دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
في اللحظات التي يكون فيها فلاديمير بوتين «القائد الأعلى للقوات المسلحة»، لا يعود «فخامة الرئيس»، بل «الرفيق»، كما خاطبه وزير دفاعه، طالباً الإذن بالشروع في العرض العسكري في الساحة الحمراء؛ فالجيش لا يزال أحمر، وراية نصره حمراء،
ونداء المناداة بين جنوده وضباطه هو «الرفيق». حسناً، كل ما له علاقة بالقوات المسلحة الروسية لا يزال خاضعاً للهيكلية والعقيدة الدفاعية السوفياتية؛
تماثيل لينين وستالين والقادة والضباط السوفيات، لا تزال رموزاً سوفياتية، يُذاد عنها بالدماء؛ اللحظة السوفياتية اللينينية ـــ الستالينية هي، إذاً، جزء عضوي من النهوض الروسي الجديد، مثلما هو بطرس الأكبر والقيصرية والقومية الروسية والكنيسة والأرثوذكسية والبراغماتية والتحديث الاقتصادي التقني والمنافسة الدولية وتصنيع السلاح وغزو الفضاء والقطاعين العام والخاص... إلخ. فما أنجزه بوتين، بصورة عبقرية، هو أنه جَدَل ضفيرة الإجماع الروسي، بلا تلفيق، بل في مشروع روسي ـــ عالمي: القطبية الجديدة.
وجد مركز «بيو» الأميركي، في استطلاع أخير، أن 83 بالمئة من الروس يدعمون رئيسهم؛ نسبة غير متاحة، بل غير ممكنة لأي زعيم سياسي في عالم اليوم. يبدو بوتين وقد تماهى مع أمته، يعبّر عن طموحها العميق، وتطلعاتها التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هناك زعماء حصلوا، بالطبع، على نسب تأييد أعلى بالتزوير أو التخويف أو جراء الوعود الديماغوجية المضللة غير المؤسسة على وقائع. بالنسبة إلى بوتين، الأمر مختلف جذرياً؛ فهذا الرجل الصلب يعبّر عن روح. والأمة الروسية أمّة يحرّكها الروح أولاً؛ ذلك الروح نفسه الذي صنع أمجاد القيصرية، وثورة أكتوبر والاتحاد السوفياتي، والنصر على الفاشية والنازية في الحرب العالمية الثانية. وفي عودة ذلك الروح العظيم اليوم، تستعد روسيا للمنافسة الجدية في حقول الطاقة والسلاح والصناعة الثقيلة والفضاء وبناء النظام الاقتصادي المالي المستقل عن النظام الرأسمالي العالمي. إنها تستعد لإشغال موقع قطب دولي من طراز جديد؛ روسيا إما أن تكون قطباً دولياً أو لا تكون؛ لا يمكنها أن تتحول، مثلاً، إلى الوضع الكاريكاتوري لدولة من الدرجة الثانية كفرنسا، لا يمكنها أن تكون حتى ألمانيا ـــ على عظمتها ـــ فقد استودعها التاريخ عناصر القوة الدولية المحركة للتقدم العالمي.
روسيا المقاتلة اليوم، في توسعها العالمي، ليست ـــ ولن تكون إمبريالية؛ فالنظرية اللينينية القائلة بأن الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، وجدناها تندحر أمام التجربة الصينية، مثلما ستندحر أمام التجربة الروسية؛ أولاً، لأن هاتين القوتين ـــ في المدى المنظور ـــ تدافعان عن مصالحهما ووجودهما ودورهما في مواجهة العدوان الإمبريالي الأميركي الغربي، وثانياً، لأنه اتضح أنّ من غير الممكن تفسير السياسة الدولية بالبعد الاقتصادي بالدرجة الأولى؛ فالتقاليد القومية، والثقافة، وروح الأمة، والتعقيدات المتداخلة في السياسة الدولية، كلها تؤدي أدواراً متضافرة في إمكانية تحوّل التوسع الرأسمالي والمنافسة على الاستقطاب الدولي، إلى سياسات إمبريالية أو لا. فقد بدأت الصين، منذ 1990، بالتوسع المتدرج على اقتصاد الطاقة العالمي، وحققت إنجازات مثيرة، من دون أن تطلق طلقة واحدة، ومن دون مؤامرات ولا استعمار ولا تهديدات، بل استناداً إلى ثقافة السلام والحلول الوسط المنبثقة من قلب الحضارة الصينية؛ أما روسيا، المضطرة، جراء احتدام الهجمة الإمبريالية على أمنها، لعرض قوتها الكبرى، واستخدامها، حينما يلزم، للردع، فإن روحها الحضاري يلزمها بنبذ ازدواجية المعايير والتزام القانون الدولي؛ حدث ذلك في سوريا وأوكرانيا؛ ففي الحالتين، واجه البلدان تمرداً رجعياً إجرامياً مدعوماً من الغرب ـــ على اختلاف الرايتين: الفاشية الدينية في سوريا والفاشية الجديدة في أوكرانيا ـــ وفي العمق، استهدف التمردان ضرب مصالح روسيا الدولية، ومنعها من التحول إلى قطب عالمي.
11 ألف ضابط وجندي وطيار وتقني ـــ وأسلحة حديثة جداً هي بعض ما يمكن الكشف عنه منها ـــ قدّموا عرضاً قيصرياً ـــ سوفياتياً درامياً بكل المهابة المميزة للحظات المجد الكبرى في تاريخ روسيا؛ الرسالة، بحد ذاتها، واضحة تماما، إلاً أن الرفيق بوتين، في أمر العمليات، كان صارماً: النصر على النازية لم يطمره التاريخ؛ نتذكره، سنظل نتذكره جيلاً وراء جيل؛ وفي قلب الكلمات تصويب على الواقع: النازية تولد من جديد، نازية معادية للروس والبريكس والتعددية القطبية؛ وإذا كان «الرايخ» النازي هو مطلقها في الثلاثينيات والأربعينيات، فإن الولايات المتحدة الأميركية هي التي تقف وراءها اليوم. ومثلما تزوّد واشنطن، عصابات الفاشية الدينية في سوريا بالدعم السياسي والتسليحي، فهي تفعل الشيء نفسه مع عصابات القطاع الأيمن في أوكرانيا، وغداً في المحيط السوفياتي السابق لروسيا الاتحادية، وربما في داخلها مستخدمة عصابات التكفير الشيشانية ونشر التكفير والسلاح وثقافة الدمار في روسيا المسلمة، امتداداً إلى روسيا كلها.
هكذا، نفهم كل ذلك المجد المتحدي في استعراض موسكو: شعبنا داخل الحدود وخارجها، موحدٌ، وجيشنا جاهز
المصدر :
ناهض حتر
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة