«ما من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه». لا تصحّ عبارة في حق أهالي صيدنايا أكثر من هذه الآية للسيد المسيح. فأهالي المنطقة غالبيتهم من الميسورين، ويملك العديد منهم إقامات في دول أجنبية، كما أن كثيراً منهم يملك منازل في العاصمة دمشق، إلا أن أحداً منهم لم يغادر المنطقة بل على العكس. فمع تأزم الأحوال عادت بعض العائلات من العاصمة لتستقرّ في منازلها في صيدنايا.

البلدة التي تقرع أجراسها عندما يصبح الخطر داهماً إثر سقوط قذائف هاون على دير الشيروبيم أو دير صيدنايا أو مع حصول أي هجوم، كالهجوم الرابع الذي حصل في 19 كانون الثاني الماضي، تحوّل أبناؤها إلى مطلوبين من المسلّحين.

«صيدناوي» تهمة كافية بالنسبة إلى هؤلاء ليقتلوا من ألحق بهم هزائم فادحة، كان آخرها خلال الهجوم الرابع، فضلاً عن التهمة الأساسية بأنهم «نصارى» (بحسب تعبير المجموعات المسلّحة).

يعلّق الأهالي باعتزاز على المعركة الأخيرة بالقول: «ماتوا جميعاً (المسلّحون). ما بقي مين يخبّر منهم»، متجاهلين القذائف التي تسقط بشكل يومي. يتعلقون بإيمانهم بالسيدة العذراء وابنها. ويتجاهلون ايضا التهديدات أكانت حول تفجيرات محتملة بسيارات مفخخة أم تهديدات مباشرة بأن «دوركم سيكون بعد معلولا»، كما يخبر أحد وجهاء المنطقة.

في صيدنايا (وتعني سيدتنا)، التي تقع على ارتفاع 1450 متراً عن سطح البحر، يعيش حوالي 20 ألف نسمة غالبيتهم من المسيحيين، فيما تحتوي على 21 ديراً و40 كنيسة، بالإضافة إلى جامع صيدنايا الكبير الذي يظهر إلى يسارك حين تصل إلى باحة الدير.

على الطريق إلى الدير، عدد كبير من المقاهي والفنادق المتوقفة عن العمل بسبب الأزمة في سوريا والاشتباكات التي تدور في المنطقة. على الطريق «مدينة ملاهي» توقّفت منذ ثلاث سنوات احتفظت بابتسامة طفل في سيارة يتآكلها الصدأ، والدولاب الكبير توقّف على أمل أن تعود عقارب الساعة الى الوراء، فيعود إلى الدوران.

دير صيدنايا، هو أحد أهم المعالم المسيحية في المنطقة المتكئ على واحدة من سفوح جبل القلمون. استقبل الدير على مدار السنوات ملايين المصلين والحجاج من أصقاع الأرض كافة، فهو يعتبر واحداً من أجمل وأقدم الصروح المسيحية في العالم.

في الدير الجليل، تسير بخطى على وقع خفقان قلبك في مكان يعبق برائحة البخور والقداسة. من على الدرج الخارجي صعوداً، تمرّ بنفقٍ صغير لتصل إلى الساحة حيث الأرضية من الحجار الملونة.

بني الدير خلال العام 547، وتواصلت فيه حياة الرهبنة منذ القرن الخامس الميلادي. وتعرّض لزلزال قوي في العام 1759 فدمّر؛ ثم أعيد بناؤه في العام 1766 ليتم ترميمه في العام 1860.

تعرّض الدير في الأزمة الأخيرة للقصف بعشرات قذائف الهاون التي اقتصرت أضرارها على المادي، وكان آخرها قذيفة اخترقت السقف الحجري لتقسمه إلى جزءين وتستقر في الغرفة من دون أن تنفجر. «قذائف الهاون لم تصب يوماً أحداً من الأهالي. السيدة عم تحمي الضيعة وأهلها»، يقول أحد سكان المنطقة.

في مقام الشاغورة (وتعني المشهورة أو ذائعة الصيت)، وهو عبارة عن مغارة صغيرة محفورة في الصخر، يُطلب منك خلع حذائك احتراماً للمكان وقدسيته. تفوح من المغارة المظلمة، التي تنيرها الشموع المقدسة التي يضيئها المصلون، رائحة البخور والقداسة، فيما تتدلى من الكنيسة المصابيح والقناديل الزيتية.

في صدر الصرح الصغير أيقونة السيدة العذراء التي رسمها القديس لوقا، وهي واحدة من خمس أيقونات رسمها هذا القديس الرسول. وصلت هذه الأيقونة في العام 888 على يد الراهب ثاوذوروس الذي جاء قبيل الفصح إلى صيدنايا مع قافلة من الحجّاج إلى القدس الشريف، وكان أبلغ رئيسة الدير آنذاك الأم مارينا عن نيته تقديم أيقونة للسيدة يشتريها من القدس.

في الكنيسة تصلّي وتضيء شمعة، فيما يعتريك خشوع استثنائي. تسألك الأخت: «هل أخذت بخوراً وزيتاً؟ كم خيطاً مباركاً تريد؟». تسارع إلى منحك كل ما شئت؛ ثم تسألك: «من أين أنت؟»، وحين تعرف أنك من لبنان تسترسل في سرد أحداث عن زوار الدير من اللبنانيين والحافلات اللبنانية التي كانت تواظب على زيارة المكان، خصوصاً في عيد السيدة، معربة عن اشتياقها لتلك الأيام. تقول: «لم نكن نظن يوماً أننا سنعاني ما نعانيه. إيماننا بالله والعذراء كبير». وإذا خانتك دموعك أمام الظلم الذي تعانيه أرضنا، تناولك محرمة وتمسك يدك وتردد: «لا تخافوا أنا معكم حتى انقضاء العالم» (آية للسيد المسيح من إنجيل القديس متى الرسول).

في القاعة الدافئة التي علّقت فيها صور للسيدة العذراء وللبطاركة ورئيسات الدير، تستقبلك وكيلة رئيسة الدير لتفهم سبب قدومك. فإن كان قدومك للزيارة فقط، فرئيسة الدير الأم فيرونا نبهان مستعدة دائماً للترحيب بالزوار، أما بانسبة للصحافيين فباتت ترفض مقابلتهم.

تسأل الأخت الوكيلة عن السبب والهدف من المقابلة، وبعد الإجابة تبتسم وتستدعي رئيسة الدير التي تستهل حديثها قائلة إن «الإعلام بات يسيء للإنسان وللقضية، فهو يعمل لصب الزيت على النار».

تشير الأم في حديثها إلى «السفير»، إلى أن القذائف تسقط باستمرار على الدير، فيما تواجه الأخوات المدفع بصلاة يومية «من أجل الوطن والجيش وحفاظاً على كرامتنا وعزة أرضنا كي لا يؤثر فيها الشياطين».

وتضيف الأم أن «أميرات العذراء»، وهن الفتيات اللواتي يسكنَّ في ميتم الدير، بِتْنَ يتابعْنَ سقوط الهاون ويعاينَّ الأضرار، مؤكدة أن «عليهن أن يفهمن ويعرفن ما يجري. لا يمكن لنا ولأي أهل أن يخفوا ما تتعرض له البلاد، فهن جزءٌ من مستقبل هذه الأرض».

ترفض الحديث عن تواصلها مع راهبات معلولا، وتعلّق: «لم يكن يجب أن يحصل ذلك. بأي طريقة كان يجب منع استباحة البلدة». وتتابع: «يا رب ارحم. يا جندية يا محامية (تقصد السيدة العذراء)»، داعية السيدة العذراء إلى أن تحمي المنطقة.

من جهة أخرى، يقول مصدر عسكري في المنطقة: «لا يمكن لغريب أن يطأ هذه الأرض، في الوقت الذي يقاتل فيه حتى الرجال الكبار في السن وبعضهم من تخطى عامه السبعين»، مشيراً إلى أن المنطقة التي تتعرّض، منذ عام، للقصف، اشتدّت وتيرة الاشتباكات فيها حيث يسعى المسلحون إلى تحصيل «نصر مفترض» فتكون صيدنايا بعد معلولا.

«قدّمت المنطقة 22 شهيداً في المعارك في الدير ومختلف أنحاء سوريا»، يروي أحد سكان البلدة، مذكّراً بأن «الشاب فيليب الأحمر استشهد في الهجوم الرابع حين أصرّ على الصعود إلى دير الشيروبيم، أما الياس فبعد استشهاده أصبح أخوه وحيداً إلا أنه انخرط أيضاً في القتال، وجوزيف بات يواظب مع أخويه في الوقوف عند الحواجز».

«ننتظر بفارغ الصبر ردّ المسلحين وعودتهم إلى أرضنا»، يقول الرجل الستيني وينظر إليّ بعينين زرقاوين بثقة وفخر وعزم. ويضيف: «شفتي هالشاب على الحاجز (يشير إلى أحد رجال الدفاع الوطني). ولك الله والعدرا خلّصوه. رجع من الموت». كان الشاب ينقل جرحى خلال الهجوم الأخير على دير الشيروبيم، وكمن له المسلّحون ينتظرونه خلف الصخور وأطلقوا نيراناً كثيفة على السيارة ما أدى إلى إصابة الجميع ما عداه، كما أنه استطاع تسليم الجرحى والشهيد وانطفأت «السيارة المخردقة»، بحسب تعبير الستيني عند حاجز «مطعم الجنة» في أول المنطقة.

يروي أحد سكان البلدة، أن راهباً في المنطقة حمل السلاح، وكان مستعداً لمساندة القوات السورية في قتالها ضد التكفيريين. وينطلق رجال الدين المسيحيون في المنطقة في مواقفهم المساندة للجيش السوري ورجال «الدفاع الوطني» من مقولة «ما متت... ما شفت مين مات؟».

أما الشيوخ في صيدنايا فقد كانوا داعمين للحرب على التكفير انطلاقاً من أن الهجمة تستهدف المسيحيين والمسلمين على حد سواء من جهة، وتشوّه صورة الإسلام من جهة أخرى، فضلاً عن أنهم تيقّنوا من ممارسات المجموعات المسلّحة في المناطق التي يسيطرون عليها والتي لا تتناسب ليس فقط مع الإسلام، بل تنتهك صراحة المبدأ الأساس أن «لا إكراه في الدين».

في صيدنايا، لعبت المرأة دوراً محورياً في كل الأحداث، فهي كانت الداعم والمساند والمؤازر. تطبخ وتحيك الصوف، وتتلقى دورات إسعافات أولية، كما تحث النساءُ رجالَ الضيعة على القتال في مواجهة الحملة الحثيثة لتهجير الأهالي والسيطرة على البلدة التاريخية.

منذ فترة، نشر تنظيم «جبهة النصرة» مقطعاً مصوّراً توجه فيه إلى المسيحيين بالقول: «لقد كنتم على مدى سنتين من قتالنا مع طاغية الشام وأذنابه، كنتم محايدين، وكنا نحن من يحميكم، أما الآن وقد حوّلتم كنائسكم ومقدساتكم إلى ثكنات عسكرية لذلك الطاغوت فلا والله لن نرضاها»، محذراً من أن «سيوف الإسلام ستسلّ على رقابكم في عقر دياركم بإذن الله، والله على ما نقول شهيد».

التقرير المصوّر يظهر قصف دير الشيروبيم مرفقاً بأنشودة «ونمزق الطاغوت والكفر بعزيمة جبارة كبرى وإرادة لا تعرف القهر بدمائنا سنلوّن الفجر... سيزول ليل الشرك والإلحاد».

المحاولات الفاشلة للإرهابيين يقابلها الأهالي بانغراس وصمود وعزيمة وابتسامة. وصيدنايا، التي تفيد الروايات ان نوح زرع أول شجرة كرمة فيها، تقدّم القرابين على مذبح خلاص سوريا.

  • فريق ماسة
  • 2014-02-04
  • 12995
  • من الأرشيف

دير صيدنايا قرابين على مذبح خلاص سورية

«ما من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه». لا تصحّ عبارة في حق أهالي صيدنايا أكثر من هذه الآية للسيد المسيح. فأهالي المنطقة غالبيتهم من الميسورين، ويملك العديد منهم إقامات في دول أجنبية، كما أن كثيراً منهم يملك منازل في العاصمة دمشق، إلا أن أحداً منهم لم يغادر المنطقة بل على العكس. فمع تأزم الأحوال عادت بعض العائلات من العاصمة لتستقرّ في منازلها في صيدنايا. البلدة التي تقرع أجراسها عندما يصبح الخطر داهماً إثر سقوط قذائف هاون على دير الشيروبيم أو دير صيدنايا أو مع حصول أي هجوم، كالهجوم الرابع الذي حصل في 19 كانون الثاني الماضي، تحوّل أبناؤها إلى مطلوبين من المسلّحين. «صيدناوي» تهمة كافية بالنسبة إلى هؤلاء ليقتلوا من ألحق بهم هزائم فادحة، كان آخرها خلال الهجوم الرابع، فضلاً عن التهمة الأساسية بأنهم «نصارى» (بحسب تعبير المجموعات المسلّحة). يعلّق الأهالي باعتزاز على المعركة الأخيرة بالقول: «ماتوا جميعاً (المسلّحون). ما بقي مين يخبّر منهم»، متجاهلين القذائف التي تسقط بشكل يومي. يتعلقون بإيمانهم بالسيدة العذراء وابنها. ويتجاهلون ايضا التهديدات أكانت حول تفجيرات محتملة بسيارات مفخخة أم تهديدات مباشرة بأن «دوركم سيكون بعد معلولا»، كما يخبر أحد وجهاء المنطقة. في صيدنايا (وتعني سيدتنا)، التي تقع على ارتفاع 1450 متراً عن سطح البحر، يعيش حوالي 20 ألف نسمة غالبيتهم من المسيحيين، فيما تحتوي على 21 ديراً و40 كنيسة، بالإضافة إلى جامع صيدنايا الكبير الذي يظهر إلى يسارك حين تصل إلى باحة الدير. على الطريق إلى الدير، عدد كبير من المقاهي والفنادق المتوقفة عن العمل بسبب الأزمة في سوريا والاشتباكات التي تدور في المنطقة. على الطريق «مدينة ملاهي» توقّفت منذ ثلاث سنوات احتفظت بابتسامة طفل في سيارة يتآكلها الصدأ، والدولاب الكبير توقّف على أمل أن تعود عقارب الساعة الى الوراء، فيعود إلى الدوران. دير صيدنايا، هو أحد أهم المعالم المسيحية في المنطقة المتكئ على واحدة من سفوح جبل القلمون. استقبل الدير على مدار السنوات ملايين المصلين والحجاج من أصقاع الأرض كافة، فهو يعتبر واحداً من أجمل وأقدم الصروح المسيحية في العالم. في الدير الجليل، تسير بخطى على وقع خفقان قلبك في مكان يعبق برائحة البخور والقداسة. من على الدرج الخارجي صعوداً، تمرّ بنفقٍ صغير لتصل إلى الساحة حيث الأرضية من الحجار الملونة. بني الدير خلال العام 547، وتواصلت فيه حياة الرهبنة منذ القرن الخامس الميلادي. وتعرّض لزلزال قوي في العام 1759 فدمّر؛ ثم أعيد بناؤه في العام 1766 ليتم ترميمه في العام 1860. تعرّض الدير في الأزمة الأخيرة للقصف بعشرات قذائف الهاون التي اقتصرت أضرارها على المادي، وكان آخرها قذيفة اخترقت السقف الحجري لتقسمه إلى جزءين وتستقر في الغرفة من دون أن تنفجر. «قذائف الهاون لم تصب يوماً أحداً من الأهالي. السيدة عم تحمي الضيعة وأهلها»، يقول أحد سكان المنطقة. في مقام الشاغورة (وتعني المشهورة أو ذائعة الصيت)، وهو عبارة عن مغارة صغيرة محفورة في الصخر، يُطلب منك خلع حذائك احتراماً للمكان وقدسيته. تفوح من المغارة المظلمة، التي تنيرها الشموع المقدسة التي يضيئها المصلون، رائحة البخور والقداسة، فيما تتدلى من الكنيسة المصابيح والقناديل الزيتية. في صدر الصرح الصغير أيقونة السيدة العذراء التي رسمها القديس لوقا، وهي واحدة من خمس أيقونات رسمها هذا القديس الرسول. وصلت هذه الأيقونة في العام 888 على يد الراهب ثاوذوروس الذي جاء قبيل الفصح إلى صيدنايا مع قافلة من الحجّاج إلى القدس الشريف، وكان أبلغ رئيسة الدير آنذاك الأم مارينا عن نيته تقديم أيقونة للسيدة يشتريها من القدس. في الكنيسة تصلّي وتضيء شمعة، فيما يعتريك خشوع استثنائي. تسألك الأخت: «هل أخذت بخوراً وزيتاً؟ كم خيطاً مباركاً تريد؟». تسارع إلى منحك كل ما شئت؛ ثم تسألك: «من أين أنت؟»، وحين تعرف أنك من لبنان تسترسل في سرد أحداث عن زوار الدير من اللبنانيين والحافلات اللبنانية التي كانت تواظب على زيارة المكان، خصوصاً في عيد السيدة، معربة عن اشتياقها لتلك الأيام. تقول: «لم نكن نظن يوماً أننا سنعاني ما نعانيه. إيماننا بالله والعذراء كبير». وإذا خانتك دموعك أمام الظلم الذي تعانيه أرضنا، تناولك محرمة وتمسك يدك وتردد: «لا تخافوا أنا معكم حتى انقضاء العالم» (آية للسيد المسيح من إنجيل القديس متى الرسول). في القاعة الدافئة التي علّقت فيها صور للسيدة العذراء وللبطاركة ورئيسات الدير، تستقبلك وكيلة رئيسة الدير لتفهم سبب قدومك. فإن كان قدومك للزيارة فقط، فرئيسة الدير الأم فيرونا نبهان مستعدة دائماً للترحيب بالزوار، أما بانسبة للصحافيين فباتت ترفض مقابلتهم. تسأل الأخت الوكيلة عن السبب والهدف من المقابلة، وبعد الإجابة تبتسم وتستدعي رئيسة الدير التي تستهل حديثها قائلة إن «الإعلام بات يسيء للإنسان وللقضية، فهو يعمل لصب الزيت على النار». تشير الأم في حديثها إلى «السفير»، إلى أن القذائف تسقط باستمرار على الدير، فيما تواجه الأخوات المدفع بصلاة يومية «من أجل الوطن والجيش وحفاظاً على كرامتنا وعزة أرضنا كي لا يؤثر فيها الشياطين». وتضيف الأم أن «أميرات العذراء»، وهن الفتيات اللواتي يسكنَّ في ميتم الدير، بِتْنَ يتابعْنَ سقوط الهاون ويعاينَّ الأضرار، مؤكدة أن «عليهن أن يفهمن ويعرفن ما يجري. لا يمكن لنا ولأي أهل أن يخفوا ما تتعرض له البلاد، فهن جزءٌ من مستقبل هذه الأرض». ترفض الحديث عن تواصلها مع راهبات معلولا، وتعلّق: «لم يكن يجب أن يحصل ذلك. بأي طريقة كان يجب منع استباحة البلدة». وتتابع: «يا رب ارحم. يا جندية يا محامية (تقصد السيدة العذراء)»، داعية السيدة العذراء إلى أن تحمي المنطقة. من جهة أخرى، يقول مصدر عسكري في المنطقة: «لا يمكن لغريب أن يطأ هذه الأرض، في الوقت الذي يقاتل فيه حتى الرجال الكبار في السن وبعضهم من تخطى عامه السبعين»، مشيراً إلى أن المنطقة التي تتعرّض، منذ عام، للقصف، اشتدّت وتيرة الاشتباكات فيها حيث يسعى المسلحون إلى تحصيل «نصر مفترض» فتكون صيدنايا بعد معلولا. «قدّمت المنطقة 22 شهيداً في المعارك في الدير ومختلف أنحاء سوريا»، يروي أحد سكان البلدة، مذكّراً بأن «الشاب فيليب الأحمر استشهد في الهجوم الرابع حين أصرّ على الصعود إلى دير الشيروبيم، أما الياس فبعد استشهاده أصبح أخوه وحيداً إلا أنه انخرط أيضاً في القتال، وجوزيف بات يواظب مع أخويه في الوقوف عند الحواجز». «ننتظر بفارغ الصبر ردّ المسلحين وعودتهم إلى أرضنا»، يقول الرجل الستيني وينظر إليّ بعينين زرقاوين بثقة وفخر وعزم. ويضيف: «شفتي هالشاب على الحاجز (يشير إلى أحد رجال الدفاع الوطني). ولك الله والعدرا خلّصوه. رجع من الموت». كان الشاب ينقل جرحى خلال الهجوم الأخير على دير الشيروبيم، وكمن له المسلّحون ينتظرونه خلف الصخور وأطلقوا نيراناً كثيفة على السيارة ما أدى إلى إصابة الجميع ما عداه، كما أنه استطاع تسليم الجرحى والشهيد وانطفأت «السيارة المخردقة»، بحسب تعبير الستيني عند حاجز «مطعم الجنة» في أول المنطقة. يروي أحد سكان البلدة، أن راهباً في المنطقة حمل السلاح، وكان مستعداً لمساندة القوات السورية في قتالها ضد التكفيريين. وينطلق رجال الدين المسيحيون في المنطقة في مواقفهم المساندة للجيش السوري ورجال «الدفاع الوطني» من مقولة «ما متت... ما شفت مين مات؟». أما الشيوخ في صيدنايا فقد كانوا داعمين للحرب على التكفير انطلاقاً من أن الهجمة تستهدف المسيحيين والمسلمين على حد سواء من جهة، وتشوّه صورة الإسلام من جهة أخرى، فضلاً عن أنهم تيقّنوا من ممارسات المجموعات المسلّحة في المناطق التي يسيطرون عليها والتي لا تتناسب ليس فقط مع الإسلام، بل تنتهك صراحة المبدأ الأساس أن «لا إكراه في الدين». في صيدنايا، لعبت المرأة دوراً محورياً في كل الأحداث، فهي كانت الداعم والمساند والمؤازر. تطبخ وتحيك الصوف، وتتلقى دورات إسعافات أولية، كما تحث النساءُ رجالَ الضيعة على القتال في مواجهة الحملة الحثيثة لتهجير الأهالي والسيطرة على البلدة التاريخية. منذ فترة، نشر تنظيم «جبهة النصرة» مقطعاً مصوّراً توجه فيه إلى المسيحيين بالقول: «لقد كنتم على مدى سنتين من قتالنا مع طاغية الشام وأذنابه، كنتم محايدين، وكنا نحن من يحميكم، أما الآن وقد حوّلتم كنائسكم ومقدساتكم إلى ثكنات عسكرية لذلك الطاغوت فلا والله لن نرضاها»، محذراً من أن «سيوف الإسلام ستسلّ على رقابكم في عقر دياركم بإذن الله، والله على ما نقول شهيد». التقرير المصوّر يظهر قصف دير الشيروبيم مرفقاً بأنشودة «ونمزق الطاغوت والكفر بعزيمة جبارة كبرى وإرادة لا تعرف القهر بدمائنا سنلوّن الفجر... سيزول ليل الشرك والإلحاد». المحاولات الفاشلة للإرهابيين يقابلها الأهالي بانغراس وصمود وعزيمة وابتسامة. وصيدنايا، التي تفيد الروايات ان نوح زرع أول شجرة كرمة فيها، تقدّم القرابين على مذبح خلاص سوريا.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة