زيارة المشير عبد الفتاح السيسي نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع المصري إلى موسكو على رأس وفد يضم وزير الخارجية نبيل فهمي، أثارت “غيرة” واشنطن، وأحيت الحرب الباردة بين القوتين العظميين، وهي حرب كانت مصر عبد الناصر جزءا أساسيا فيها في صورتها القديمة، أي قبل انهيار الاتحاد السوفييتي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وضع إصبعه على العصب الأكثر حساسية لدى واشنطن عندما قال لضيفه المصري “اعرف أنكم أخذتم قرار الترشح لانتخابات الرئاسة في مصر.. إنه قرار مسؤول جدا تولي مهمة من اجل الشعب المصري.. أتمنى لكم باسمي واسم الشعب الروسي النجاح”.

هذا الكلام عادي، يأتي في إطار المجاملات وكسر الجليد بين رجلين يلتقيان للمرة الأولى، لكن ما هو غير عادي الغضبة الأمريكية المسعورة التي جاءت على لسان ماري هارف المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية عندما قالت “إن اختيار الرئيس أمر يعود للشعب المصري ولا يعود لأي شخص آخر خارج مصر”.

***

كلام جميل جدا، ونتفق مع كل حرف ورد في تصريحات السيدة هارف، ولكن أليس من حقنا أن نذكرها ورئيسها، وإدارتها، أن بلادها هي آخر دولة على وجه الخليقة تلتزم به؟ ثم من قال أن الرئيس الروسي هو من يعين الرئيس المصري؟

طالما أن الشعوب هي التي تقرر اختيار من يحكمها، فلماذا تدخلت الولايات المتحدة وأرسلت آلاف الطائرات والقاذفات ومئات الآلاف من الجنود لإطاحة الرئيس العراقي صدام حسين في العراق، واحتلت بلاده لأكثر من عشر سنوات، ولماذا تدخلت في ليبيا وأطاحت نظامها القائم وحولتها إلى دولة فاشلة تسودها الفوضى والفساد وانتشار الميليشيات؟

أمريكا لم تكتف بتغيير النظام العراقي السابق بالقوة بل قتلت مليون من أبنائه، وبذرت بذور التقسيم الطائفي والعرقي، وحولت البلاد التي كانت آمنة مستقرة متعايشة إلى دولة فاشلة تخضع لحكم طائفي بغيض، وتحتل واحدة من المراتب الخمس الأولى على قائمة الفساد في العالم.

نعم.. لا نريد امريكا ولا روسيا، ولا أي قوة أخرى في العالم لكي تختار لنا رئيسنا، لان هذه مسؤولية شعوبنا ومن خلال انتخابات حرة نزيهة بإشراف دولي، ومشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي الشعبي بعيدا عن سياسات إقصاء أو العزل.

لا نقبل محاضرات في الديمقراطية من الولايات المتحدة، والمتحدثين باسمها، وهي التي دعمت وما زالت، أعتى الديكتاتوريات الفاسدة في منطقتنا العربية، وتحاول فرض إسرائيل كدولة عنصرية يهودية يجب الرضوخ لها، والاعتراف بها.

نحن لا نقول هذا الكلام دفاعا عن السيسي وانقلابه العسكري، ولا انتصارا للرئيس الروسي بوتين في مواجهة هذه الهجمة الأمريكية، وإنما فضحا لازدواجية المعايير الأمريكية التي عانينا منها طويلا على مدى السنوات الخمسين الماضية.

هذه الغضبة الامريكية لا تنطلق من الحرص على مصر وشعبها، وإنما خوفا من خروج مصر من القفص الأمريكي الإسرائيلي عبر البوابة الروسية، فأمريكا استثمرت أكثر من خمسين مليار دولار في دعم المؤسسة العسكرية المصرية بالمال والسلاح منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد لتثبيت هذه الاتفاقات وتعميق جذورها، وإلزام مصر باحترامها حماية لإسرائيل ودعما لسياساتها العدوانية واحتلالها للأراضي العربية.

***

لا نريد أن نقارب بين صفقة الأسلحة التشيكية التي اشتراها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد نجاح ثورته العسكرية عام 1952 وكانت نقطة تحول تاريخية أخرجت مصر من معسكر التبعية الغربي، وبين صفقة الأسلحة التي وقعها المشير السيسي بالأحرف الأولى وقيمتها ثلاثة مليارات دولار بتمويل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، لأننا ما زلنا غير واثقين بمدى جدية هذه الخطوة للمشير السيسي، وما إذا كانت “مناورة تكتيكية” أم تحول استراتيجي يمكن أن يتطور لاحقا إلى سياسات أكثر وضوحا وصلابة تجاه اتفاقات كامب ديفيد وإفرازاتها الكارثية على الأمة العربية.

عارضنا، وما زلنا نعارض ترشح السيسي للانتخابات الرئاسية المصرية، لأننا نريد مصر دولة مدنية لا عسكرية، ونتطلع لبقاء جيشها في ثكنات بعيدا عن السياسة، ولكننا في الوقت نفسه نريد أن تعود مصر إلى الأمة العربية دولة قوية ذات سيادة تملك قرارها المستقل وكرامتها الوطنية ولا يتحقق هذا إلا من خلال عدة أمور أساسية أولها المصالحة الوطنية، والانتخابات الحرة النزيهة، والتحرر من اتفاقات ومعاهدات الهيمنة وعلى رأسها اتفاقات كامب ديفيد، وتبيض السجون والمعتقلات ووقف كل أشكال القمع وهيمنة الرأي الواحد.

المصالح الأمريكية في المنطقة العربية تتراجع لمصلحة نظيرتها الروسية، لأن أمريكا لا ترى المنطقة إلا من منظور الأمن الإسرائيلي.. أمريكا مخطوفة من قبل اللوبي اليهودي، ولهذا تخسر حلفاءها القدامى دون أن تكسب أي حلفاء جدد.. وهذا يسرنا في جميع الأحوال!

  • فريق ماسة
  • 2014-02-13
  • 7898
  • من الأرشيف

لانقبل محاضرات من أمريكا حول انتخاب رؤسائنا وهي التي غيرتهم بالغزو والاحتلال..وستخسر المنطقة بأسرها لدعمها المفتوح لإسرائيل

زيارة المشير عبد الفتاح السيسي نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع المصري إلى موسكو على رأس وفد يضم وزير الخارجية نبيل فهمي، أثارت “غيرة” واشنطن، وأحيت الحرب الباردة بين القوتين العظميين، وهي حرب كانت مصر عبد الناصر جزءا أساسيا فيها في صورتها القديمة، أي قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وضع إصبعه على العصب الأكثر حساسية لدى واشنطن عندما قال لضيفه المصري “اعرف أنكم أخذتم قرار الترشح لانتخابات الرئاسة في مصر.. إنه قرار مسؤول جدا تولي مهمة من اجل الشعب المصري.. أتمنى لكم باسمي واسم الشعب الروسي النجاح”. هذا الكلام عادي، يأتي في إطار المجاملات وكسر الجليد بين رجلين يلتقيان للمرة الأولى، لكن ما هو غير عادي الغضبة الأمريكية المسعورة التي جاءت على لسان ماري هارف المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية عندما قالت “إن اختيار الرئيس أمر يعود للشعب المصري ولا يعود لأي شخص آخر خارج مصر”. *** كلام جميل جدا، ونتفق مع كل حرف ورد في تصريحات السيدة هارف، ولكن أليس من حقنا أن نذكرها ورئيسها، وإدارتها، أن بلادها هي آخر دولة على وجه الخليقة تلتزم به؟ ثم من قال أن الرئيس الروسي هو من يعين الرئيس المصري؟ طالما أن الشعوب هي التي تقرر اختيار من يحكمها، فلماذا تدخلت الولايات المتحدة وأرسلت آلاف الطائرات والقاذفات ومئات الآلاف من الجنود لإطاحة الرئيس العراقي صدام حسين في العراق، واحتلت بلاده لأكثر من عشر سنوات، ولماذا تدخلت في ليبيا وأطاحت نظامها القائم وحولتها إلى دولة فاشلة تسودها الفوضى والفساد وانتشار الميليشيات؟ أمريكا لم تكتف بتغيير النظام العراقي السابق بالقوة بل قتلت مليون من أبنائه، وبذرت بذور التقسيم الطائفي والعرقي، وحولت البلاد التي كانت آمنة مستقرة متعايشة إلى دولة فاشلة تخضع لحكم طائفي بغيض، وتحتل واحدة من المراتب الخمس الأولى على قائمة الفساد في العالم. نعم.. لا نريد امريكا ولا روسيا، ولا أي قوة أخرى في العالم لكي تختار لنا رئيسنا، لان هذه مسؤولية شعوبنا ومن خلال انتخابات حرة نزيهة بإشراف دولي، ومشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي الشعبي بعيدا عن سياسات إقصاء أو العزل. لا نقبل محاضرات في الديمقراطية من الولايات المتحدة، والمتحدثين باسمها، وهي التي دعمت وما زالت، أعتى الديكتاتوريات الفاسدة في منطقتنا العربية، وتحاول فرض إسرائيل كدولة عنصرية يهودية يجب الرضوخ لها، والاعتراف بها. نحن لا نقول هذا الكلام دفاعا عن السيسي وانقلابه العسكري، ولا انتصارا للرئيس الروسي بوتين في مواجهة هذه الهجمة الأمريكية، وإنما فضحا لازدواجية المعايير الأمريكية التي عانينا منها طويلا على مدى السنوات الخمسين الماضية. هذه الغضبة الامريكية لا تنطلق من الحرص على مصر وشعبها، وإنما خوفا من خروج مصر من القفص الأمريكي الإسرائيلي عبر البوابة الروسية، فأمريكا استثمرت أكثر من خمسين مليار دولار في دعم المؤسسة العسكرية المصرية بالمال والسلاح منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد لتثبيت هذه الاتفاقات وتعميق جذورها، وإلزام مصر باحترامها حماية لإسرائيل ودعما لسياساتها العدوانية واحتلالها للأراضي العربية. *** لا نريد أن نقارب بين صفقة الأسلحة التشيكية التي اشتراها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد نجاح ثورته العسكرية عام 1952 وكانت نقطة تحول تاريخية أخرجت مصر من معسكر التبعية الغربي، وبين صفقة الأسلحة التي وقعها المشير السيسي بالأحرف الأولى وقيمتها ثلاثة مليارات دولار بتمويل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، لأننا ما زلنا غير واثقين بمدى جدية هذه الخطوة للمشير السيسي، وما إذا كانت “مناورة تكتيكية” أم تحول استراتيجي يمكن أن يتطور لاحقا إلى سياسات أكثر وضوحا وصلابة تجاه اتفاقات كامب ديفيد وإفرازاتها الكارثية على الأمة العربية. عارضنا، وما زلنا نعارض ترشح السيسي للانتخابات الرئاسية المصرية، لأننا نريد مصر دولة مدنية لا عسكرية، ونتطلع لبقاء جيشها في ثكنات بعيدا عن السياسة، ولكننا في الوقت نفسه نريد أن تعود مصر إلى الأمة العربية دولة قوية ذات سيادة تملك قرارها المستقل وكرامتها الوطنية ولا يتحقق هذا إلا من خلال عدة أمور أساسية أولها المصالحة الوطنية، والانتخابات الحرة النزيهة، والتحرر من اتفاقات ومعاهدات الهيمنة وعلى رأسها اتفاقات كامب ديفيد، وتبيض السجون والمعتقلات ووقف كل أشكال القمع وهيمنة الرأي الواحد. المصالح الأمريكية في المنطقة العربية تتراجع لمصلحة نظيرتها الروسية، لأن أمريكا لا ترى المنطقة إلا من منظور الأمن الإسرائيلي.. أمريكا مخطوفة من قبل اللوبي اليهودي، ولهذا تخسر حلفاءها القدامى دون أن تكسب أي حلفاء جدد.. وهذا يسرنا في جميع الأحوال!

المصدر : الرأي اليوم/ عبد الباري عطوان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة