دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
هكذا تكون الإمبراطورية العظمى قد هرُمت ويكون نجمها قد بدأ بالأفول، وهي حال الولايات المتحدة الأميركية وفقاً لتوصيف أبو التاريخ ابن خلدون، فأفول الأمم يبدأ عندما تصير حروبها لردّ الاعتبار، ولا يعود لتهديداتها حساب. تخطّت واشنطن حروب رد الاعتبار عندما أرسلت أساطيلها للحرب على سورية وسحبتها من دون أن تحارب، كحال الفارس الذي يصاب بالشيخوخة عندما يستلّ سيفه ويعيده إلى غمده من دون أن يطعن خصمه، وبلغت واشنطن حال التهديدات الـ «بلا قيمة» مع كلٍ من استفتاء القرم ومعركة يبرود، بعدما قال وزير خارجيتها في الحالتين، إن حكومته لن تقف مكتوفة الأيدي ملوحاً باللجوء إلى القوة العسكرية.
في القرم تم الاستفتاء على مستقبل شبه الجزيرة بعد محاولة فاشلة في مجلس الأمن لوصف العملية باللاقانونية، أسقطها الفيتو الروسي، وجاءت النتيجة 93 في المئة مع الانضمام مجدداً إلى روسيا بمشاركة 70 في المئة من المقترعين، ومثلما كانت القرم التي تمثّل عاصمة البحر الأسود وتقرّر ميزان الثقل بين الدول المطلّة عليه تابعة لروسيا منذ عام 1771، حتى منحها الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف لأوكرانيا عام 1954، صار أمر عودتها روسيّة رسمياً متوقفاً على تعامل موسكو مع مقر أسطولها على سواحل القرم، وهل ستكتفي بتثبيت انفصالها عن أوكرانيا كدولة مستقلة أم ستفكر جدياً بضمها؟
لم يعد مهماً التفصيل بعد الاستفتاء وحسم هوية القرم خارج التبعية لكييف، بانتظار تسوية كبرى تطاول كل المستقبل الأوكراني، فأغلب التقديرات المتداولة في موسكو تشير إلى رغبة الكرملين بالحفاظ على خصوصية القرم، التي احتوت قمة يالطا المدينة الشهيرة على البحر الأسود، والاكتفاء بجعلها تحت الحماية الروسية إذا تعرّضت لأي ضغوط.
عاصمة البحر الأسود... تغيير جيواستراتيجي كبير في التوازنات الأوروبية، لم يكن في الحساب، ولن يكون بمقدور أميركا وأوروبا تغيير القواعد الجديدة للعبة التي فرضتها موسكو، وصار فيها تقسيم اوكرانيا بداية لتقسيم دول أوروبا، وكل عقوبات اقتصادية سيقابلها مثلها على الأقل في ميدان الطاقة بالنسبة لإمداد أوروبا بالغاز الروسي، ومالية في ميدان اعتماد الدولار أو اليورو لمبيعات روسيا من الغاز والنفط.
في يوم حسم يالطا عاصمة للبحر الأسود، هبّت عاصفة البحر المتوسط في يبرود، فكل التوازنات المقرّرة لمعادلات القوة تمركزت هناك بين المشروعين المتقاتلين منذ ثلاث سنوات على الأرض السورية، المشروع الممتد إلى واشنطن مروراً بالرياض والدوحة وأنقرة، والمشروع الممتد من موسكو إلى طهران ودمشق، والمشروعان عابران للبنان وممثلان في حكومته، وبينما تقف تل أبيب في الظل جاهزة للدخول على الخط عند الضرورة، تقف المقاومة في الخندق المقابل وتتحول مشاركتها في القتال إلى قضية لبنانية إقليمية دولية، لكنها هم «إسرائيلي» بامتياز.
عاصفة المتوسط التي ترسم توازنات ما بين الفرات والنيل، وفي قلبها مستقبل «إسرائيل»، تأتي في يبرود بعد حرب غزة الفاشلة التي خاضتها حكومة نتنياهو لتحصد جائزة ترضية قبل تبلور المشهد الأخير من الصراع، وكان حلف المقاومة لها بالمرصاد عبر ما أعدته وفاجأت به حركة الجهاد الإسلامي، وبعدما فشلت محاولات تغيير قواعد الاشتباك مع المقاومة في غارة جنتا التي تلتها صواريخ جبل الشيخ مرة وعبوة حلتا في مزارع شبعا مرة ثانية، فتبدو المفاوضات الفلسطينية ـ «الإسرائيلية» التي تشكّل حلم جون كيري قبل نهاية العام وقد أصيبت بالشلل والطريق مسدودة، مع شحنة القوة التي تضخ في شرايين وجسد قوى المقاومة بعد معركة يبرود.
عاصفة المتوسط تأتي بعدما استنفدت السعودية محاولات تعويم مكانتها الإقليمية سواء بالتصعيد ضد قطر والإخوان، أو بالتمهيد لنصف خسارة في سورية بتصنيف داعش والنصرة على لوائح الإرهاب، لحصر الدعم بالجبهة الإسلامية التي تلقّت الضربة الأولى في يبرود، وتنتظر نهايتها الحاسمة في عدرا.
عاصفة المتوسط تأتي بعد ولادة البيان الوزاري للحكومة اللبنانية محتضناً حق المقاومة، رغم محاولات الخداع الكتائبية للترويج لأكذوبة سقوط جملة منه سهواً تقيد المقاومة، في محاولة لتبرير عجز الحزب عن الخروج من حكومة قال إن وزراءه لن يبقوا فيها يوماً، إذا وردت في بيانها كلمة مقاومة بلا مرجعية الدولة.
يبرود تحسم هوية التطورات المقبلة، بعدما صار واضحاً أن مستقبل سورية العسكري سيتدحرج من نصر إلى نصر، فالمنطقة المركزية من سورية ستكون بقبضة الجيش السوري تدرّجاً، من قلعة الحصن إلى أطراف درعا ومن مطار حلب إلى القنيطرة، وضمناً حمص وحماة ودمشق مدناً وريفاً، والساحل وصولاً لإدلب، وتبقى معارك القشرة الحدودية بعد حلب ودرعا، ومهما طالت فهي محسومة الاتجاه والمصير.
«إحسم نصرك في يبرود» هي المعادلة التي لا يمكن إنكارها، فثمّة حلف دولي إقليمي سوري ـ لبناني يحسم اليوم نصره.
إنجاز يبرود خسارة للتكفيريين والمراهنين عليهم
المصدر :
البناء
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة