لا تكاد خريطة المعارك في سورية تخلو من المناطق الاستراتيجية، على رغم أنّ التصنيفات المعتمدة لاعتبار منطقة ما ذات أهمية استراتيجية أم لا، يمكن أن تختلف وتتفاوت بحسب أهمية تلك المنطقة بالنسبة للأطراف المتقاتلة أو بحسب أولويتها في المعارك الدائرة لنواح عدة، منها قطع خطوط الامداد أو الإسناد، أو ارتفاعها وإشرافها على مناطق محيطة أو وقوعها على طريق دولي، إضافة إلى احتوائها معامل أو آبار نفط وغيرها الكثير.

والاستراتيجية بالمفهوم العسكري هي الخطة الحربية أو فنّ التخطيط للعمليات العسكرية قبل نشوب الحروب، وفن إدارة تلك العمليات عقب بدء الحرب. وتعكس الاستراتيجية الخطط المحدّدة مُسبقاً لتحقيق هدف معيّن على المدى البعيد في ضوء الامكانيات المتاحة، أو التي يمكن الحصول عليها، وهي خطط أو طرق توضع لتحقيق هدف معيّن على المدى البعيد اعتماداً على التخطيطات والإجراءات الأمنية في استخدام المصادر المتوافرة في المدى القصير.

وقد زخرت الحرب الدائرة بين الجيش السوري وحلفائه من الفصائل المقاتلة المنضوية معه تحت راية منظومة المقاومة في وجه أعداد لا تعدّ ولا تحصى من المسلحين الإرهابيين المدرّبين القادمين من كل أنحاء الأرض، بالكثير من المعارك التي أطلق عليها البعض صفة «الاستراتيجية»، رغم ابتعادها كثيراً عن هذا المفهوم الواضح.

فمعارك ريف اللاذقية الشمالي لا يمكن تصنيفها علمياً بـ»الاستراتيجية»، الا اذا اعتبرنا التطهير الطائفي أولوية استراتيجية، وكذلك معان في ريف حماه، ومعارك بلدة صدد أو معلولا أو عدرا العمالية أيضاً، لا يمكن اعتبارها استراتيجية، وحصار نبل والزهراء والفوعة كذلك، أو تدمير حاجز يحوي خمسة عناصر أو مبنى يحوي جنوداً، كذلك ليس بالنصر الاستراتيجي.

وقد دأب المسلحون على إطلاق صفة «الاستراتيجية» على أغلبية معاركهم، على رغم أنّ الكثير منها تكون من دون أي قيمة عسكرية أو استراتيجية.

وبناء على ما تقدم نجد خللاً كبيراً في استخدام هذا المصطلح، بما له من مدلولات غير مرغوبة كالظهور والخداع والتعظيم، إذا ما أضفنا كلمة استراتيجية لأي حديث بما يوحي به اللفظ من قدرة على التفكير وأهمية الهدف وأولويته ورفعة مستوى المتحدث.

في حين يعتمد الجيش السوري على التقدم بشكل مدروس ومخطط له بشكل مسبق ودقيق، وهذا ما بدا واضحاً منذ يوم انطلاق العمليات العسكرية الفعلية للجيش منذ ما يقارب السنة، بعد استيعابه للضربة الاولى مع بدء الأحداث في سورية.

وبالإضافة الى العمليات ذات الطابع الاستراتيجي التي ينفذها الجيش السوري، اضطر في بعض الأحيان الى الاستجابة السريعة لتطورات الميدان، والتركيز على معارك جانبية لا قيمة استراتيجية عسكرية لها، سوى الدافع الوطني والانساني وحماية المواطنين السوريين من هجمات الارهابيين، وقد أدت هذه الاستجابة السريعة في بعض الأحيان الى وقوع خسائر كبيرة في صفوفه نتيجة لعدم التخطيط المسبق للعملية.

وقد تركزت العمليات العسكرية الاستراتيجية للقوات المسلحة السورية، بالسيطرة على المناطق الحدودية التي تمدّ الإرهابيين بالعتاد والعديد، إضافة إلى تأمين الطرق الدولية الرئيسة التي تربط المحافظات وتأمين المرافق الحيوية، واستخدام عمليات القضم وتقسيم القطاعات العسكرية للمناطق المُراد السيطرة عليها.

وقد برزت في الفترة الأخيرة معركة استراتيجية فاصلة بكلّ ما للكلمة من معنى، هي معركة القلمون والتي بدت معالمها واضحة بعد سيطرة الجيش على مناطق قارة والنبك منذ شهرين، واضطراره إلى خوض معركة دير عطية كمعركة جانبية ذات طابع وطني نتيجة لتسلل المسلحين اليها خلال العملية العسكرية في النبك.

وقد سبق بداية المعركة بشكل جدي تحضيرات على المدى الطويل تمثلت بدخول الجيش على مرتفعات حلبون وتطويق مناطق رنكوس وبدا وتلفيتا، واستهداف مرتفعات الزبداني ومضايا بما تشكله من امتداد جغرافي لسلسلة جبال القلمون المحاذية للبنان، وتمركز الجيش على الطريق الدولي بين دمشق وحمص، وبدير الشيروبيم في صيدنايا، والسيطرة على مثلث النعيمات في ريف القصير الجنوبي، بالتوازي مع انطلاق عملية رديفة للقلمون تمثلت باستهداف منطقة الحصن في ريف حمص الشمالي، بما فيها من قرى الزارة والشويهد والحصرجية، وقطع خطوط الإمداد من لبنان باتجاه الحصن والداخل السوري.

وتعتبر هذه العمليات استكمالاً طبيعياً لمعركة القصير، والتي تهدف بالمحصلة الى إغلاق الحدود اللبنانية بشكل كامل أمام تدفق السلاح والمسلحين الى هذه المناطق، ومنها الى مناطق الداخل كأرياف دمشق ومناطق الريف الحمصي كالرستن وتلبيسة وريف حماه، ومناطق الساحل كبانياس وطرطوس.

وقد يعتبر البعض أنّ المعركة المنتظرة في عاصمة القلمون ـ يبرود، ستكون المعركة الفاصلة، إلا أنّ جغرافيا السلسلة الجبلية المعقدة تستوجب، معارك جانبية قد تكون أكثر أهمية من يبرود لناحية طرق الإمداد الى الداخل، فمعركة عسال الورد ورنكوس، ومنها الى الغوطة، ومن رنكوس الى جنوب القلمون في مضايا وما بينهما من مناطق، تعتبر أولوية لاستكمال الانتصار.

الا أنّ يبرود بما تمثله من قيمة معنوية للمجموعات الإرهابية، كما كانت القصير، وبما تحويه من أعداد مسلحين، قدّرتها مصادر عسكرية بنحو سبعة آلاف، موزّعين على تنظيمات ارهابية مختلفة أكبرها «جبهة النصرة»، قد يكون الانتصار فيها بداية لانهيار حصن القلمون من شماله الى جنوبه، وسيترك ذلك انعكاسات واضحة على معارك الريف الشمالي للعاصمة.

وقد بدأ الجيش السوري عمليته متجنّباً الدخول المباشر الى يبرود، واستهدفت وحداته المناطق المحيطة بالمدينة من الجراجير والسحل الى مزارع ريما باتجاه فليطا ورأس المعرة، مع تركيزها السيطرة على التلال المشرفة على الممرات الجبلية مع الحدود اللبنانية والكتل المرتفعة المطلة على الطرق الواصلة بين يبرود وبقية المناطق المحيطة، محاولة لضرب طوق مزدوج الأهداف، أولاً، قطع خطوط الدعم والإسناد للمسلحين من لبنان باتجاه المناطق المستهدفة وحماية خلفية قواته من أي التفاف أو دخول مسلحين من الحدود، ثانياً فرض طوق خانق على المنطقة المستهدفة واستنزاف المسلحين وذخيرتهم، ما قد يجنّب الجيش معركة قد تكون صعبة نتيجة لاستماتة المسلحين في القتال إذا ما أغلقت كافة خطوط الانسحاب في وجههم، ودفعهم للتفاوض والاستسلام.

وقد يكون تكتيك الجيش تركه أحد الطرق الفرعية الملزمة لانسحاب المسلّحين باتجاه رنكوس والتي تعتبر أولى الخيارات، وأكبر معاقل المسلحين في المقلب الثاني من الطريق الدولي بين دمشق وحمص، واعتماد أسلوب الكمائن والتشريكات التي أثبتت التجربة فاعليتها، وقدرتها على حصد أكبر عدد من رؤوس الإرهاب.

 

  • فريق ماسة
  • 2014-03-05
  • 11621
  • من الأرشيف

المعارك الاستراتيجية: القلمون مثالاً

 لا تكاد خريطة المعارك في سورية تخلو من المناطق الاستراتيجية، على رغم أنّ التصنيفات المعتمدة لاعتبار منطقة ما ذات أهمية استراتيجية أم لا، يمكن أن تختلف وتتفاوت بحسب أهمية تلك المنطقة بالنسبة للأطراف المتقاتلة أو بحسب أولويتها في المعارك الدائرة لنواح عدة، منها قطع خطوط الامداد أو الإسناد، أو ارتفاعها وإشرافها على مناطق محيطة أو وقوعها على طريق دولي، إضافة إلى احتوائها معامل أو آبار نفط وغيرها الكثير. والاستراتيجية بالمفهوم العسكري هي الخطة الحربية أو فنّ التخطيط للعمليات العسكرية قبل نشوب الحروب، وفن إدارة تلك العمليات عقب بدء الحرب. وتعكس الاستراتيجية الخطط المحدّدة مُسبقاً لتحقيق هدف معيّن على المدى البعيد في ضوء الامكانيات المتاحة، أو التي يمكن الحصول عليها، وهي خطط أو طرق توضع لتحقيق هدف معيّن على المدى البعيد اعتماداً على التخطيطات والإجراءات الأمنية في استخدام المصادر المتوافرة في المدى القصير. وقد زخرت الحرب الدائرة بين الجيش السوري وحلفائه من الفصائل المقاتلة المنضوية معه تحت راية منظومة المقاومة في وجه أعداد لا تعدّ ولا تحصى من المسلحين الإرهابيين المدرّبين القادمين من كل أنحاء الأرض، بالكثير من المعارك التي أطلق عليها البعض صفة «الاستراتيجية»، رغم ابتعادها كثيراً عن هذا المفهوم الواضح. فمعارك ريف اللاذقية الشمالي لا يمكن تصنيفها علمياً بـ»الاستراتيجية»، الا اذا اعتبرنا التطهير الطائفي أولوية استراتيجية، وكذلك معان في ريف حماه، ومعارك بلدة صدد أو معلولا أو عدرا العمالية أيضاً، لا يمكن اعتبارها استراتيجية، وحصار نبل والزهراء والفوعة كذلك، أو تدمير حاجز يحوي خمسة عناصر أو مبنى يحوي جنوداً، كذلك ليس بالنصر الاستراتيجي. وقد دأب المسلحون على إطلاق صفة «الاستراتيجية» على أغلبية معاركهم، على رغم أنّ الكثير منها تكون من دون أي قيمة عسكرية أو استراتيجية. وبناء على ما تقدم نجد خللاً كبيراً في استخدام هذا المصطلح، بما له من مدلولات غير مرغوبة كالظهور والخداع والتعظيم، إذا ما أضفنا كلمة استراتيجية لأي حديث بما يوحي به اللفظ من قدرة على التفكير وأهمية الهدف وأولويته ورفعة مستوى المتحدث. في حين يعتمد الجيش السوري على التقدم بشكل مدروس ومخطط له بشكل مسبق ودقيق، وهذا ما بدا واضحاً منذ يوم انطلاق العمليات العسكرية الفعلية للجيش منذ ما يقارب السنة، بعد استيعابه للضربة الاولى مع بدء الأحداث في سورية. وبالإضافة الى العمليات ذات الطابع الاستراتيجي التي ينفذها الجيش السوري، اضطر في بعض الأحيان الى الاستجابة السريعة لتطورات الميدان، والتركيز على معارك جانبية لا قيمة استراتيجية عسكرية لها، سوى الدافع الوطني والانساني وحماية المواطنين السوريين من هجمات الارهابيين، وقد أدت هذه الاستجابة السريعة في بعض الأحيان الى وقوع خسائر كبيرة في صفوفه نتيجة لعدم التخطيط المسبق للعملية. وقد تركزت العمليات العسكرية الاستراتيجية للقوات المسلحة السورية، بالسيطرة على المناطق الحدودية التي تمدّ الإرهابيين بالعتاد والعديد، إضافة إلى تأمين الطرق الدولية الرئيسة التي تربط المحافظات وتأمين المرافق الحيوية، واستخدام عمليات القضم وتقسيم القطاعات العسكرية للمناطق المُراد السيطرة عليها. وقد برزت في الفترة الأخيرة معركة استراتيجية فاصلة بكلّ ما للكلمة من معنى، هي معركة القلمون والتي بدت معالمها واضحة بعد سيطرة الجيش على مناطق قارة والنبك منذ شهرين، واضطراره إلى خوض معركة دير عطية كمعركة جانبية ذات طابع وطني نتيجة لتسلل المسلحين اليها خلال العملية العسكرية في النبك. وقد سبق بداية المعركة بشكل جدي تحضيرات على المدى الطويل تمثلت بدخول الجيش على مرتفعات حلبون وتطويق مناطق رنكوس وبدا وتلفيتا، واستهداف مرتفعات الزبداني ومضايا بما تشكله من امتداد جغرافي لسلسلة جبال القلمون المحاذية للبنان، وتمركز الجيش على الطريق الدولي بين دمشق وحمص، وبدير الشيروبيم في صيدنايا، والسيطرة على مثلث النعيمات في ريف القصير الجنوبي، بالتوازي مع انطلاق عملية رديفة للقلمون تمثلت باستهداف منطقة الحصن في ريف حمص الشمالي، بما فيها من قرى الزارة والشويهد والحصرجية، وقطع خطوط الإمداد من لبنان باتجاه الحصن والداخل السوري. وتعتبر هذه العمليات استكمالاً طبيعياً لمعركة القصير، والتي تهدف بالمحصلة الى إغلاق الحدود اللبنانية بشكل كامل أمام تدفق السلاح والمسلحين الى هذه المناطق، ومنها الى مناطق الداخل كأرياف دمشق ومناطق الريف الحمصي كالرستن وتلبيسة وريف حماه، ومناطق الساحل كبانياس وطرطوس. وقد يعتبر البعض أنّ المعركة المنتظرة في عاصمة القلمون ـ يبرود، ستكون المعركة الفاصلة، إلا أنّ جغرافيا السلسلة الجبلية المعقدة تستوجب، معارك جانبية قد تكون أكثر أهمية من يبرود لناحية طرق الإمداد الى الداخل، فمعركة عسال الورد ورنكوس، ومنها الى الغوطة، ومن رنكوس الى جنوب القلمون في مضايا وما بينهما من مناطق، تعتبر أولوية لاستكمال الانتصار. الا أنّ يبرود بما تمثله من قيمة معنوية للمجموعات الإرهابية، كما كانت القصير، وبما تحويه من أعداد مسلحين، قدّرتها مصادر عسكرية بنحو سبعة آلاف، موزّعين على تنظيمات ارهابية مختلفة أكبرها «جبهة النصرة»، قد يكون الانتصار فيها بداية لانهيار حصن القلمون من شماله الى جنوبه، وسيترك ذلك انعكاسات واضحة على معارك الريف الشمالي للعاصمة. وقد بدأ الجيش السوري عمليته متجنّباً الدخول المباشر الى يبرود، واستهدفت وحداته المناطق المحيطة بالمدينة من الجراجير والسحل الى مزارع ريما باتجاه فليطا ورأس المعرة، مع تركيزها السيطرة على التلال المشرفة على الممرات الجبلية مع الحدود اللبنانية والكتل المرتفعة المطلة على الطرق الواصلة بين يبرود وبقية المناطق المحيطة، محاولة لضرب طوق مزدوج الأهداف، أولاً، قطع خطوط الدعم والإسناد للمسلحين من لبنان باتجاه المناطق المستهدفة وحماية خلفية قواته من أي التفاف أو دخول مسلحين من الحدود، ثانياً فرض طوق خانق على المنطقة المستهدفة واستنزاف المسلحين وذخيرتهم، ما قد يجنّب الجيش معركة قد تكون صعبة نتيجة لاستماتة المسلحين في القتال إذا ما أغلقت كافة خطوط الانسحاب في وجههم، ودفعهم للتفاوض والاستسلام. وقد يكون تكتيك الجيش تركه أحد الطرق الفرعية الملزمة لانسحاب المسلّحين باتجاه رنكوس والتي تعتبر أولى الخيارات، وأكبر معاقل المسلحين في المقلب الثاني من الطريق الدولي بين دمشق وحمص، واعتماد أسلوب الكمائن والتشريكات التي أثبتت التجربة فاعليتها، وقدرتها على حصد أكبر عدد من رؤوس الإرهاب.  

المصدر : أحمد عبود –البناء


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة