المرأة تتحدث عن نفسها هذه المرة، ليست بحاجة إلى لسان رجل أو قلمه كي تبوح بأحزانها وهواجسها. عايدة صبرا هي الكاتبة والممثلة والمخرجة لمسرحيتها «من الآخر» التي تروي فيها ما يخالج النساء في منتصف العمر من أحاسيس وإحباطات وتمنيات، وما يواجهنه من صعوبات لإبقاء العلاقة مقبولة مع زوج يتغير هو الآخر، يخبو، يتعب، وقد يتمنى لو يتأكد من أن «دون جوانيته» لا تزال ممكنة. صحيح أن الأفكار في غالبيتها سوداوية، لكنها مع عايدة تأخذ لبوسا ساخرا هازئا وبانوراميا، يخرج من الذاتية والخصوصية ليشمل النساء عموما، ومجتمعا يعيش تحولات مفصلية.

ينطلق العرض على مسرح «مترو المدينة»، هذا المكان الحميم، الصغير، الذي استحدث لأعمال لا تحتاج إلى خشبات متسعة، من نقطتين أساسيتين، ومنهما تكر سبحة الذكريات وتتدفق القصص والحكايا.

نسمع صوت جومانا من وراء الستار تستمهل زوجها خمس دقائق لتنتهي من تجهيز نفسها لتذهب بصحبته، لم يبقَ لها سوى أن تختار الفستان الذي يليق بالمناسبة، إنها على وشك أن تجهز. وهنا تأتي النقطة الأولى الرئيسة، وهي استعداد الزوجين لحفل سيتلقى خلاله الرجل «وساما»، لا يسد غائلة ولا يضيف شيئا لكنه على أي حال تقدير لمسار وجهد طويلين.

النقطة الثانية الحساسة تظهر بعد تململ الزوج واستعجاله للخروج، حيث يقول لجومانا وهي تسأله عن رأيه بهندامها: «ختيارة». تباهيه بالوسام كرمز لنجاحه مقابل أسماعها كلمة «ختيارة» لتذكيرها بذبولها الأنثوي تواجهه بسؤال صعب: «معقول إني كبرت؟».

بعد ثلاثين سنة من الزواج، وهي قد بلغت الخمسين، الزوج يفضل على انتظارها المغادرة دونها، يطرق الباب مغادرا ويمضي. أمر يجعلها تخرج من وراء الستار غاضبة، في مواجهة الجمهور، لتعيش وتجعلنا نعايش معها شريط حياتها الطويل من لحظة أحبت رجل حياتها، تدرجا بتطوراتهما العاطفية في أدق تفاصيلها اليومية. وهو الجانب الذي يعطي المسرحية زخمها الإنساني الأعمق، ويمنح النص قوته، لجعل المتفرج لا يتوقف عن التأمل والضحك، في آنٍ معا.

تخلط عايدة صبرا، التي شاركت في تجربة «مسرح الحكواتي» لروجيه عساف على مدى عقدين من الزمن، في هذا العمل بين الـ«استاند أب كوميدي»، وما حصدته من تجربة كحكواتية قديمة، والفن التفاعلي مع الجمهور حد مشاركته في الحوار وتجاوبها معه والرد عليه، دون أن تنسى العودة إلى متن نصها الأساس.

تروي جومانا بفستانها المنزلي، وهي الرياضية القديمة وصاحبة الميداليات، كيف أفنت عمرها في لف الساندويتشات، وتوصيل الأولاد، ومداراة الزوج، وإصلاح كل ما يتعطل في المنزل، وحتى شراء الحاجات، والاهتمام بالسيارة، بينما الزوج مشغول عنها بعلم النفس والبحث اللذين عشقهما إلى جانب الهندسة.

حياة كاملة تختصرها في ساعة واحدة، إلى جانبها الممثلان الظريفان ماريليز يوسف عاد وإيلي نجيم، اللذان كانا قادرين ببعض الإكسسوارات على تجسيد عدد من الشخصيات: سيدات مخدوعات أو يحاولن التغرير برجال، رجال يبحثون عن علاقات جانبية، مصورون، صحافيون...

خشبة عليها بعض القطع الملونة على طريقة المكعبات التي رسمها الفنان الهولندي التجريدي الشهير موندريان، تصلح للوقوف عليها، للجلوس أو لنصف استلقاء حين يستدعي الأمر، الموسيقى حية غالبية الأحيان، ينفذها الفنانان ماريليز وايلي، بأدوات بسيطة، طبلة صغيرة، هارمونيكا أصغر، صفارة، مطرقة، كل ما يحدث صوتا يمكن أن يسعف في إصدار التأثير المطلوب حين يأتي في اللحظة المناسبة. استخدام القبعة يجعل الزوج يستحضر ويتكلم، ويتحاور مع الزوجة، دون وجود جسدي له، أيدي الممثلين الاثنين، يمكن لها أن تكون مفيدة أيضا لتركيب الشخصيات، لبعث الإيحاءات التي تعتمد عليها المخرجة تكرارا.

استفادت عايدة صبرا من مخزونها الأكاديمي، ومسارها في المجال الإيمائي لتبني على المسرح عمرا زوجيا طويلا، تتداخل أحداثه وأبطاله ووقائعه، بمعونة ممثلين شابين، قادرين معها على لعب الأدوار المتتالية على اختلافها.

نص حيوي، مستل من قصص حقيقية، ومفردات متداولة، تعيدنا مع أداء طريف للمثلين إلى المسرح الشعبي. التفاصيل تحيل إلى حياة الزوجين اللذين بدأ رحلة العمر خلال الحرب الأهلية، وتعرفا بعد قذيفة أصابت الحي. النظرات الأولى لا تزال تشعل قلب جومانا، والسهرات القديمة، والرقص الذي كانت تحبه، ثم صار الزوجان يكتفيان «بالمشي حول البيت»، وبعدها صار الزوج «لا يسمع ولا يرد، يبقى شاردا، يا قدام التلفزيون، يا قدام الكومبيوتر».

أمر يجعل جومانا تتساءل عن سر تغير زوجها، تسجل له تحركاته على دفترها، الذي تعود إليه كلما فاتها تفصيل، تتذكر كل أولئك الرجال الذين خانوا زوجاتهم أو حاولوا، وتلك القصص التي روتها لها صديقاتها عن رجال حاولوا التحرش بهن. ما الذي يمنع أن يكون زوج جومانا هو أيضا أحد هؤلاء؟ حين يدخل الشك قلب المرأة، تصبح قراءة سلوك الزوج مختلفة، لكن جومانا تكرر: «شو عم يصير لي؟ ليش عم فكر هيك؟»، كل هذا يجعل مواجهة المرآة أمرا عصيا.

الرجال اللامبالون، والنساء الكادحات، أصبحت تيمة الكثير من الأعمال الفنية اللبنانية. موضوع لا بد له أسبابه الاجتماعية المستحقة. ربما سنشاهد المزيد من الأعمال التي تتحدث فيها النساء عن معاناتهن النفسية، وميزة «من الآخر» أنه عمل لامرأة تعرف كيف تدافع عن حقوق النساء بعيدا عن الكليشيهات والعناوين العريضة، والوعظ المنفر. تستطيع عايدة صبرا التي يستمر عملها كل اثنين وثلاثاء طوال شهر مارس (آذار) أن تلج الأعماق الأنثوية وتقول كلمتها الحرة بكثير من الطرافة والبساطة والإبداع أيضا.

 

  • فريق ماسة
  • 2014-02-26
  • 15315
  • من الأرشيف

«من الآخر».. أزمات المرأة في منتصف العمر

المرأة تتحدث عن نفسها هذه المرة، ليست بحاجة إلى لسان رجل أو قلمه كي تبوح بأحزانها وهواجسها. عايدة صبرا هي الكاتبة والممثلة والمخرجة لمسرحيتها «من الآخر» التي تروي فيها ما يخالج النساء في منتصف العمر من أحاسيس وإحباطات وتمنيات، وما يواجهنه من صعوبات لإبقاء العلاقة مقبولة مع زوج يتغير هو الآخر، يخبو، يتعب، وقد يتمنى لو يتأكد من أن «دون جوانيته» لا تزال ممكنة. صحيح أن الأفكار في غالبيتها سوداوية، لكنها مع عايدة تأخذ لبوسا ساخرا هازئا وبانوراميا، يخرج من الذاتية والخصوصية ليشمل النساء عموما، ومجتمعا يعيش تحولات مفصلية. ينطلق العرض على مسرح «مترو المدينة»، هذا المكان الحميم، الصغير، الذي استحدث لأعمال لا تحتاج إلى خشبات متسعة، من نقطتين أساسيتين، ومنهما تكر سبحة الذكريات وتتدفق القصص والحكايا. نسمع صوت جومانا من وراء الستار تستمهل زوجها خمس دقائق لتنتهي من تجهيز نفسها لتذهب بصحبته، لم يبقَ لها سوى أن تختار الفستان الذي يليق بالمناسبة، إنها على وشك أن تجهز. وهنا تأتي النقطة الأولى الرئيسة، وهي استعداد الزوجين لحفل سيتلقى خلاله الرجل «وساما»، لا يسد غائلة ولا يضيف شيئا لكنه على أي حال تقدير لمسار وجهد طويلين. النقطة الثانية الحساسة تظهر بعد تململ الزوج واستعجاله للخروج، حيث يقول لجومانا وهي تسأله عن رأيه بهندامها: «ختيارة». تباهيه بالوسام كرمز لنجاحه مقابل أسماعها كلمة «ختيارة» لتذكيرها بذبولها الأنثوي تواجهه بسؤال صعب: «معقول إني كبرت؟». بعد ثلاثين سنة من الزواج، وهي قد بلغت الخمسين، الزوج يفضل على انتظارها المغادرة دونها، يطرق الباب مغادرا ويمضي. أمر يجعلها تخرج من وراء الستار غاضبة، في مواجهة الجمهور، لتعيش وتجعلنا نعايش معها شريط حياتها الطويل من لحظة أحبت رجل حياتها، تدرجا بتطوراتهما العاطفية في أدق تفاصيلها اليومية. وهو الجانب الذي يعطي المسرحية زخمها الإنساني الأعمق، ويمنح النص قوته، لجعل المتفرج لا يتوقف عن التأمل والضحك، في آنٍ معا. تخلط عايدة صبرا، التي شاركت في تجربة «مسرح الحكواتي» لروجيه عساف على مدى عقدين من الزمن، في هذا العمل بين الـ«استاند أب كوميدي»، وما حصدته من تجربة كحكواتية قديمة، والفن التفاعلي مع الجمهور حد مشاركته في الحوار وتجاوبها معه والرد عليه، دون أن تنسى العودة إلى متن نصها الأساس. تروي جومانا بفستانها المنزلي، وهي الرياضية القديمة وصاحبة الميداليات، كيف أفنت عمرها في لف الساندويتشات، وتوصيل الأولاد، ومداراة الزوج، وإصلاح كل ما يتعطل في المنزل، وحتى شراء الحاجات، والاهتمام بالسيارة، بينما الزوج مشغول عنها بعلم النفس والبحث اللذين عشقهما إلى جانب الهندسة. حياة كاملة تختصرها في ساعة واحدة، إلى جانبها الممثلان الظريفان ماريليز يوسف عاد وإيلي نجيم، اللذان كانا قادرين ببعض الإكسسوارات على تجسيد عدد من الشخصيات: سيدات مخدوعات أو يحاولن التغرير برجال، رجال يبحثون عن علاقات جانبية، مصورون، صحافيون... خشبة عليها بعض القطع الملونة على طريقة المكعبات التي رسمها الفنان الهولندي التجريدي الشهير موندريان، تصلح للوقوف عليها، للجلوس أو لنصف استلقاء حين يستدعي الأمر، الموسيقى حية غالبية الأحيان، ينفذها الفنانان ماريليز وايلي، بأدوات بسيطة، طبلة صغيرة، هارمونيكا أصغر، صفارة، مطرقة، كل ما يحدث صوتا يمكن أن يسعف في إصدار التأثير المطلوب حين يأتي في اللحظة المناسبة. استخدام القبعة يجعل الزوج يستحضر ويتكلم، ويتحاور مع الزوجة، دون وجود جسدي له، أيدي الممثلين الاثنين، يمكن لها أن تكون مفيدة أيضا لتركيب الشخصيات، لبعث الإيحاءات التي تعتمد عليها المخرجة تكرارا. استفادت عايدة صبرا من مخزونها الأكاديمي، ومسارها في المجال الإيمائي لتبني على المسرح عمرا زوجيا طويلا، تتداخل أحداثه وأبطاله ووقائعه، بمعونة ممثلين شابين، قادرين معها على لعب الأدوار المتتالية على اختلافها. نص حيوي، مستل من قصص حقيقية، ومفردات متداولة، تعيدنا مع أداء طريف للمثلين إلى المسرح الشعبي. التفاصيل تحيل إلى حياة الزوجين اللذين بدأ رحلة العمر خلال الحرب الأهلية، وتعرفا بعد قذيفة أصابت الحي. النظرات الأولى لا تزال تشعل قلب جومانا، والسهرات القديمة، والرقص الذي كانت تحبه، ثم صار الزوجان يكتفيان «بالمشي حول البيت»، وبعدها صار الزوج «لا يسمع ولا يرد، يبقى شاردا، يا قدام التلفزيون، يا قدام الكومبيوتر». أمر يجعل جومانا تتساءل عن سر تغير زوجها، تسجل له تحركاته على دفترها، الذي تعود إليه كلما فاتها تفصيل، تتذكر كل أولئك الرجال الذين خانوا زوجاتهم أو حاولوا، وتلك القصص التي روتها لها صديقاتها عن رجال حاولوا التحرش بهن. ما الذي يمنع أن يكون زوج جومانا هو أيضا أحد هؤلاء؟ حين يدخل الشك قلب المرأة، تصبح قراءة سلوك الزوج مختلفة، لكن جومانا تكرر: «شو عم يصير لي؟ ليش عم فكر هيك؟»، كل هذا يجعل مواجهة المرآة أمرا عصيا. الرجال اللامبالون، والنساء الكادحات، أصبحت تيمة الكثير من الأعمال الفنية اللبنانية. موضوع لا بد له أسبابه الاجتماعية المستحقة. ربما سنشاهد المزيد من الأعمال التي تتحدث فيها النساء عن معاناتهن النفسية، وميزة «من الآخر» أنه عمل لامرأة تعرف كيف تدافع عن حقوق النساء بعيدا عن الكليشيهات والعناوين العريضة، والوعظ المنفر. تستطيع عايدة صبرا التي يستمر عملها كل اثنين وثلاثاء طوال شهر مارس (آذار) أن تلج الأعماق الأنثوية وتقول كلمتها الحرة بكثير من الطرافة والبساطة والإبداع أيضا.  

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة