ما زالت بلدة مركدة في ريف الحسكة الجنوبي تعيش منذ شهر تقريباً تحت وطأة الاشتباكات الدائرة بين «جبهة النصرة» وكتائب تابعة لـ«الجيش الحر» و«الجبهة الإسلامية» من جهة، وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) من جهة ثانية.

وإذا كانت تسمية مركدة تعود في معناها إلى الرقود، حيث رقد بها الأرمن الرقود السرمدي، بعد «مجزرة» العام 1915 التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن، بعدما نقلتهم من داخل الأراضي التركية إلى مدينة دير الزور لتقوم بتصفيتهم في مجزرة دموية لا يزال الأرمن يستذكرونها كل عام، فإن التاريخ يكاد يعيد نفسه في هذه البلدة التي تشهد هذه الأيام مذبحة «جهادية» بالغة الوحشية، قد لا تقل دموية ووحشية عن المجزرة التي أوقعها العثمانيون بالأرمن قبل مئة عام تقريباً. ويبقى الشبه الأبرز بين المذبحتين أنهما ارتكبتا وترتكبان باسم الدين.

وتتمتع مركدة بموقع جغرافي استراتيجي، فهي أولاً تقع على ضفاف نهر الخابور وثانياً على الطريق الرئيسي الواصل بين الحسكة ودير الزور، حيث يقسمها الطريق إلى قسمين شرقي وغربي، الأمر الذي يتيح لمن يسيطر عليها التحكم بخطوط الإمداد والمواصلات بين المحافظتين. وقد يكون هذا الموقع الاستراتيجي هو ما يدفع الفصائل المتحاربة إلى الاستماتة في القتال من أجل السيطرة على البلدة وطرد الآخرين منها.

وتبدو «جبهة النصرة» أكثر استماتة في القتال من أجل السيطرة على البلدة، لأن سيطرة «داعش» على مركدة، التي لا تبعد سوى 60 كيلومترا عن دير الزور بينما تبعد 110 كيلومترات عن مدينة الحسكة، تشكل كابوساً بالنسبة لقيادة «النصرة»، فهي تعني أن دير الزور ستصبح محاصرة، وتغدو جميع خطوط الإمداد والمواصلات بينها وبين المحافظات المجاورة، مثل حلب والحسكة والرقة، إما مقطوعة أو غير آمنة.

وعلاوة على تأثير ذلك على تجارة النفط، فإن الخشية الحقيقية هي على قيادة «النصرة»، التي يعتقد أن زعيمها أبو محمد الجولاني و«مفتيها العام» أبو ماريا القحطاني موجودان في دير الزور. وقد يشكل الحصار مناخاً ملائماً للوصول إليهما وتصفيتهما، لا سيما بعد المخاوف التي أثارها مقتل أبو خالد السوري ودلالته على عدم وجود خطوط حمراء أو محرمات تمنع قتل أي شخص مهما بلغت أهميته ورمزيته.

إنها «حرب انتحارية» بكل ما في الكلمة من معنى، وكل طرف يستقدم تعزيزات إضافية، حتى لا تتوقف طاحونة الحرب عن حصاد الأرواح وهدر الدماء. «جبهة النصرة» تأتي بالتعزيزات من أبناء مدينة دير الزور، ولا سيما مدينة الشحيل التي دفعت الثمن الأكبر لهذه الحرب الانتحارية، أما «داعش» فإنه يأتي بها من مدينة الشدادي بريف الحسكة، إضافة إلى مقاتليه الذين انسحبوا من دير الزور، وهم من أبنائها، وذلك بعد الهجوم المضاد الذي شنته عليه «جبهة النصرة» في وقت سابق، وسيطرت من خلاله على معظم مقاره وحواجزه، فاضطر إلى الانسحاب من معظم مناطق دير الزور. وكان على رأس المنسحبين «والي داعش» في دير الزور عمر الرفدان.

وتفيد الأنباء الواردة من أرض المعركة أن مئات القتلى سقطوا من الجانبين خلال الأيام الماضية. وفي بعض التقديرات يصل الرقم إلى 300 قتيل منذ اسبوع واحد، بينهم 200 من «جبهة النصرة» التي ينتمي غالبية مقاتليها إلى دير الزور.

ويوم أمس الأول أرسلت «النصرة» رتلاً مكوناً من حوالي 75 مقاتلاً، جميعهم من أبناء دير الزور، مع عدد من الدبابات في محاولة للسيطرة على محطة المياه والصوامع، حيث تعرض الرتل الى كمين محكم أعده عناصر «داعش» الذين كانوا يتحصنون في المكان. وقد أكدت مصادر ميدانية، لـ«السفير»، أن رتل «النصرة» أبيد عن بكرة أبيه، ولم يبق أحد منه على قيد الحياة، واستولى عناصر «داعش» على الآليات والدبابات.

وقبل ذلك بأيام، وتحديداً في 28 شباط الماضي، تعرض رتل لـ«داعش»، مكون من 7 آليات «بيك آب» الى كمين مماثل، حيث فخخ عناصر «النصرة» الطريق الذي يفترض أن يمر عليه الرتل وفجروا الآليات. وذكرت مصادر «جبهة النصرة» حينها أن حوالي خمسين عنصراً من «داعش» قتلوا في هذا الكمين.

والجدير بالذكر أن قتلى «جبهة النصرة» ليسوا فقط أكثر عدداً من قتلى «داعش»، لكنهم أيضاً أكثر أهمية، فقد فقدت «النصرة» خلال الأسابيع الماضية عدداً من كبار قادتها و«أمرائها» الشرعيين والعسكريين، أبرزهم: يوسف الهجر (أبو مؤيد) وهو من مؤسسي «جبهة النصرة» وأحد أبرز قادتها العسكريين، إضافة إلى انتمائه إلى قبيلة الهجر المعروفة بانتماء العديد من أبنائها إلى تيار السلفية «الجهادية»، ووليد الأجدع (أبو مخلف) قائد «جيش مؤتة» المبايع للجبهة، وعلي حمد سعيد الهجر (أبو الحسن) وهو «أمير شرعي» في دير الزور، وكذلك عبدالله حمزة وأحمد الصالح أبو الجود، ومعظم هؤلاء من مدينة الشحيل، وغيرهم عشرات.

وما زالت الاشتباكات مستمرة بين الطرفين، رغم العدد الهائل من القتلى، في ظل تضارب الأنباء حول النتائج الأخيرة للمعركة، إذ تؤكد «جبهة النصرة» أنها حققت تقدماً في البلدة، وأنها أصبحت تسيطر على 70 في المئة من مساحتها، بينما يؤكد «داعش» أنه صد ثلاث محاولات من الجبهة لاقتحام البلدة والسيطرة عليها، وأنه ما زال يسيطر على معظم مساحة البلدة.

ومن المتوقع أن تشهد البلدة المزيد من المعارك العنيفة خلال الأيام المقبلة، لا سيما أنها تكاد تكون النقطة الساخنة الوحيدة بين «النصرة» و«داعش»، وعليها بالتالي أن تتحمل حرارة أحقاد ومواقف كل منهما تجاه الآخر.

  • فريق ماسة
  • 2014-03-06
  • 11268
  • من الأرشيف

«الديريون» وقود حرب انتحارية بين «النصرة» و«داعش»

ما زالت بلدة مركدة في ريف الحسكة الجنوبي تعيش منذ شهر تقريباً تحت وطأة الاشتباكات الدائرة بين «جبهة النصرة» وكتائب تابعة لـ«الجيش الحر» و«الجبهة الإسلامية» من جهة، وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) من جهة ثانية. وإذا كانت تسمية مركدة تعود في معناها إلى الرقود، حيث رقد بها الأرمن الرقود السرمدي، بعد «مجزرة» العام 1915 التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن، بعدما نقلتهم من داخل الأراضي التركية إلى مدينة دير الزور لتقوم بتصفيتهم في مجزرة دموية لا يزال الأرمن يستذكرونها كل عام، فإن التاريخ يكاد يعيد نفسه في هذه البلدة التي تشهد هذه الأيام مذبحة «جهادية» بالغة الوحشية، قد لا تقل دموية ووحشية عن المجزرة التي أوقعها العثمانيون بالأرمن قبل مئة عام تقريباً. ويبقى الشبه الأبرز بين المذبحتين أنهما ارتكبتا وترتكبان باسم الدين. وتتمتع مركدة بموقع جغرافي استراتيجي، فهي أولاً تقع على ضفاف نهر الخابور وثانياً على الطريق الرئيسي الواصل بين الحسكة ودير الزور، حيث يقسمها الطريق إلى قسمين شرقي وغربي، الأمر الذي يتيح لمن يسيطر عليها التحكم بخطوط الإمداد والمواصلات بين المحافظتين. وقد يكون هذا الموقع الاستراتيجي هو ما يدفع الفصائل المتحاربة إلى الاستماتة في القتال من أجل السيطرة على البلدة وطرد الآخرين منها. وتبدو «جبهة النصرة» أكثر استماتة في القتال من أجل السيطرة على البلدة، لأن سيطرة «داعش» على مركدة، التي لا تبعد سوى 60 كيلومترا عن دير الزور بينما تبعد 110 كيلومترات عن مدينة الحسكة، تشكل كابوساً بالنسبة لقيادة «النصرة»، فهي تعني أن دير الزور ستصبح محاصرة، وتغدو جميع خطوط الإمداد والمواصلات بينها وبين المحافظات المجاورة، مثل حلب والحسكة والرقة، إما مقطوعة أو غير آمنة. وعلاوة على تأثير ذلك على تجارة النفط، فإن الخشية الحقيقية هي على قيادة «النصرة»، التي يعتقد أن زعيمها أبو محمد الجولاني و«مفتيها العام» أبو ماريا القحطاني موجودان في دير الزور. وقد يشكل الحصار مناخاً ملائماً للوصول إليهما وتصفيتهما، لا سيما بعد المخاوف التي أثارها مقتل أبو خالد السوري ودلالته على عدم وجود خطوط حمراء أو محرمات تمنع قتل أي شخص مهما بلغت أهميته ورمزيته. إنها «حرب انتحارية» بكل ما في الكلمة من معنى، وكل طرف يستقدم تعزيزات إضافية، حتى لا تتوقف طاحونة الحرب عن حصاد الأرواح وهدر الدماء. «جبهة النصرة» تأتي بالتعزيزات من أبناء مدينة دير الزور، ولا سيما مدينة الشحيل التي دفعت الثمن الأكبر لهذه الحرب الانتحارية، أما «داعش» فإنه يأتي بها من مدينة الشدادي بريف الحسكة، إضافة إلى مقاتليه الذين انسحبوا من دير الزور، وهم من أبنائها، وذلك بعد الهجوم المضاد الذي شنته عليه «جبهة النصرة» في وقت سابق، وسيطرت من خلاله على معظم مقاره وحواجزه، فاضطر إلى الانسحاب من معظم مناطق دير الزور. وكان على رأس المنسحبين «والي داعش» في دير الزور عمر الرفدان. وتفيد الأنباء الواردة من أرض المعركة أن مئات القتلى سقطوا من الجانبين خلال الأيام الماضية. وفي بعض التقديرات يصل الرقم إلى 300 قتيل منذ اسبوع واحد، بينهم 200 من «جبهة النصرة» التي ينتمي غالبية مقاتليها إلى دير الزور. ويوم أمس الأول أرسلت «النصرة» رتلاً مكوناً من حوالي 75 مقاتلاً، جميعهم من أبناء دير الزور، مع عدد من الدبابات في محاولة للسيطرة على محطة المياه والصوامع، حيث تعرض الرتل الى كمين محكم أعده عناصر «داعش» الذين كانوا يتحصنون في المكان. وقد أكدت مصادر ميدانية، لـ«السفير»، أن رتل «النصرة» أبيد عن بكرة أبيه، ولم يبق أحد منه على قيد الحياة، واستولى عناصر «داعش» على الآليات والدبابات. وقبل ذلك بأيام، وتحديداً في 28 شباط الماضي، تعرض رتل لـ«داعش»، مكون من 7 آليات «بيك آب» الى كمين مماثل، حيث فخخ عناصر «النصرة» الطريق الذي يفترض أن يمر عليه الرتل وفجروا الآليات. وذكرت مصادر «جبهة النصرة» حينها أن حوالي خمسين عنصراً من «داعش» قتلوا في هذا الكمين. والجدير بالذكر أن قتلى «جبهة النصرة» ليسوا فقط أكثر عدداً من قتلى «داعش»، لكنهم أيضاً أكثر أهمية، فقد فقدت «النصرة» خلال الأسابيع الماضية عدداً من كبار قادتها و«أمرائها» الشرعيين والعسكريين، أبرزهم: يوسف الهجر (أبو مؤيد) وهو من مؤسسي «جبهة النصرة» وأحد أبرز قادتها العسكريين، إضافة إلى انتمائه إلى قبيلة الهجر المعروفة بانتماء العديد من أبنائها إلى تيار السلفية «الجهادية»، ووليد الأجدع (أبو مخلف) قائد «جيش مؤتة» المبايع للجبهة، وعلي حمد سعيد الهجر (أبو الحسن) وهو «أمير شرعي» في دير الزور، وكذلك عبدالله حمزة وأحمد الصالح أبو الجود، ومعظم هؤلاء من مدينة الشحيل، وغيرهم عشرات. وما زالت الاشتباكات مستمرة بين الطرفين، رغم العدد الهائل من القتلى، في ظل تضارب الأنباء حول النتائج الأخيرة للمعركة، إذ تؤكد «جبهة النصرة» أنها حققت تقدماً في البلدة، وأنها أصبحت تسيطر على 70 في المئة من مساحتها، بينما يؤكد «داعش» أنه صد ثلاث محاولات من الجبهة لاقتحام البلدة والسيطرة عليها، وأنه ما زال يسيطر على معظم مساحة البلدة. ومن المتوقع أن تشهد البلدة المزيد من المعارك العنيفة خلال الأيام المقبلة، لا سيما أنها تكاد تكون النقطة الساخنة الوحيدة بين «النصرة» و«داعش»، وعليها بالتالي أن تتحمل حرارة أحقاد ومواقف كل منهما تجاه الآخر.

المصدر : السفير/ عبد الله علي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة