المطالب وإلى الأبد بالتحرّر من القهر مع ملاحظة مدى استخدام هذه العبارات المأساوية من قبل الجانبين ضدّ بعضهما البعض في مسيرة الألم السوري. كلّ هذا الشعب دُعِيَ للمشاركة في الانتخابات، في ذروة معاناته، في واحد من ألمع فصول الديمقراطية في الشرق الأوسط. 60 في المئة من السكان كانوا قادرين على التصويت في 40 في المئة من الأراضي الخاضعة لسيطرة النظام، في أكثر من 9000 مركز للتصويت، كانت بمعظمها تحت مرمى نيران القوات المعارضة الضعيفة والمدعومة من الغرب.
هذه المجموعات المتمرّدة المتلاشية، المتخوّفة من الإسلاميين ـ بدت منكسرة كانكسار ألواح الزجاج ـ تتوعّد بإطلاق سيلٍ من الصواريخ على المدن السورية لإفشال العملية الانتخابية التي قادها الزعماء الأميركيون والأوروبيون، واصفين ما يحصل بأنه مجرّد مهزلة. ومنذ الفجر، بدأت قذائف «مورتر» والصواريخ تضرب قلب دمشق، إلى أن قامت طائرات «ميغ» باجتياح المدينة وضواحيها، في أكثر أشكال العنف الانتخابي إقناعاً في تاريخ الديمقراطية. وقد نقل التلفزيون السوري وقائع إدلاء بشار الأسد وزوجته أسماء، بصوتيهما في مركز الاقتراع.
بدأت الاحتفالات بالنجاح في المؤسسة الداخلية للمركبات الفضائية في مركز وزارة الخارجية السورية، بوجود مجموعة من الوزراء الذين قدّموا أوراق اعتمادهم للأسد، مكلّلين بالأعلام السورية، متلهّفين للإدلاء بأصواتهم الانتخابية، وعدد من هؤلاء الرجال الأمينين والمخلصين، مثل وزير الخارجية المعلّم الذي لم يتعافَ بعد من عملية جراحية أُجريت له، كذلك نائبه الفصيح فيصل المقداد، ووزير إعلامه الماكر الزعبي، صوّتوا للمرة الثالثة على سنوات سبع جديدة من حكم بشار. لاحظنا وجود ستائر لحماية سرّية التصويت في مبنى وزارة الخارجية، والتي تشكل جدرانها العالية المساحة الأنسب لمثل هذا الحدث.
شملت مراكز الاقتراع الشعبية المواقع الحدودية، والمدارس، ووزارات الحكومة كذلك مكاتب شركات الطيران. أمضيتُ وقتاً لا بأس به في دمشق لشراء تذكرة سفرٍ محلية في غرفة مكتظة برجال الميليشيا وبالمصوّتين، حيث الجدران مليئة بصور الرابح في الانتخابات. ولتحزروا من هو؟ بينما تحوم الطائرات المقاتلة فوق الأسطح. «هل تريد التصويت»؟ سألني أحد الموظفين بنبرة تهكمية. فهمت المغزى. وهل سأصوّت لمصلحة السيسي مثلاً؟
لكن ثمة فرق بين الفرعون السابق الذي حكم مصر، وبين طبيب العيون الذي ومن دون أدنى شك ـ سيحكم سورية. فقد تميزت الانتخابات المصرية بمراكز اقتراع فارغة وبمقترعين متجهّمين وضجرين من حرارة ثورتهم… بينما الآلاف من فرق الناخبين السوريين، حاملين صور «ذلك الرجل» القائد المبتسم في وجه البحر المتوسط الهادر، وصفوف طويلة من الشباب اليافعين. عفويون؟ أبداً. مجبورون؟ إلى حدّ ما. سعداء؟ ومن ذا الذي يستطيع قراءة ما تخبئه تلك الابتسامات والصيحات البائسة التي تهتف: «بالروح، بالدم، نفديك بأرواحنا؟»، وكلّنا يعلم من هو ذلك الذي يريدون أن يفتدوه.
بدأت الشائعات تُروّج عندما اجتاز الآلاف من السوريين الحدود اللبنانية للتصويت في مراكز اقتراع تبعد بضع مئات من الأمتار داخل بلادهم. وفي لبنان، أصدرت وزارة الداخلية والبلديات قراراً يقضي بالطلب من جميع النازحين السوريين والمسجّلين لدى مفوضية الأمم المتحدة، الامتناع عن الدخول إلى سورية تحت طائلة فقدان تصنيفهم كنازحين في لبنان. بتعبير آخر، كان تصويتٌ مكلف، بحق الشعب السوري الفقير. وقد قيل لي في دمشق إنّ السلطات اللبنانية قضت بأن يدفع كل مواطن سوري مبلغ 200 دولار أميركي مقابل عودته إلى بلده. وهذا غير صحيح على الإطلاق. فلقد انتظر السوريون استلام ورقة صفراء من رجال الأمن العام اللبنانيين، للسماح لهم بالعودة إلى لبنان خلال 24 ساعة. ولم ألحظ تبادلاً للأموال في أيدي أحدٍ منهم.
ولنعُد الآن إلى إدارة صفحة الحقائق الأساسية، ولنجمع سوياً غالبية المسيحيين والدروز والعلويين، وعدد كبير من السنّة المسلمين الذين يشكلون 60 في المئة من السكان المتواجدين ضمن 40 في المئة من الأراضي الخاضعة لسيطرة النظام، ألم يصوّت هؤلاء بغالبيتهم لبشار؟ المعارضة المسلّحة، لم تكن متمثلة، بطبيعة الحال، كذلك الإسلاميون، وهم بمعظمهم غير سوريين، حتى حسان عبد الله النوري وماهر عبد الحفيظ حجار، ممن زيّنت صورهم بعض أوراق التصويت والذين لا انتقادات عليهم من الأسد لم يحظوا بأيّ فرصة. والنوري ـ بالمناسبة ـ حائزٌ شهادة الماجستير في الإدارة العامة من جامعة «وسكنسون»، وشهادة دكتوراه من جامعة «كنيدي» في كاليفورنيا والحجار هو الذي اشتهر بالقول إن المسيحيين لطالما ظلّوا محايدين خلال مواجهة بلادهم المؤامرة الخارجية.
أربعة وعشرون مرشحاً قدّموا أنفسهم كمرشحين للرئاسة، غير أنهم بدأوا بالانسحاب لمصلحة الثلاثة المتبقين بمن فيهم بشار نفسه. وسيسجّل المؤرّخون هذا الحدث على إنه صفعة سياسية سدّدها الرئيس في وجه أعدائه، لتتلاءم مع الانتصارات العسكرية التي حققّتها جيوشه إلى جانب مقاتلي حزب الله والحرس الثوري الإيراني.
ولعلّ أشرس هجوم صحافي على الانتخابات السورية جاء من الكاتب حازم صاغية في مقاله المنشور في صحيفة «الحياة» المموّلة سعودياً، يقول فيه إنّ قرار بشار الأسد بخوض الانتخابات أكثر قسوةً من وحشية قمعه لهم… لقد ضرب العنف جثثهم كذلك عقولهم، لكن هذه المهزلة الانتخابية هي مذلّة لم يسبق لها مثيل». ويتابع صاغية مستنتجاً: «هل يستحق التجميل كل هذا العناء؟».
لذا، عندما سألت وزير الخارجية السوري كيف يدافع عما سُمّي بالمهزلة الانتخابية أجاب: «لا أرى حاجة للدفاع عن نفسي». وتابع: «اسأل العالم أن يلقي نظرةً إلى شاشات التلفزيون… كي يروا بأنفسهم ما الذي يريده الشعب السوري. إنها ديمقراطية الشعب السوري الذي يمارس حقه الانتخابي».
ما أردتُ معرفته حقاً، وما يرغب الجميع في معرفته، أظنّ ـ لمَ حصلت الانتخابات في مصر الأسبوع الماضي وفي سورية هذا الأسبوع؟ هل هي محاولة لمحاكاة الكمال الذي يشهده النظام الديمقراطي القوي في أوروبا وثمّ التفوّق عليه من خلال نسب منمّقة وبشعة؟
هل هو من قبيل الصدفة أن تكون الشعوب العربية المتأثرة بالسياسة الأوروبية على مدى السنوات الـ 150 الماضية والذين آثروا ارتداء الملابس الغربية بدلاً من الجلابيب العربية، والذين قرأ آباؤهم «فولتير» و«روسو» وأدباء العصر الفيكتوري ـ قد تشرّبوا المثل العليا للحكومات التمثيلية؟ وهل يفسر هذا لمَ الخليجيون العرب الفخورون بعباءاتهم إلى حدّ ما، يظهرون اهتماماً لا يكاد يُذكر بالديمقراطية البرلمانية؟
ما من شكٍ في أن سورية كانت أمّةً ثورية في ظلّ الحكم العثماني. فالاستقلال جزءٌ لا يتجزّأ من حقها التاريخي الطبيعي المكتسب. لكن هل هذا هو الاستقلال الفردي الذي نتحدث عنه؟ أم أنه استقلالٌ وطنيّ فقط؟ ثم ما هي الإحصاءات الصادرة من دمشق والتي سنسمعها هذا الأسبوع؟ البعض ممّن يمتلكون مصداقية تُذكر، أكدوا لي أن التصويت للأسد لم يتعدَّ 62 في المئة. لكن آخرين ـ وأتوقّع ـ 90 في المئة منهم ـ سيقولون إن بشار نال نسبة أصوات تخطّت 95 في المئة.
… إنه انتصارٌ لورقة وسط حربٍ دموية.
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة