لا شيء يشغل الرأي العام السعودي اليوم أكثر من قضية «الجهاد» في سوريا. تبدو وسائل الإعلام كأنها للتو استفاقت من غيبوبة دامت ثلاث سنوات على اندلاع الأزمة. بدأت لعبة التلاوم بين الأطراف المنغمسة في الصراع على «فتح» دمشق. أُزيح عن المجتمع السعودي «حجاب الجهل» فتناثرت الأسئلة عن داعش وأخواتها وشبابنا الذي يُستغل كالحطب في الحرب الدولية هناك.

بدأ الإعلام السعودي متأخراً، كعادته، في تسليط الضوء على الشباب السعودي الذي يذهب للجهاد في سوريا تحت ألوية القاعدة الموزعة هناك بين داعش وجبهة النصرة، بعدما فتح الإعلامي داوود الشريان مُذيع قناة «أم بي سي» في برنامج «الثامنة» النار على من سماهم «دعاة الجهاد»، وسمى أشخاصا كالعرعور والعودة والعواجي والعريفي متهماً إياهم بتحريض الشباب على السفر للجهاد في حرب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، كما سبق أن فعل «الصحويون» ذلك في أفغانستان والعراق، فيما أتت ردود الفعل متفاوتة بين هؤلاء المشايخ؛ فمنهم من هدد الشريان برفع قضية تشهير إن لم يعتذر كالشيخ سلمان العودة، ومنهم من لاذ بالصمت كالعريفي.

في الحقيقة هي ليست المرة الأولى، ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة التي ينجح فيها النظام في قلب الطاولة على الجميع لمصلحته، بعدما كان يغضّ الطرف عن الحملات الإعلامية التي كانت تحث السعوديين على دعم الجهاد في سورية، بكل الوسائل المتاحة في نسخة كربونية عما حدث سابقاً في الحرب الأفغانية والحرب العراقية، وكذلك المشايخ الذين لم يتوانوا يوماً عن التعبير عن دعمهم للجهاديين هناك، بعدما اطمأنوا إلى الموقف الرسمي المؤيد لإسقاط النظام بالقوة، ولو من خلال جماعات جهادية متطرفة لا تعترف بالحدود الدولية ولا بالتسويات السياسية، حتى باتت العوائل في بعض مدن المملكة تشتكي من كثرة المراهقين الذين يحلمون بـ«النفير» إلى الشام شوقاً للقاء الحور العين.فبالأمس كانوا يتفرجون ويُضفون عليهم لقب «مجاهدين»، والآن تحولوا بقدرة قادر إلى «إرهابيين» هم ومن حرَّضهم على الذهاب، حيث جرى استصدار قانون جديد للإرهاب يُجرَّم الممولين والمحرضين للشباب في لعبة معانٍ لها دلالتها الخاصة على المشهد السياسي داخل المملكة. فقد تحول «الجهاد» إلى «إرهاب» بعدما كان الإرهابُ جهاداً، وهذا ليس التباسا في المعاني، لكنه انقلاب في المشهد. ببساطة شديدة، في اللعبة السياسية كما في غيرها من الألعاب كما يُحبذ بورديو وصف الأفعال الاجتماعية، فإن القوي غالباً هو من يفرض معانيه وقوانينه وأثمانه على المشاركين في اللعبة، وهو يعرف كيف يفوز على خصومه في كل الجولات؛ لأنه الطرف الذي يملك رأس المال الأوفر حيث يُبقيه متفوقاً ومتحكماً في اللعبة طوال الوقت، وهو الوحيد أيضاً الذي يضع معايير الفوز وإمكان تغييرها متى شعر باقتراب مُنافسيه من هزمه.

 

ماذا يعني هذا الكلام، يعني أن السلطة في السعودية تملك عناصر قوة غاشمة تسمح لها بتغيير المعاني التي تظهر على الجهاز المفاهيمي لأفراد المجتمع بسلاسة من خلال آلة إعلامية جبارة، ومؤسسة دينية بالغة السطوة، وجهاز بيروقراطي متغول، فقد يتحول الخير إلى شر، والحسن إلى قبيح، والباطل إلى حق والعكس صحيح، بحسب الظروف التي تمر بها هي دونما اكتراث لبقية اللاعبين المحليين، ويُجبَر الآخرون على قبول شروطها وتوصيفاتها للأشياء، فها هي تترك مفهوم «الإرهاب» دونما تعريف واضح، لكي يتسع لما شاءت له إرادة السلطة، ولهذا الإهمال المتعمد لتحديد المعنى نتائج وخيمة على المجتمع وأفراده، فقد ينتقل الفرد أو الجماعة داخل المملكة من تصنيف إلى آخر نقيضه في لمحة بصر. حدث هذا ليس فقط في ما يتعلق بالجهاد في سورية، بل أيضا حتى على مستوى التعامل مع رجال الدين كما حدث للشيخ ابن جبرين، حينما نُعت بالمدعو بعدما كان عضواً في هيئة كبار العلماء؛ بسبب توقيعه بيان لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية.

وهو ما يحدث الآن مع الشيخ سلمان العودة، الذي كان يشارك في مؤتمر الحوار الوطني كشيخ «معتدل»، وكان ضيفاً دائماً على برنامج «حجر الزاوية» في قناة «أم بي سي» نفسها قبل أن تقرر السلطة التي تملك القناة وتشرف عليها تحويله إلى مُحضّ على الإرهاب، وكذلك مع التيارات السياسية الدينية، ومنها حركة الإخوان المسلمين في السعودية، بعد ما جرى إدراج الحركة الأم في مصر على لائحة الإرهاب، وبعدما كانت الحركة المحلية معززة مكرمة في المؤسسات الدينية الرسمية في السعودية، بعدما استضافها الملك فيصل واستفاد منها أيما افادة في سد الفراغ الإيديولوجي والإداري في الأجهزة الدينية في فترة مواجهته للفكر القومي في العهد الناصري.

إن السلطة السياسية في السعودية تقبض على سلطة قاهرة تُتيح لها تبديل المعاني الرمزية وتغيير قواعد اللعبة كلما اقترب المنافسون من تحقيق الهدف، لكن اللعبة هذه المرة خطيرة جداً؛ لكونها لعبة معاني كبرى، ولأنها تُصنِّف شرائح شعبية واسعة في خانة الإرهاب كمقدمة لإقصائهم، مما ينذر بتصدع اجتماعي كبير وغير مأمون النتائج، وإن كانت الكرة والصافرة في يد لاعب واحد.

 

 

  • فريق ماسة
  • 2014-02-25
  • 12815
  • من الأرشيف

السعودية: لعبة البراءة من الجهاد

لا شيء يشغل الرأي العام السعودي اليوم أكثر من قضية «الجهاد» في سوريا. تبدو وسائل الإعلام كأنها للتو استفاقت من غيبوبة دامت ثلاث سنوات على اندلاع الأزمة. بدأت لعبة التلاوم بين الأطراف المنغمسة في الصراع على «فتح» دمشق. أُزيح عن المجتمع السعودي «حجاب الجهل» فتناثرت الأسئلة عن داعش وأخواتها وشبابنا الذي يُستغل كالحطب في الحرب الدولية هناك. بدأ الإعلام السعودي متأخراً، كعادته، في تسليط الضوء على الشباب السعودي الذي يذهب للجهاد في سوريا تحت ألوية القاعدة الموزعة هناك بين داعش وجبهة النصرة، بعدما فتح الإعلامي داوود الشريان مُذيع قناة «أم بي سي» في برنامج «الثامنة» النار على من سماهم «دعاة الجهاد»، وسمى أشخاصا كالعرعور والعودة والعواجي والعريفي متهماً إياهم بتحريض الشباب على السفر للجهاد في حرب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، كما سبق أن فعل «الصحويون» ذلك في أفغانستان والعراق، فيما أتت ردود الفعل متفاوتة بين هؤلاء المشايخ؛ فمنهم من هدد الشريان برفع قضية تشهير إن لم يعتذر كالشيخ سلمان العودة، ومنهم من لاذ بالصمت كالعريفي. في الحقيقة هي ليست المرة الأولى، ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة التي ينجح فيها النظام في قلب الطاولة على الجميع لمصلحته، بعدما كان يغضّ الطرف عن الحملات الإعلامية التي كانت تحث السعوديين على دعم الجهاد في سورية، بكل الوسائل المتاحة في نسخة كربونية عما حدث سابقاً في الحرب الأفغانية والحرب العراقية، وكذلك المشايخ الذين لم يتوانوا يوماً عن التعبير عن دعمهم للجهاديين هناك، بعدما اطمأنوا إلى الموقف الرسمي المؤيد لإسقاط النظام بالقوة، ولو من خلال جماعات جهادية متطرفة لا تعترف بالحدود الدولية ولا بالتسويات السياسية، حتى باتت العوائل في بعض مدن المملكة تشتكي من كثرة المراهقين الذين يحلمون بـ«النفير» إلى الشام شوقاً للقاء الحور العين.فبالأمس كانوا يتفرجون ويُضفون عليهم لقب «مجاهدين»، والآن تحولوا بقدرة قادر إلى «إرهابيين» هم ومن حرَّضهم على الذهاب، حيث جرى استصدار قانون جديد للإرهاب يُجرَّم الممولين والمحرضين للشباب في لعبة معانٍ لها دلالتها الخاصة على المشهد السياسي داخل المملكة. فقد تحول «الجهاد» إلى «إرهاب» بعدما كان الإرهابُ جهاداً، وهذا ليس التباسا في المعاني، لكنه انقلاب في المشهد. ببساطة شديدة، في اللعبة السياسية كما في غيرها من الألعاب كما يُحبذ بورديو وصف الأفعال الاجتماعية، فإن القوي غالباً هو من يفرض معانيه وقوانينه وأثمانه على المشاركين في اللعبة، وهو يعرف كيف يفوز على خصومه في كل الجولات؛ لأنه الطرف الذي يملك رأس المال الأوفر حيث يُبقيه متفوقاً ومتحكماً في اللعبة طوال الوقت، وهو الوحيد أيضاً الذي يضع معايير الفوز وإمكان تغييرها متى شعر باقتراب مُنافسيه من هزمه.   ماذا يعني هذا الكلام، يعني أن السلطة في السعودية تملك عناصر قوة غاشمة تسمح لها بتغيير المعاني التي تظهر على الجهاز المفاهيمي لأفراد المجتمع بسلاسة من خلال آلة إعلامية جبارة، ومؤسسة دينية بالغة السطوة، وجهاز بيروقراطي متغول، فقد يتحول الخير إلى شر، والحسن إلى قبيح، والباطل إلى حق والعكس صحيح، بحسب الظروف التي تمر بها هي دونما اكتراث لبقية اللاعبين المحليين، ويُجبَر الآخرون على قبول شروطها وتوصيفاتها للأشياء، فها هي تترك مفهوم «الإرهاب» دونما تعريف واضح، لكي يتسع لما شاءت له إرادة السلطة، ولهذا الإهمال المتعمد لتحديد المعنى نتائج وخيمة على المجتمع وأفراده، فقد ينتقل الفرد أو الجماعة داخل المملكة من تصنيف إلى آخر نقيضه في لمحة بصر. حدث هذا ليس فقط في ما يتعلق بالجهاد في سورية، بل أيضا حتى على مستوى التعامل مع رجال الدين كما حدث للشيخ ابن جبرين، حينما نُعت بالمدعو بعدما كان عضواً في هيئة كبار العلماء؛ بسبب توقيعه بيان لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية. وهو ما يحدث الآن مع الشيخ سلمان العودة، الذي كان يشارك في مؤتمر الحوار الوطني كشيخ «معتدل»، وكان ضيفاً دائماً على برنامج «حجر الزاوية» في قناة «أم بي سي» نفسها قبل أن تقرر السلطة التي تملك القناة وتشرف عليها تحويله إلى مُحضّ على الإرهاب، وكذلك مع التيارات السياسية الدينية، ومنها حركة الإخوان المسلمين في السعودية، بعد ما جرى إدراج الحركة الأم في مصر على لائحة الإرهاب، وبعدما كانت الحركة المحلية معززة مكرمة في المؤسسات الدينية الرسمية في السعودية، بعدما استضافها الملك فيصل واستفاد منها أيما افادة في سد الفراغ الإيديولوجي والإداري في الأجهزة الدينية في فترة مواجهته للفكر القومي في العهد الناصري. إن السلطة السياسية في السعودية تقبض على سلطة قاهرة تُتيح لها تبديل المعاني الرمزية وتغيير قواعد اللعبة كلما اقترب المنافسون من تحقيق الهدف، لكن اللعبة هذه المرة خطيرة جداً؛ لكونها لعبة معاني كبرى، ولأنها تُصنِّف شرائح شعبية واسعة في خانة الإرهاب كمقدمة لإقصائهم، مما ينذر بتصدع اجتماعي كبير وغير مأمون النتائج، وإن كانت الكرة والصافرة في يد لاعب واحد.    

المصدر : محمد الصادق - الأخبار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة