مرحلة جديدة ستعيشها سوريا، بعودة المناطق «الثائرة» إلى سيطرة الدولة، تباعاً. قلعة الحصن بحلتها الجديدة في حماية الجيش، بعد هروب المسلحين إلى الحدود اللبنانية، فيما أبناء القرية النازحون في طول البلاد وعرضها استغلوا الفرصة للعودة أخيراً

الكثير من السيارات تشدّ الرحال إلى قلعة الحصن الأثرية (ريف حمص الغربي). ولكلّ زائر هدفه. القلعة التي كانت مقصد السيّاح، وقِبلة الرحلات المدرسية طوال عقود، عادت إلى الواجهة بعد غياب طويل خارج سيطرة الدولة السورية. من قرية الشواهد تبدو القلعة رابضة بهيبة، برغم الحرب التي دارت قربها وداخل أسوارها، وفي القرى المتمردة من حولها.

في نقطة محددة من أوتوستراد حمص ـــ طرطوس الدولي، يتوقف الدليل ليشير إلى الحدود اللبنانية التي تبعد أقل من كيلومترين غرباً. «عبر هذا الطريق هرب المسلحون» يقول الدليل. تبدو البيوت البلاستيكية في الأراضي اللبنانية، أقرب إلى قاصدي طرطوس، من تجمّع قرى وادي النصارى السورية شرقي الأوتوستراد. إلا أن هذا القرب الذي استغله المهربون في الماضي لعبورهم وتهريب بضائعهم، واستثمر خلال الحرب السورية لعبور المقاتلين وأسلحتهم، لم يعد يجدي نفعاً، أقله في المرحلة الحالية. قرية الشواهد كناية عن تجمع صغير من المنازل على تلّة منخفضة. الدخان لا يزال يتصاعد من البيوت على التلال المواجهة، خلال عمليات تمشيط ما زالت مستمرة. سيارات مقلوبة على الطريق، عائدة إلى المسلحين الذين أحرقوها قبل الهرب، منعاً من استفادة الجيش منها.

يمكن رؤية أفواج الزائرين من التلال القريبة يؤمّون القلعة الكبيرة. البعض يزورها بدافع الفضول، والبعض الآخر يدفعه الشوق. فالقلعة التي احتضنت مهرجانات وفعاليات فنية وثقافية حاضرة في وجدان السوريين.

الحجارة الصامدة والمسلحون الهاربون

الإعلاميون يهرعون إلى العسكريين للحصول على معلومات إضافية، فيما يسارع زوار القلعة إلى صعود الدرجات باتجاه باب القلعة الرئيسي، فيدخلونها بخشوع، وعيون بعضهم تفيض بالدموع. الكثير من الأسلاك المقطّعة على أرض القلعة المميزة بحجارتها الغامقة اللون. جميعها كانت متصلة بعبوات ناسفة جرى تفكيكها.

نفق يفاجئ الزوار، بسبب الركام الهائل في طرفه. لا يمكن التثبت إن كان الركام جرّاء القصف، كما أشاع المسلحون في تسجيلاتهم المصورة، أم هو موجود قبل الحرب. «صحيح أن هذه الأنفاق تعود إلى العهد الروماني؟»، يأتي الجواب، مؤكّداً الأمر. «صحيح أنها تصل إلى الأراضي اللبنانية؟». تلوح ابتسامات الجنود، قبل أن يتبرع أحدهم بالنفي، إذ إن هذه الأنفاق مغلقة، وكان يستخدمها المسلحون في التخفي، برغم محاولاتهم استكمال الحفر داخلها، إلا أنها يمكن أن تصل إلى مزارع خارج القلعة لا أكثر، حسب تعبيره. أحد جنود «كتائب البعث»، من أبناء القرى المجاورة، يؤكد أن بعض المسلحين الفارين، يتخفون في الأراضي الزراعية، بحثاً عن وسيلة للوصول إلى الأراضي اللبنانية، بعد الكمين الأخير الذي تسبب في مقتل 50 منهم. الوصول إلى ساحة الذبح في أعلى القرية، يثير أشجان الجنود. فهُنا ذبح المسلحون رفاقهم، من عناصر الأمن العسكري، وقد وثقوا العملية في تسجيلات مصورة.

حمّام ومكتبة... ومخلّفات الثوّار

العثور على أحد المهاجع يعطي صورة واضحة عن حياة سكان القلعة السابقين. مهجع كبير، ذو رائحة نتنة، فيه الكثير من الملابس النسائية والبزّات العسكرية. في آخره مكتبة تحتوي على بعض الكتب الدينية، وكتيّبات لـ «علماء المسلمين» من مكة المكرمة، تحتوي على بعض الفتاوى. شفرات للحلاقة متناثرة أرضاً، فيما الكثير من بطاقات اتصالات لبنانية هنا وهناك. في طرف المهجع ستارة على الأرض، كانت تستخدم لفصل ركن من المكان عن قاطنيه، بغرض الاستحمام. عدّة الاستحمام كاملة في تلك الزاوية. والكثير من الملابس، وعليها بقع عائدة لأدوية التعقيم المستخدمة في علاج الجروح. تفاصيل صغيرة تشي بحياة كاملة عاشها المسلحون وذووهم، بوداعة تجعلهم يقيمون رجالاً ونساء في بهو واحد، ضمن قلعة عظيمة تتسع أركانها الكثيرة لآلاف المقيمين. آثار الرصاص على الجدران متماهية مع الحجارة العتيقة التي تحصن خلفها المسلحون، وفيها فتحات منذ مئات السنين لرصد الأراضي والتلال المحيطة، إلا أن إرادة مسلحيها لم تصل حدّ الصمود. يعزو أحد العسكريين ذلك إلى جنسياتهم الغريبة. فيما يستدرك آخر قائلاً: «لا إرادة لمن لا قضية له». الكثير من مدافع الهاون منتصبة عند السور الخلفي من القلعة التي استخدمها المسلحون بحسب أحد الجنود، لقصف وادي النصارى.

المدنيون.. يعودون

يقف فيصل، ابن قرية الحصن، على أعلى نقطة في القلعة. يلوّح بطريقة هستيرية إلى حيث يقع بيته في الأسفل. تغافله دمعته، حين يقول: «لم يعد لديّ منزل هُنا. تركتُه ونزحتُ مع عائلتي إلى طرطوس، منذ سيطر المسلحون الغرباء على القرية. استأجرتُ منزلاً وعشتُ في أسوأ الظروف». ويضيف الشاب الثلاثيني: «بمجرد إعلان الجيش قريتي آمنةً، أتيتُ بزوجتي وإخوتي لنزورها، ونطّلع على الأوضاع. لا منزل أعود إليه، إذ نال نصيبه من القذائف، إلا أنني مستعد للعودة للسكن في خيمة». شقيقته الصغيرة تردد كلمات يقولها الموالون للنظام عادة، وتقول: «المسلحون هجّرونا». وعن موعد عودتهم للاستقرار في القرية، يؤكد معظم المدنيين أن عودة الخدمات إليها هي التي تحدد الموعد. مدنيون آخرون عائدون من النزوح، يستمتعون باكتشاف قلعتهم بحلّتها الجديدة. يزيحون الأسلاك المعدنية، ويبحثون عن الذخائر وبقايا الرصاص والقذائف. غريبة القلعة عنهم بتاريخها الجديد من العنف.

  • فريق ماسة
  • 2014-03-21
  • 12983
  • من الأرشيف

قلعة الحصن تستقبل الزوار بحلّتها الجديدة

مرحلة جديدة ستعيشها سوريا، بعودة المناطق «الثائرة» إلى سيطرة الدولة، تباعاً. قلعة الحصن بحلتها الجديدة في حماية الجيش، بعد هروب المسلحين إلى الحدود اللبنانية، فيما أبناء القرية النازحون في طول البلاد وعرضها استغلوا الفرصة للعودة أخيراً الكثير من السيارات تشدّ الرحال إلى قلعة الحصن الأثرية (ريف حمص الغربي). ولكلّ زائر هدفه. القلعة التي كانت مقصد السيّاح، وقِبلة الرحلات المدرسية طوال عقود، عادت إلى الواجهة بعد غياب طويل خارج سيطرة الدولة السورية. من قرية الشواهد تبدو القلعة رابضة بهيبة، برغم الحرب التي دارت قربها وداخل أسوارها، وفي القرى المتمردة من حولها. في نقطة محددة من أوتوستراد حمص ـــ طرطوس الدولي، يتوقف الدليل ليشير إلى الحدود اللبنانية التي تبعد أقل من كيلومترين غرباً. «عبر هذا الطريق هرب المسلحون» يقول الدليل. تبدو البيوت البلاستيكية في الأراضي اللبنانية، أقرب إلى قاصدي طرطوس، من تجمّع قرى وادي النصارى السورية شرقي الأوتوستراد. إلا أن هذا القرب الذي استغله المهربون في الماضي لعبورهم وتهريب بضائعهم، واستثمر خلال الحرب السورية لعبور المقاتلين وأسلحتهم، لم يعد يجدي نفعاً، أقله في المرحلة الحالية. قرية الشواهد كناية عن تجمع صغير من المنازل على تلّة منخفضة. الدخان لا يزال يتصاعد من البيوت على التلال المواجهة، خلال عمليات تمشيط ما زالت مستمرة. سيارات مقلوبة على الطريق، عائدة إلى المسلحين الذين أحرقوها قبل الهرب، منعاً من استفادة الجيش منها. يمكن رؤية أفواج الزائرين من التلال القريبة يؤمّون القلعة الكبيرة. البعض يزورها بدافع الفضول، والبعض الآخر يدفعه الشوق. فالقلعة التي احتضنت مهرجانات وفعاليات فنية وثقافية حاضرة في وجدان السوريين. الحجارة الصامدة والمسلحون الهاربون الإعلاميون يهرعون إلى العسكريين للحصول على معلومات إضافية، فيما يسارع زوار القلعة إلى صعود الدرجات باتجاه باب القلعة الرئيسي، فيدخلونها بخشوع، وعيون بعضهم تفيض بالدموع. الكثير من الأسلاك المقطّعة على أرض القلعة المميزة بحجارتها الغامقة اللون. جميعها كانت متصلة بعبوات ناسفة جرى تفكيكها. نفق يفاجئ الزوار، بسبب الركام الهائل في طرفه. لا يمكن التثبت إن كان الركام جرّاء القصف، كما أشاع المسلحون في تسجيلاتهم المصورة، أم هو موجود قبل الحرب. «صحيح أن هذه الأنفاق تعود إلى العهد الروماني؟»، يأتي الجواب، مؤكّداً الأمر. «صحيح أنها تصل إلى الأراضي اللبنانية؟». تلوح ابتسامات الجنود، قبل أن يتبرع أحدهم بالنفي، إذ إن هذه الأنفاق مغلقة، وكان يستخدمها المسلحون في التخفي، برغم محاولاتهم استكمال الحفر داخلها، إلا أنها يمكن أن تصل إلى مزارع خارج القلعة لا أكثر، حسب تعبيره. أحد جنود «كتائب البعث»، من أبناء القرى المجاورة، يؤكد أن بعض المسلحين الفارين، يتخفون في الأراضي الزراعية، بحثاً عن وسيلة للوصول إلى الأراضي اللبنانية، بعد الكمين الأخير الذي تسبب في مقتل 50 منهم. الوصول إلى ساحة الذبح في أعلى القرية، يثير أشجان الجنود. فهُنا ذبح المسلحون رفاقهم، من عناصر الأمن العسكري، وقد وثقوا العملية في تسجيلات مصورة. حمّام ومكتبة... ومخلّفات الثوّار العثور على أحد المهاجع يعطي صورة واضحة عن حياة سكان القلعة السابقين. مهجع كبير، ذو رائحة نتنة، فيه الكثير من الملابس النسائية والبزّات العسكرية. في آخره مكتبة تحتوي على بعض الكتب الدينية، وكتيّبات لـ «علماء المسلمين» من مكة المكرمة، تحتوي على بعض الفتاوى. شفرات للحلاقة متناثرة أرضاً، فيما الكثير من بطاقات اتصالات لبنانية هنا وهناك. في طرف المهجع ستارة على الأرض، كانت تستخدم لفصل ركن من المكان عن قاطنيه، بغرض الاستحمام. عدّة الاستحمام كاملة في تلك الزاوية. والكثير من الملابس، وعليها بقع عائدة لأدوية التعقيم المستخدمة في علاج الجروح. تفاصيل صغيرة تشي بحياة كاملة عاشها المسلحون وذووهم، بوداعة تجعلهم يقيمون رجالاً ونساء في بهو واحد، ضمن قلعة عظيمة تتسع أركانها الكثيرة لآلاف المقيمين. آثار الرصاص على الجدران متماهية مع الحجارة العتيقة التي تحصن خلفها المسلحون، وفيها فتحات منذ مئات السنين لرصد الأراضي والتلال المحيطة، إلا أن إرادة مسلحيها لم تصل حدّ الصمود. يعزو أحد العسكريين ذلك إلى جنسياتهم الغريبة. فيما يستدرك آخر قائلاً: «لا إرادة لمن لا قضية له». الكثير من مدافع الهاون منتصبة عند السور الخلفي من القلعة التي استخدمها المسلحون بحسب أحد الجنود، لقصف وادي النصارى. المدنيون.. يعودون يقف فيصل، ابن قرية الحصن، على أعلى نقطة في القلعة. يلوّح بطريقة هستيرية إلى حيث يقع بيته في الأسفل. تغافله دمعته، حين يقول: «لم يعد لديّ منزل هُنا. تركتُه ونزحتُ مع عائلتي إلى طرطوس، منذ سيطر المسلحون الغرباء على القرية. استأجرتُ منزلاً وعشتُ في أسوأ الظروف». ويضيف الشاب الثلاثيني: «بمجرد إعلان الجيش قريتي آمنةً، أتيتُ بزوجتي وإخوتي لنزورها، ونطّلع على الأوضاع. لا منزل أعود إليه، إذ نال نصيبه من القذائف، إلا أنني مستعد للعودة للسكن في خيمة». شقيقته الصغيرة تردد كلمات يقولها الموالون للنظام عادة، وتقول: «المسلحون هجّرونا». وعن موعد عودتهم للاستقرار في القرية، يؤكد معظم المدنيين أن عودة الخدمات إليها هي التي تحدد الموعد. مدنيون آخرون عائدون من النزوح، يستمتعون باكتشاف قلعتهم بحلّتها الجديدة. يزيحون الأسلاك المعدنية، ويبحثون عن الذخائر وبقايا الرصاص والقذائف. غريبة القلعة عنهم بتاريخها الجديد من العنف.

المصدر : الأخبار /مرح ماشي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة