يوم الاحد الماضي التقيت السيد عبد الله النسور رئيس الوزراء الاردني كعادتي في كل مرة ازور فيها العاصمة عمان، وكان اللقاء معه مهما بالنسبة الي من حيث توقيته،

لانه كان قد استقبل لتوه جون كيري وزير الخارجية الامريكي الزائر للمملكة في اطار مبادرته للسلام حيث كنت بصدد القاء محاضرة حولها في مجمع النقابات، ولانني كنت اريد ان اتعرف على موقف الاردن تجاه ما يتردد بقوة حاليا حول تسخين الجبهة الجنوبية السورية، والرغبة الامريكية بالعودة الى الحل العسكري وفتح معركة دمشق مجددا مع النظام السوري.

مضيفي السيد النسور كان اكثر اهتماما بالحديث عن علاقات الاردن مع دول الخليج العربي ولمحت “عتبا” في لهجته تجاه هذه الدول بسبب عدم تقديمها ما يتطلع اليه الاردن من مساعدات واستثمارات ودعم لمشاريع تقدم بطلبات لتمويلها، خاصة في ظل الازمة الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها البلد حاليا، وارتفاع الدين العام الى اكثر من عشرين مليار دينار (30 مليار دولار) وعجز في الميزانية في حدود المليارين ونصف المليار دولار.

وبسبب هذه الخلفية لم افاجأ عندما قرأت نص مقابلة للسيد النسور مع صحيفة “الوطن” القطرية (الاربعاء) قال فيها “ان عدم انضمام بلاده الى مجلس التعاون الخليجي يعتبر خطأ تاريخيا ستكتب عنه الاجيال المقبلة، ويعلم الله انها ستحاسب عليه، وهذا من قناعتي الشخصية كأنسان وحدوي عربي مثقف، انه كان خطأ قويا جدا ولا ادري ما السبب”.

ليسمح لنا السيد النسور ان نقول له السبب الحقيقي الذي يريد ان يعرفه وهو ان مجلس التعاون الخليجي ناد مغلق على الاغنياء فقط، والاردن ليس من بينهم وقد لا يكون في المستقبل القريب او البعيد، ويحسب على خانة الفقراء المعدمين، مضافا الى ذلك، وهذا مهم جدا، ان له حدود مع الدولة “الاسرائيلية”، ومجلس التعاون الخليجي لا يريد ان تكون احد اعضائه دولة “مواجهة” حتى لو وقعت معاهدة سلام، ورفعت الرايات البيضاء.

***

في العاشر من ايار (مايو) 2011 انعقدت قمة تشاورية لقادة مجلس التعاون الخليجي في العاصمة السعودية الرياض، وفاجأ العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز زملاءه الزعماء بالموافقة على طلب اردني بالانضمام الى المجلس، ووجه دعوة رسمية علنية للمغرب الملكية الاخرى بالانضمام ايضا دون ان تتقدم بطلب للعضوية اصلا، فقامت الافراح في الاردن، وبنى الاردنيون آمالا عريضة بالرخاء على هذه الخطوة، وتصوروا انهم سيودعون الفقر الى غير رجعة، وباتوا يتحدثون عن لبس الدشاديش باعتبارها الزي الرسمي الجديد لهم، ويباركون نظام الكفيل الذي طالما اشتكوا منه، ويستعدون لشد الرحال الى منبع الثروة ومخزونها الاكبر في العالم باسره.

هذه الدعوة، ومعها الفرحة، تبخرتا بعد اسابيع او اشهر معدودة، فقد تبين انها كانت سابقة لاوانها وزلة لسان تعكس “نوايا طيبة”، وان دولا خليجية عديدة، بل امراء في الاسرة الحاكمة السعودية رفعوا البطاقة الحمراء في وجهها، وتقزمت مسألة انضمام الاردن الى مجلس التعاون الى “لجنة تنسيق” لا اكثر ولا اقل، لم تنسق اي شيء حتى كتابة هذه السطور.

العاهل السعودي، وفي غمرة انفجار الثورات العربية في مصر وليبيا وتونس واليمن وسورية، وصعود القوة الايرانية “الشيعية” وتعاظم “هلالها” اراد ان يقيم ناديا للملكيات العربية بفصلها عن محيطها الجمهوري العربي المتفجر ويحصنها من بركانه، وان يستعين بالمخزون العسكري والبشري “السني” في كل من المغرب والاردن في مواجهة ايران ومحورها،

ثورات ما يسمى بالربيع العربي نجحت في اطاحة انظمة ديكتاتورية في مصر وتونس واليمن وليبيا ولكنها فشلت في اقامة انظمة بديلة تجسد حلم الشعوب في حكم ديمقراطي نموذجي، وتحولت معظم هذه الدول الى “دول فاشلة” حتى ان رئيس الوزراء الاردني “الوحدوي” و”العروبي” بات يتمنى عودة العقارب الى الوراء الى مرحلة ما قبل الثورات، وهناك الكثير ممن يفكرون بالمنطق نفسهن بعد ان تابعوا المشهد التفكيكي والتقسيم الطائفي، والانهيارين الامني والاقتصادي والحروب الاهلية في معظم تلك الدول.

فاذا كان قبول انضمام الاردن الى مجلس التعاون الخليجي غير ممكن قبل اربع سنوات، فانه بات من المستحيل اليوم، لعدة اسباب، ابرزها ان دول الخليج والمملكة العربية السعودية بالذات لم تعد تخشى من وصول الثورات اليها الآن بالقدر نفسه، او هكذا تعتقد حكومتها، ولانها باتت تحارب هذه الثورات، وتحبط مفعولها في عقر دارها مثلما هو حادث في مصر، وبطريقة مختلفة في سورية من خلال تصدير الجهاديين اليها ودعم المعارضة السورية بالمال والسلاح، ولكي تقول للشعب السعودي هل تريدون ان تصبح بلدكم مضطربة مثل سورية وليبيا واليمن ومصر؟

والاهم من ذلك كله ان وحدة مجلس التعاون الخليجي تتآكل بفعل الخلافات المتفاقمة بين معظم اعضائه، فالتوتر في العلاقات القطرية السعودية في ذروته، ونوايا السعودية في تجميد عضوية قطر بسبب دعمها لحركة الاخوان ضد النظام المصري معروفة، وتدهور العلاقات القطرية الاماراتية احتاج الى وساطة امير الكويت اكثر من مرة لتطويقه بسبب تصريحات للشيخ يوسف القرضاوي اتهمت الامارات باجهاض اي حكم اسلامي في مصر بالذات، اما خلافات سلطنة عمان مع السعودية فقد انعكس بوضوح اثناء “ثورة” السيد يوسف بن علوي “البحرينية” في المنامة عندما اعترض بقوة غير مسبوقة ضد فكرة الاتحاد الخليجي التي تتبناها الرياض والقائمة تطول.

***

مطلوب من الاردن ان يكون دولة “خدمات امنية” لدول الخليج لا اكثر ولا اقل، وان ينفذ ما يطلب منه من تدريب وتسليح للمعارضة السورية واي مهام اخرى، وتسهيل مرور الاسلحة والمتطوعين في اطار خطط اطاحة النظام السوري، وممنوع الاعتراض لان نتائجه وخيمة ماديا على الاقل.

طبعا هناك مقابل مادي، ولكنه ضئيل جدا بالمقارنة مع المليارات الخليجية التي تتدفق على المعارضة السورية، عبر البوابتين الاردنية والتركية نقدا او على شكل اسلحة حديثة، او على نظيرتها الليبية، وحكومات دول حلف الناتو التي تدخلت عسكريا لاسقاط النظام الديكتاتوري الليبي قبل ذلك.

مساعدات دول الخليج تاتي بالقطارة الى حلق الاردن الجائع الذي يقف على حافة الافلاس لان الهدف ان يظل ضعيفا، محتاجا، متسولا، ومن يعتقد غير ذلك مخطيء، والسلطات الاردنية تتحمل المسؤولية الاكبر لانها قبلت بهذا الدور، دور الهندي الفقير الذليل، ولا نضيف الى ما هو اكثر من ذلك، ونكتفي بهذا القدر ونأمل ان يكون السيد النسور قد عرف الاسباب التي ابقت بلاده خارج مجلس التعاون بعد ان اعتقد الكثير من الاردنيين ان لقمة العضوية وصلت الى فمهم في “يوم ما”!

  • فريق ماسة
  • 2014-02-26
  • 10942
  • من الأرشيف

حنين اردني ممزوج بـ”العتب” لحلم الانضمام لمجلس التعاون الخليجي!!

 يوم الاحد الماضي التقيت السيد عبد الله النسور رئيس الوزراء الاردني كعادتي في كل مرة ازور فيها العاصمة عمان، وكان اللقاء معه مهما بالنسبة الي من حيث توقيته، لانه كان قد استقبل لتوه جون كيري وزير الخارجية الامريكي الزائر للمملكة في اطار مبادرته للسلام حيث كنت بصدد القاء محاضرة حولها في مجمع النقابات، ولانني كنت اريد ان اتعرف على موقف الاردن تجاه ما يتردد بقوة حاليا حول تسخين الجبهة الجنوبية السورية، والرغبة الامريكية بالعودة الى الحل العسكري وفتح معركة دمشق مجددا مع النظام السوري. مضيفي السيد النسور كان اكثر اهتماما بالحديث عن علاقات الاردن مع دول الخليج العربي ولمحت “عتبا” في لهجته تجاه هذه الدول بسبب عدم تقديمها ما يتطلع اليه الاردن من مساعدات واستثمارات ودعم لمشاريع تقدم بطلبات لتمويلها، خاصة في ظل الازمة الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها البلد حاليا، وارتفاع الدين العام الى اكثر من عشرين مليار دينار (30 مليار دولار) وعجز في الميزانية في حدود المليارين ونصف المليار دولار. وبسبب هذه الخلفية لم افاجأ عندما قرأت نص مقابلة للسيد النسور مع صحيفة “الوطن” القطرية (الاربعاء) قال فيها “ان عدم انضمام بلاده الى مجلس التعاون الخليجي يعتبر خطأ تاريخيا ستكتب عنه الاجيال المقبلة، ويعلم الله انها ستحاسب عليه، وهذا من قناعتي الشخصية كأنسان وحدوي عربي مثقف، انه كان خطأ قويا جدا ولا ادري ما السبب”. ليسمح لنا السيد النسور ان نقول له السبب الحقيقي الذي يريد ان يعرفه وهو ان مجلس التعاون الخليجي ناد مغلق على الاغنياء فقط، والاردن ليس من بينهم وقد لا يكون في المستقبل القريب او البعيد، ويحسب على خانة الفقراء المعدمين، مضافا الى ذلك، وهذا مهم جدا، ان له حدود مع الدولة “الاسرائيلية”، ومجلس التعاون الخليجي لا يريد ان تكون احد اعضائه دولة “مواجهة” حتى لو وقعت معاهدة سلام، ورفعت الرايات البيضاء. *** في العاشر من ايار (مايو) 2011 انعقدت قمة تشاورية لقادة مجلس التعاون الخليجي في العاصمة السعودية الرياض، وفاجأ العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز زملاءه الزعماء بالموافقة على طلب اردني بالانضمام الى المجلس، ووجه دعوة رسمية علنية للمغرب الملكية الاخرى بالانضمام ايضا دون ان تتقدم بطلب للعضوية اصلا، فقامت الافراح في الاردن، وبنى الاردنيون آمالا عريضة بالرخاء على هذه الخطوة، وتصوروا انهم سيودعون الفقر الى غير رجعة، وباتوا يتحدثون عن لبس الدشاديش باعتبارها الزي الرسمي الجديد لهم، ويباركون نظام الكفيل الذي طالما اشتكوا منه، ويستعدون لشد الرحال الى منبع الثروة ومخزونها الاكبر في العالم باسره. هذه الدعوة، ومعها الفرحة، تبخرتا بعد اسابيع او اشهر معدودة، فقد تبين انها كانت سابقة لاوانها وزلة لسان تعكس “نوايا طيبة”، وان دولا خليجية عديدة، بل امراء في الاسرة الحاكمة السعودية رفعوا البطاقة الحمراء في وجهها، وتقزمت مسألة انضمام الاردن الى مجلس التعاون الى “لجنة تنسيق” لا اكثر ولا اقل، لم تنسق اي شيء حتى كتابة هذه السطور. العاهل السعودي، وفي غمرة انفجار الثورات العربية في مصر وليبيا وتونس واليمن وسورية، وصعود القوة الايرانية “الشيعية” وتعاظم “هلالها” اراد ان يقيم ناديا للملكيات العربية بفصلها عن محيطها الجمهوري العربي المتفجر ويحصنها من بركانه، وان يستعين بالمخزون العسكري والبشري “السني” في كل من المغرب والاردن في مواجهة ايران ومحورها، ثورات ما يسمى بالربيع العربي نجحت في اطاحة انظمة ديكتاتورية في مصر وتونس واليمن وليبيا ولكنها فشلت في اقامة انظمة بديلة تجسد حلم الشعوب في حكم ديمقراطي نموذجي، وتحولت معظم هذه الدول الى “دول فاشلة” حتى ان رئيس الوزراء الاردني “الوحدوي” و”العروبي” بات يتمنى عودة العقارب الى الوراء الى مرحلة ما قبل الثورات، وهناك الكثير ممن يفكرون بالمنطق نفسهن بعد ان تابعوا المشهد التفكيكي والتقسيم الطائفي، والانهيارين الامني والاقتصادي والحروب الاهلية في معظم تلك الدول. فاذا كان قبول انضمام الاردن الى مجلس التعاون الخليجي غير ممكن قبل اربع سنوات، فانه بات من المستحيل اليوم، لعدة اسباب، ابرزها ان دول الخليج والمملكة العربية السعودية بالذات لم تعد تخشى من وصول الثورات اليها الآن بالقدر نفسه، او هكذا تعتقد حكومتها، ولانها باتت تحارب هذه الثورات، وتحبط مفعولها في عقر دارها مثلما هو حادث في مصر، وبطريقة مختلفة في سورية من خلال تصدير الجهاديين اليها ودعم المعارضة السورية بالمال والسلاح، ولكي تقول للشعب السعودي هل تريدون ان تصبح بلدكم مضطربة مثل سورية وليبيا واليمن ومصر؟ والاهم من ذلك كله ان وحدة مجلس التعاون الخليجي تتآكل بفعل الخلافات المتفاقمة بين معظم اعضائه، فالتوتر في العلاقات القطرية السعودية في ذروته، ونوايا السعودية في تجميد عضوية قطر بسبب دعمها لحركة الاخوان ضد النظام المصري معروفة، وتدهور العلاقات القطرية الاماراتية احتاج الى وساطة امير الكويت اكثر من مرة لتطويقه بسبب تصريحات للشيخ يوسف القرضاوي اتهمت الامارات باجهاض اي حكم اسلامي في مصر بالذات، اما خلافات سلطنة عمان مع السعودية فقد انعكس بوضوح اثناء “ثورة” السيد يوسف بن علوي “البحرينية” في المنامة عندما اعترض بقوة غير مسبوقة ضد فكرة الاتحاد الخليجي التي تتبناها الرياض والقائمة تطول. *** مطلوب من الاردن ان يكون دولة “خدمات امنية” لدول الخليج لا اكثر ولا اقل، وان ينفذ ما يطلب منه من تدريب وتسليح للمعارضة السورية واي مهام اخرى، وتسهيل مرور الاسلحة والمتطوعين في اطار خطط اطاحة النظام السوري، وممنوع الاعتراض لان نتائجه وخيمة ماديا على الاقل. طبعا هناك مقابل مادي، ولكنه ضئيل جدا بالمقارنة مع المليارات الخليجية التي تتدفق على المعارضة السورية، عبر البوابتين الاردنية والتركية نقدا او على شكل اسلحة حديثة، او على نظيرتها الليبية، وحكومات دول حلف الناتو التي تدخلت عسكريا لاسقاط النظام الديكتاتوري الليبي قبل ذلك. مساعدات دول الخليج تاتي بالقطارة الى حلق الاردن الجائع الذي يقف على حافة الافلاس لان الهدف ان يظل ضعيفا، محتاجا، متسولا، ومن يعتقد غير ذلك مخطيء، والسلطات الاردنية تتحمل المسؤولية الاكبر لانها قبلت بهذا الدور، دور الهندي الفقير الذليل، ولا نضيف الى ما هو اكثر من ذلك، ونكتفي بهذا القدر ونأمل ان يكون السيد النسور قد عرف الاسباب التي ابقت بلاده خارج مجلس التعاون بعد ان اعتقد الكثير من الاردنيين ان لقمة العضوية وصلت الى فمهم في “يوم ما”!

المصدر : عبد الباري عطوان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة