مات أرييل شارون أمس الأول، ويشيّع جثمانه اليوم. كثيرون فوجئوا بخبر وفاته، ليس لأنهم كانوا يتوقعون له عمراً مديداً، وإنما لأنهم ظنوا أنه مات منذ زمن طويل.

وبالفعل، ثماني سنوات مضت على موت شارون الفعلي في أواخر العام 2005 حينما دخل في حالة السبات، وبقي على قيد الحياة فقط بفضل أجهزة طبية. فقد أصرّت عائلة شارون على «الاحتفاظ بالأمل» في أن يعود إلى الحياة، إلى أن أعلنت أنه «قرّر الرحيل».

ومن المؤكد أن شارون في موته، كما في حياته، كان موضع خلاف، بل وخلاف شديد. فكثيرون جاهروا بأن إبقاء شارون على قيد الحياة اصطناعياً مكلف جداً للدولة، ومؤذ أخلاقياً، لأنه يخلف تمييزاً له عن الآخرين.

وأشار بعضهم إلى استعباد الأسطورة للإسرائيليين، بحيث لم يعد في وسعهم التمييز بين الخيال والواقع في كل ما يتعلق بسبات الرجل، الذي راجت شائعات حول تلذّذه في فراش الموت بروائح اللحم المشوي.

ومع ذلك، فإن شارون كان تجسيداً لحقيقة إسرائيل بما تثيره من خلاف وما تعكسه من تناقضات. وقد كتب رئيس الحكومة الأسبق، إيهود أولمرت، نعياً لشارون تحت عنوان «السيد إسرائيل».

كما أن افتتاحية صحيفة «هآرتس» شهدت له أنه جسّد أكثر من أي شخص آخر «نزعة القوة والزعرنة الإسرائيلية». وقد انطلق على الدوام من شعار تعلمه من والدته «لا تثق بالعرب»، وظل حتى آخر لحظة من حياته عديم الثقة بالعرب وبإمكانية السلام معهم. بل أنه حتى عندما قرر التراجع عن المشروع الاستيطاني في قطاع غزة، رفض أن يتم ذلك باتفاق مع السلطة الفلسطينية.

حاول أرييل شارون طوال تاريخه العسكري والسياسي الإقناع بشعار والدته وتأكيد أن حياة إسرائيل في قوتها وليس في السلام الذي يمكن أن تبرمه مع العرب.

وبالرغم من أنه تحالف في ظروف مختلفة مع بعض العرب، فإنه لم يغيّر أبداً موقفه منهم. فالعربي الجيد في نظره هو العربي الميت. وليس صدفة أنه في قيادته للوحدة 101 مظليين، والتي نشأت على عقيدة الانتقام، ظل يعزز هذه النظرة ويشدد على أن ما لا يتحقق بالقوة يمكن أن يتحقق فقط بمزيد من القوة.

لقد بنى شارون صورته كقائد عبر وحشية مارسها غالباً ضد مدنيين، بدءاً من مجزرة قبية في الضفة الغربية وتدمير وحصار قطاع غزة، مروراً باجتياح لبنان في العام 1982، وانتهاء بمجزرة جنين.

لم يتغير على هذا الصعيد كونه ضابطاً أو وزيراً للدفاع أو رئيساً للحكومة. فالغاية عنده كانت ولا تزال تبرر الوسيلة. والغاية الأسمى عنده هي بقاء الدولة اليهودية.

وبالرغم من أن شارون بنى صورته العامة كعسكري، إلا أن الكثيرين من العسكريين انتقدوا سلوكياته ولم يعتبروه لامعاً، والبعض يعتقد أنه لو حوسب شارون، مثلاً، على معركة المتلا في العام 1956 حينما قتل الكثير من جنوده عبثاً، لما بنيت بعد ذلك هالته. ويرى هؤلاء أن اعتباره «بطل الهجوم المضاد» في حرب تشرين العام 1973، كان تلصّصاً، لأن من نفذ الاختراق كان قائداً إسرائيلياً آخر.

وأياً يكن الحال، شكل شارون في الحياة السياسية الإسرائيلية مثالاً للانتهازية. فقد عمل على دخول الحياة السياسية حتى وهو في الجيش، وبعدما فهم أنه لن ينال منصب رئيس الأركان. ولأنه من مجتمع كان محكوماً بتيار عمالي، حاول في البداية عرض نفسه كيسار صهيوني حينما شكل قائمة «شلومتسيون».

ولكن سرعان ما أدرك أن المجتمع الإسرائيلي يتّجه وجهة أخرى، عمادها الاستيطان والتوسع، فلعب دوراً محورياً في تشكيل «الليكود» من أحزاب يمينية كـ«حيروت» و«ليبرالية صهيونية» وبقايا حزب بن غوريون، «رافي». واستفاد من الانتقادات الشديدة لحكومات «حزب العمل»، خصوصاً بعد «إخفاق» أو «تقصير» حرب تشرين.

وعندما حدث «الانقلاب» في العام 1977، وتولى زعيم «الليكود» مناحيم بيغن رئاسة الحكم، انطلق شارون لـ«يزرع» الضفة الغربية بالمستوطنات في نوع من التعويض عن موقفه من مستوطنات سيناء.

وشرع ببناء خطة التغيير الإقليمي الكبرى عبر البوابة اللبنانية، بعدما صاغ نظرية ترى أن حدود الأمن القومي الإسرائيلي تصل إلى باكستان شرقاً. وكان غزو لبنان، الذي سرعان ما ارتد عليه إثر مجازر صبرا وشاتيلا التي أطاحته عن وزارة الدفاع ومن الحكومة.

وتطلب الأمر من شارون سنوات ذاق فيها طعم المرارة في بيداء السياسة، قبل أن يعود وزيراً للخارجية في عهد بنيامين نتنياهو. ومن هناك، بدأ حملته لاستعادة مكانته في الحياة العامة كنوع من «الرجل الراشد» إلى جانب «الغرّ المتهور» بنيامين نتنياهو.

وما إن خسر نتنياهو الانتخابات لمصلحة إيهود باراك في العام 1999 واعتزل الحياة السياسية تاركاً «الليكود» يواجه مصيره، حتى تسنت الفرصة لشارون لترؤس «الليكود» وإعادة بنائه.

وفي انتخابات رئاسة الحكومة في العام 2001، فاز شارون على باراك بنسبة 63 في المئة في مقابل 37 في المئة ليبدأ إعادة الاعتبار لنفسه بمحاربة الانتفاضة الفلسطينية. وللتهرب من المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، أقدم لاحقاً على تنفيذ خطة الفصل بعدما كان قضى بطرق سرية على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.

وبالرغم من أن البعض يرى أن شارون في شبابه غير شارون في شيخوخته، إلا أن الواقع غير ذلك. عاش شارون ومات وهو يكره العرب، ويرى نفسه محارباً ضدهم، وهذا هو الإرث الوحيد الذي خلفه.

  • فريق ماسة
  • 2014-01-12
  • 13198
  • من الأرشيف

رحيل السفاح أرييل شارون: الموت المتأخر.. وإرث العنصرية

مات أرييل شارون أمس الأول، ويشيّع جثمانه اليوم. كثيرون فوجئوا بخبر وفاته، ليس لأنهم كانوا يتوقعون له عمراً مديداً، وإنما لأنهم ظنوا أنه مات منذ زمن طويل. وبالفعل، ثماني سنوات مضت على موت شارون الفعلي في أواخر العام 2005 حينما دخل في حالة السبات، وبقي على قيد الحياة فقط بفضل أجهزة طبية. فقد أصرّت عائلة شارون على «الاحتفاظ بالأمل» في أن يعود إلى الحياة، إلى أن أعلنت أنه «قرّر الرحيل». ومن المؤكد أن شارون في موته، كما في حياته، كان موضع خلاف، بل وخلاف شديد. فكثيرون جاهروا بأن إبقاء شارون على قيد الحياة اصطناعياً مكلف جداً للدولة، ومؤذ أخلاقياً، لأنه يخلف تمييزاً له عن الآخرين. وأشار بعضهم إلى استعباد الأسطورة للإسرائيليين، بحيث لم يعد في وسعهم التمييز بين الخيال والواقع في كل ما يتعلق بسبات الرجل، الذي راجت شائعات حول تلذّذه في فراش الموت بروائح اللحم المشوي. ومع ذلك، فإن شارون كان تجسيداً لحقيقة إسرائيل بما تثيره من خلاف وما تعكسه من تناقضات. وقد كتب رئيس الحكومة الأسبق، إيهود أولمرت، نعياً لشارون تحت عنوان «السيد إسرائيل». كما أن افتتاحية صحيفة «هآرتس» شهدت له أنه جسّد أكثر من أي شخص آخر «نزعة القوة والزعرنة الإسرائيلية». وقد انطلق على الدوام من شعار تعلمه من والدته «لا تثق بالعرب»، وظل حتى آخر لحظة من حياته عديم الثقة بالعرب وبإمكانية السلام معهم. بل أنه حتى عندما قرر التراجع عن المشروع الاستيطاني في قطاع غزة، رفض أن يتم ذلك باتفاق مع السلطة الفلسطينية. حاول أرييل شارون طوال تاريخه العسكري والسياسي الإقناع بشعار والدته وتأكيد أن حياة إسرائيل في قوتها وليس في السلام الذي يمكن أن تبرمه مع العرب. وبالرغم من أنه تحالف في ظروف مختلفة مع بعض العرب، فإنه لم يغيّر أبداً موقفه منهم. فالعربي الجيد في نظره هو العربي الميت. وليس صدفة أنه في قيادته للوحدة 101 مظليين، والتي نشأت على عقيدة الانتقام، ظل يعزز هذه النظرة ويشدد على أن ما لا يتحقق بالقوة يمكن أن يتحقق فقط بمزيد من القوة. لقد بنى شارون صورته كقائد عبر وحشية مارسها غالباً ضد مدنيين، بدءاً من مجزرة قبية في الضفة الغربية وتدمير وحصار قطاع غزة، مروراً باجتياح لبنان في العام 1982، وانتهاء بمجزرة جنين. لم يتغير على هذا الصعيد كونه ضابطاً أو وزيراً للدفاع أو رئيساً للحكومة. فالغاية عنده كانت ولا تزال تبرر الوسيلة. والغاية الأسمى عنده هي بقاء الدولة اليهودية. وبالرغم من أن شارون بنى صورته العامة كعسكري، إلا أن الكثيرين من العسكريين انتقدوا سلوكياته ولم يعتبروه لامعاً، والبعض يعتقد أنه لو حوسب شارون، مثلاً، على معركة المتلا في العام 1956 حينما قتل الكثير من جنوده عبثاً، لما بنيت بعد ذلك هالته. ويرى هؤلاء أن اعتباره «بطل الهجوم المضاد» في حرب تشرين العام 1973، كان تلصّصاً، لأن من نفذ الاختراق كان قائداً إسرائيلياً آخر. وأياً يكن الحال، شكل شارون في الحياة السياسية الإسرائيلية مثالاً للانتهازية. فقد عمل على دخول الحياة السياسية حتى وهو في الجيش، وبعدما فهم أنه لن ينال منصب رئيس الأركان. ولأنه من مجتمع كان محكوماً بتيار عمالي، حاول في البداية عرض نفسه كيسار صهيوني حينما شكل قائمة «شلومتسيون». ولكن سرعان ما أدرك أن المجتمع الإسرائيلي يتّجه وجهة أخرى، عمادها الاستيطان والتوسع، فلعب دوراً محورياً في تشكيل «الليكود» من أحزاب يمينية كـ«حيروت» و«ليبرالية صهيونية» وبقايا حزب بن غوريون، «رافي». واستفاد من الانتقادات الشديدة لحكومات «حزب العمل»، خصوصاً بعد «إخفاق» أو «تقصير» حرب تشرين. وعندما حدث «الانقلاب» في العام 1977، وتولى زعيم «الليكود» مناحيم بيغن رئاسة الحكم، انطلق شارون لـ«يزرع» الضفة الغربية بالمستوطنات في نوع من التعويض عن موقفه من مستوطنات سيناء. وشرع ببناء خطة التغيير الإقليمي الكبرى عبر البوابة اللبنانية، بعدما صاغ نظرية ترى أن حدود الأمن القومي الإسرائيلي تصل إلى باكستان شرقاً. وكان غزو لبنان، الذي سرعان ما ارتد عليه إثر مجازر صبرا وشاتيلا التي أطاحته عن وزارة الدفاع ومن الحكومة. وتطلب الأمر من شارون سنوات ذاق فيها طعم المرارة في بيداء السياسة، قبل أن يعود وزيراً للخارجية في عهد بنيامين نتنياهو. ومن هناك، بدأ حملته لاستعادة مكانته في الحياة العامة كنوع من «الرجل الراشد» إلى جانب «الغرّ المتهور» بنيامين نتنياهو. وما إن خسر نتنياهو الانتخابات لمصلحة إيهود باراك في العام 1999 واعتزل الحياة السياسية تاركاً «الليكود» يواجه مصيره، حتى تسنت الفرصة لشارون لترؤس «الليكود» وإعادة بنائه. وفي انتخابات رئاسة الحكومة في العام 2001، فاز شارون على باراك بنسبة 63 في المئة في مقابل 37 في المئة ليبدأ إعادة الاعتبار لنفسه بمحاربة الانتفاضة الفلسطينية. وللتهرب من المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، أقدم لاحقاً على تنفيذ خطة الفصل بعدما كان قضى بطرق سرية على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وبالرغم من أن البعض يرى أن شارون في شبابه غير شارون في شيخوخته، إلا أن الواقع غير ذلك. عاش شارون ومات وهو يكره العرب، ويرى نفسه محارباً ضدهم، وهذا هو الإرث الوحيد الذي خلفه.

المصدر : حلمي موسى


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة