لن أستمع الى نجم ولا الى قمر .. فعيوني لاتفهم عيون النجوم البراقة .. وأنا لاأشرب من فناجين قهوتها وكؤوس احتفالاتها التي تسكبها بسخاء كلما توفي عام وولد عام .. فهناك تنطفئ النجوم وتذهب الى مقابر السماء أو تحيا وتندلع مساراتها الأبدية..

قولوا ماشئتم عن النجوم والأفلاك وعن الأيام القادمات .. فالشعوب الحرة على الأرض هي التي تقرر طريق النجوم ومساراتها في السماء .. وهي التي تزحزح زحل المنجمين وتهز رأس عطارد وتزيح الزهرة عن الافلاك والمدارات .. الشعوب التي تحرك طريق التاريخ هي التي تز مدارات النجوم ..

لقد حاصرتنا النجوم والأبراج والنبوءات الاعلامية منذ ثلاث سنوات .. ولكننا غيرنا مسار النجوم وزحزحناها بأجسادنا ودمائنا وعنادنا .. لأننا نعرف أن الشعوب التي تنتظر دفاتر السماء والنجوم كي تنقلها الى المستقبل ستبقى بلا مستقبل .. وأما الشعوب التي لاتأبه بالنجوم فانها هي التي تملي على النجوم مساراتها وخرائط حركتها .. وها نحن قد كتبنا للسماء دفاترها في السنوات الثلاث الماضية .. فدفاتر السماء تكتبها فقط الشعوب التي تتحدى النجوم .. وهذا العام لن يدق العالم على أبواب النجوم ليعرف مسار المستقبل لأنه عام تدق فيه النجوم على الباب السوري لتعرف طالعها ومساراتها .. ومن أراد استراق النظر الى دفاتر السماء فليمر على ماسيكتب بعد فترة وجيزة في دمشق وحلب وكل المدن والقرى السورية لأن هناك دفاتر عام 2014 ..

العالم مشغول في استراق النظر الى دفاتر هذا العام ولكن لايجرؤ أحد على الجزم باليقين .. ولايجرؤ نجم ولانجمة على اطلاق الوعود في الشأن السوري .. وربما كان من لقن النجوم درسا قاسيا في احترام الشعوب الحرة هو المرور في أبواب الأزمة السورية التي أربكت كل المنجمين والفلكيين ودهاة السياسيين .. وربما اكتشف العالم أن الوصول الى قهر الشعب في سورية أصعب من الصعود الى المريخ وترويض القمر .. وأصعب من الهبوط على عطارد .. ابن الشمس ..بعد ثلاث سنوات تبدو اللوحة السياسية والعسكرية معقدة للغاية وعصية على الفهم والتحليل أكثر من أمزجة النجوم .. وتبدو الأسئلة متشابكة وبلا نهايات .. فلا أحد قادر على أن يعرف ماذا سيحدث في جنيف وبعد جنيف أو ان كان جنيف سيعقد أصلا .. ولاأحد يعرف سر هذا الجنون السعودي .. ولاأحد يعرف سر سكوت حزب الله على التحرش السعودي الخشن به؟؟ وهل هو سكوت مايسبق العاصفة؟؟ ولاأحد يعرف سر برود الرد الروسي على تفجيرات فولغاغراد رغم أن الرسالة واضحة ومرسلها معروف العنوان وبصماته لاتزال على الأحزمة الناسفة .. هل السعودية وصل بها الجنون الى حد أنها تريد القيام بمناروة ارهابية مجنونة من الرمادي العراقية غربا الى سورية ولبنان شرقا ومن اليمن جنوبا الى موسكو شمالا ؟؟ وهل تمتلك مملكة أشباه الرجال الجرأة على تحدي ارادة العالم الذي يشد الرحال الى جنيف؟ أم أنها حقنت بالفحولة وهرمونات الرجولة لأنها تتسلح بتفاهمات سرية واسرائيلية وتنسيق لتبادل الأدوار مع الامريكيين لاستفزاز الجميع لتحطيم جنيف بأي حرب تندلع قبله؟؟ وهل يمكن وصف قرارها بأنه تهور ومقامرة ومشروع معركة غير محسوبة أم أنها حسابات دقيقة تستند الى تجربة سعودية سابقة في افغانستان باستمرار حرب المجاهدين المتواصلة الى سنوات حتى يتم ارهاق الخصم لينضج الظرف المثالي لانهياره؟؟ وهذا يقودنا الى سؤال مهم ومثير للقلق وهو: هل هذا العام سيكون دمويا أكثر؟ وان كان دمويا أكثر فأين سيكون الدم؟ هل هو فقط في سورية أم أنه العام الذي سينزف فيه كل من لم ينزف بعد؟؟؟ في الجوار ومابعد بعد الجوار؟؟ أم أنه العام الذي سيفاجئ العالم بحمائمه والصيصان والأرانب التي تخرج من حقائبه بدل الجماجم والقراصنة؟؟ ومن سيكون له الكلام الأخير .. الدبابات أم جنيف .. أم الصواريخ؟؟ ..

الوقائع تشير الى أن المملكة تتصرف وكأن مسا من الجنون والهستيريا قد أصاباها وبأنها تتزنر بأحزمة ناسفة وتتقدم بثبات نحو تنفيذ عملية انتحارية تتركها أشلاء .. وتصريحات مسؤوليها وأمرائها خرجت عن مسار الأدب واللياقة الديبلوماسية وعن حتى أبسط الأدبيات الاسلامية من حيث التحدث علنا عن وجود مصلحة حقيقية للتحالف السعودي الاسرائيلي في هذه الظروف الدقيقة .. تبرير لايشبه الا اقرار بالمثلية الجنسية والميول المنحرفة وفتح حدود الاباحيات حتى نهاياتها القصوى .. ولاتشبه ادانتها للدولة السورية التي تتصدى للقتلة الا ادانة الطيور الأبابيل على فتكها بجيش أبرهة الأشرم .. أبرهة لايزال أشرم لكن صارت له لحية ..ومملكة رمال ..ويتسلى بين الحرمين الشريفين ..

كل من يراقب المملكة وسلوكها الغريب يصاب بالذهول من هذا المزاج الناري والانتحاري لأمرائها .. وهذا الظهور العلني العاري على المسرح لايدل على تغير أضواء المسرح ولا على تغير الجمهور بل يدل على أن صاحب الدور حتما يؤدي الدور الأخير له في المشهد الاخير .. في الفصل الاخير .. وأنه في حال من التوتر واللاعودة .. وأن هناك شيئا في الكواليس الدولية يثير قلق المملكة الى حد كبير ويدفعها للتصرف بطريقة انتحارية وصلت بها الى حد التحرش بأقوى رجل في العالم .. فلاديمير بوتين ..

فهذا الكشف عن الدور السعودي دون تزويق ودون ارتداء لأستار الكعبة كما لو كانت عباءة ربما سيكون أهم خطأ خرج من الحسابات السعودية التي كانت في الحقيقة اللاعب الرئيس في الربيع العربي لأن اسناد الدور العلني لقطر كان حنكة ورغبة سعودية .. لأن السعودية دوما كانت ميالة للطعن في الظلام ولعب دور الراعي الواعي في النهار .. فقطر من ناحية الثقل السياسي والديموغرافي والاقتصادي لاتستطيع التنطح لمشروع ضخم وواسع مثل الربيع العربي الذي ابتلع عدة جمهوريات كبيرة بشعوبها .. ولايمكن لهذه الجزيرة الضعيفة المهيضة التي تطفو بالصدفة على سطح المياه أن تقوم بكل هذه المناورات الكبرى وحيدة وتقلب الأوضاع في خمس جمهوريات عربية لولا دعم لامتناه من قوة مركزية اقليمية خفية ذات ثقل نوعي لكنها تتوارى في الصفوف الخلفية .. وهذه القوة المركزية تتمثل في السعودية التي نفذت مع تركيا ماهو مطلوب منهما من قبل الولايات المتحدة والغرب .. فالراعي الحقيقي للربيع العربي كان المملكة السعودية بثقلها الديني والنفطي والمالي والسكاني والجغرافي الذي يتصل بشكل مباشر أوغير مباشر بالعراق وسورية ومصر حيث مركز القوة الشرقية تاريخيا .. وهذا الدور للسعودية في البقاء متصلة بهذه القوى الثلاث أو أحدها هو رغبة اميريكة ايضا لأن المملكة كانت قادرة دوما على تمرير المناورات الامريكية والمراوغات الغربية والمماطلات الاسرائيلية من خلال علاقة السعودية مع احدى العواصم الرئيسية العربية الثلاث ..

لاينظر الباحثون في معاهد الأبحاث الى الأحداث السياسية كما لو كانت كتلا متفرقة بل هي تفاعل متسلسل .. والمعادلة التي لفتت أنظار الجميع هي التفاهم الكيماوي والنووي الذي حدث في الشرق بشكل مفاجئ وتقريبا خلال شهر واحد ينتظرهما جنيفان سوري وايراني .. ولاينظر الى الاتفاقين على أنهما منفصلان بقدر ماأنهما كانا في سلة واحدة ولكن تم الاعلان عن كل واحد منهما على حدة .. وهما اتفاق روسي أمريكي بشكل او بآخر على معادلة شرق جديدة .. وبين هذين الاتفاقين تتلفت المملكة العربية السعودية شرقا وغربا .. فهي صارت بين اتفاقين يضغطان بشدة على دورها ويعصرانها حتى النهاية ويعصران منظوماتها الدينية المنتشرة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ..بسبب دخولنا مرحلة جديدة في الشرق الأوسط ..

ولفهم ذلك ربما علينا أن نتذكر أن التاريخ لايحب الاستراحات الطويلة .. وكذلك حاله في الشرق الأوسط الذي يفرز معادلات وأشكال استقرار اقليمية مؤقتة كل ثلاثة أو أربعة عقود تقريبا .. واذا بدأنا بالقرن الماضي فان تفاعلات الحرب العالمية الاولى وماسمي الثورة العربية الكبرى 1916 أنتجت “عصر الانتداب الغربي” وظهور مكونات سايكس بيكو وانتهت هذه المرحلة بنهاية عصر الاستعمار القديم في الأربعينات وظهور الكيان الاسرائيلي .. وبعدها بدأت المرحلة التالية عبر تفاعلات الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية والنزعة القومية العربية للمنطقة حيث تولت ثورة يوليو للقوميين المصريين قيادة هذه المرحلة بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر .. وهذه المرحلة اجتاحت المنطقة بين الخمسينات ووسط السبعينات ومنها انطلقت التفاعلات القومية في ليبيا والعراق وسورية ولبنان والجزائر وولدت منظمة التحرير الفلسطينية .. حيث انتهت هذه المرحلة بحرب أكتوبر 1973 .. وكان موتها باعلان اتفاقية كامب ديفيد عام 1979.. وهنا بدأت المرحلة الايرانية الثورية الاسلامية في الشرق الأوسط ..وتحرك الشعور الديني الاسلامي في المنطقة ..

نهوض الثورة الاسلامية التي تزعمها الامام الخميني في ايران مباشرة أطلق المرحلة التالية التي حكمت مزاج الشرق الاوسط وغيرت تفاعلاته القومية (التي ماتت بسرعة أو وقعت في الغيبوبة) الى اسلامية مناوئة للغرب حيث بدأ الاحتكاك والتفاعل العربي الفارسي بشدة سواء بالحرب على البوابة الشرقية أو بولادة مزاج اسلامي مقاوم تجسد في ولادة حزب الله وتنظيمات فلسطينية اسلامية ..

الربيع العربي في الحقيقة كان مشروعا لاطلاق منظومة استقرار جديدة تنهي الموجة الاسلامية الايرانية والمزاج المقاوم للغرب الذي ساد المنطقة .. وأما منظومة الاستقرار الجديدة المزمعة فكانت عبر قوى دينية عربية تأكل القوميات والعلمانيات والوطنيات والاسلاميات التقليدية وتبني مشروع دولة اسلامية هجينة لأول مرة في التاريخ .. فهي خليط عجيب من المنظومات الدينية الفاشلة على مر عقود وفتات التنظيمات الدينية العسكرية التي تحطمت عظامها عبر الصراع الطويل مع العلمانية والقومية العربية .. وصارت جميع التنظيمات الاسلامية المندفعة الى الربيع العربي متخمة بالتصورات العسكرية الجهادية والرغبة الجامحة في عسكرة المجتمع والتحرك الاسلامي كحل لفشلها الاجتماعي والدعوي في القرن العشرين وتحولت جميع التنظيمات لتلتهم كل العقود الماضية من التفاعلات الايديولوجية والاجتماعية ..

وهنا يجب أن نتوقف لنتأمل هذه الظاهرة المتمثلة في عسكرة التجربة السياسية الاسلامية على نحو شامل وعسكرة المجتمعات التي تنتشر فيها لأنها تخوض دون أن تعلم تجربة دولة اسبارطة القديمة بشقها العسكري دون معرفة بكارثية هذا الخيار في هذا الزمن بالذات ..ورغم المعاني الايجابية لاسم اسبارطة وتجربتها فان سمعتها كدويلة عسكرية تآكلت حضاريا تقدم نموذجا شاذا وغير مستساغ بنهايته الكئيبة المزرية ودرسا لايرغب به الناس ..

اسبارطة المدينة اليونانية التي تميزت ببنائها العسكري القوي الاسطوري والذي تحول فيما بعد الى احد اهم أسباب هزيمتها الساحقة واندثارها بالقياس الى حضارة أثينة التي بقيت ولانزال نقطف منها الثقافة حتى اليوم .. فقد نشأ في اسبارطة مجتمع شاذ في التركيب والبنية بسبب عسكرته الفائقة .. حتى تحول المجتمع الاسبارطي الى جيش من المحاربين المهووسين بالحرب والقتال وتمجيد الفدائية والذين يربون أبناءهم على القتال منذ نعومة اظفارهم .. تماما كما تفعل كل التنظيمات الاسلامية الجهادية التي تعسكر كل شيء يقع في يدها من الأطفال الى النساء والى مخيمات اللجوء .. وتدرب انتحاريين من جميع الأعمار والطبقات وتحرك كل الطاقات لخدمة العقيدة العسكرية والعقيدة الجهادية فقط كمدخل وحيد لتفوق المشروع الاسلامي ونجاحه .. حتى الجنس حولته الاسبارطية الاسلامية الى اختراع سمته جهاد النكاح ..وعسكرته لخدمة السلاح والمقاتلين ..

المشروع الاسلامي الذي أطلق يعتمد أساسا على محورية الجهاد والمجاهدين والقوة العسكرية للدعوة الاسلامية وتمجيد الموت والانتحار والقتل المفرط .. ولكن هذا الاندفاع لعسكرة التجربة السياسية للاسلاميين الى مداها الأقصى اندفاع متهور غير مدروس وفيه من الحماقة مايفوق التصور وقد بدأ الجميع يدرك خطورته على اي مجتمع وأي عصر .. فالتشابه بين الفكرة الاسلامية الجهادية لكل المجتمع والعقيدة الاسبارطية القديمة يكاد لايصدق .. (وتجلى ذلك في خطاب محمد مرسي الشهير الذي أعلن الجهاد فيه على سورية تلبية لميل جارف نحو عسكرة المشروع السياسي للاخوان المسلمين المصريين كبداية لتعميم النموذج العسكري الجهادي على المنطقة)

هذا ما سيضع السياسيين الاسلاميين ومشروعهم الحالم بسرعة على نفس طريق النهاية لاسبارطة “المجاهدة” قبل أن يستقر الوضع للاسلاميين .. فبسبب العسكرة المفرطة للمجتمع الإسبرطي فإن الهياكل الاقتصادية والاجتماعية للدولة كانت هشة جدا ومتهالكة .. لأن فكرة النقاء الوطني والعرقي وتشدد المجتمع الإسبرطي في المحافظة على مفهوم التفوق العنصري والعسكري للاسبرطيين المحاربين فقط أضعف بناء المجتمع وانتاجه الثقافي والاقتصادي لأنه رفض تقبل الآخرين وطور عنصرية طبقية واجتماعية .. فتدهورت طبقة المواطنين أمام طبقة العسكريين والمحاربين مما خلق توترات اضافية بين مكونات المجتمع كلها ناهيك عن التوترات المتواصلة مع الجوار المعادي ..تماما كما هو حال التنظيمات الاسلامية الحالية التي تركز على محورية عقيدة التكفير ورفض الاختلاف وايمانية وقداسة المؤمنين وفكرة الجهاد والموت.. وهذا بحد ذاته نظرة عنصرية فاقعة وعقدة تفوق عنصري بغيضة ونزعة عسكرية تكاد تتطابق مع الفكرة الاسبارطية ونزعة العسكرة الشاملة للمجتمع ..

وربما أهم ملاحظة تاريخية كانت هي فقر دولة إسبرطة الفكري والثقافي مقارنة بقوتها العسكرية المتميزة بالمقارنة مع دويلة أثينا عدوتها اللدودة التي تمثل البنية الأساسية للثقافة الغربية الحالية .. فالقتال خارج الأراضي لمجتمع تعسكر والصراع مع الطبقات والفئات الاجتماعية وعقدة التفوق الديني والاصطدام بالواقع والمحيط كلها خلقت ضغوطا تسببت في هلاك هذه الدولة وتلاشيها وتلاشي عقائدها بسرعة فائقة .. وهو حال يشبه المآل الذي وصلت اليه التنظيمات الدينية العربية التي تقاتل في أي أرض جهاد وتنتج مقاتلين يتدفقون في كل مكان ولكنها تعاني من فقر ثقافي وضعف لايضاهى في الانتاج الفكري والعلمي والثقافي والحضاري ويشكل عامل لااستقرار وفوضى..

 

ولكن درس اسبارطة الذي يأكل الاسلاميون من طبقه بنهم وجوع لن يقتصر اذاه عليهم فقط .. بل وللاسف ربما يؤثر في العقيدة الاسلامية التي تتحول بنظر الكثيرين بسبب سيطرة الفكرة الجهادية العنيفة الى عقيدة اسبارطية ووصفة للهلاك الاجتماعي والثقافي بسبب أسطرة الفكرة الجهادية وعسكرة المجتمع الاسلامي كما يحدث الآن حيث تحل داعش وحاشا والجبهة الاسلامية والقاعدة وكل الفقس من الكتائب المجاهدة محل تنوع المجتمع .. وهو مصير ينتظر كل المجتمعات التي تتعسكر وتؤسطر عقلية القتال والتفوق العسكري والعنصري مثل المجتمع الاسرائيلي الذي لاشك سينتهي دون أن ينحرف درس اسبارطة قيد شعرة عنه .. وهذا على عكس درس الثورة الاسلامية في ايران أو تجربة حزب الله التي تتحول الى قوة مدنية كبيرة بالتوازي مع التركيز على قوة الجيش أو المقاومة النابعة من قوة الحياة المدنية وتنامي النزعة الأخلاقية وتفوقها على النزعة العسكرية .. ونبذ العنصرية المذهبية والدينية والعرقية ..وتجلى هذا الفهم العميق لدرس اسبارطة بوصف شهير للسيد حسن نصر الله الذي قال: ان اسرائيل هي جيش أقيمت له دولة وليس العكس.. وهو المعنى الحرفي العميق للاسبارطية وقراءة استشرافية وتاريخية لمصير اسرائيل التي ستنتهي دون أدنى شك وتنهار كبيت العنكبوت لأنها مجتمع تعسكر وتشرب العقيدة الاسبارطية..

عقلية ومغامرة إسبرطة العسكرية كانت درسا للإنسانية لما مثلته من خطورة تماهي فكرتي العسكرة والعنصرية داخل أي مجتمع فضلا عن استفزازها للمجتمعات المجاورة .. وهو مايفسر الانهيار السريع للاخوان المسلمين نهائيا في المجتمع المصري في زمن قياسي خوفا من نزعتهم العسكرية الطاغية على خطابهم .. ناهيك عن هزيمتهم العسكرية المريرة والثقافية والاجتماعية في سورية .. وماسيلحقها من تراجعات اقليمية على مستوى التنظيمات الجهادية عالميا.. وتراجع الاسلاميين وقبضتهم في تركيا التي تتهيأ رويدا رويدا للاطاحة بهم والتخلص منهم ودفن هذه المرحلة التي كانت لابد ستصل اليها نزعة اسبارطة الاسلامية اذا انتصرت التنظيمات الاسلامية عسكريا في المنطقة وخاصة في سورية .. وانزلاق حزب العدالة والتنمية الى النهاية الحتمية ماهي الا مسالة وقت في هذا السياق ..

ومثلما توقعنا أن يندحر الربيع على أسوار دمشق وأن تقطع يده وتفرم اصابعه فان علينا استخدام نفس وسائل الاستقراء والقياس والسبر التي ابتعدت عن الانفعال والتمني ولجأت الى التحليل العلمي والتاريخي للظواهر والمعتمد على كم كبير من القراءات المنطقية والتاريخية للمعطيات الميدانية .. فما نراه الآن تفاعل سياسي عنيف انتهى وبدأت مركباته في التبلور ولابد أن ينتهي الى مكون اقليمي جديد سيحكم الشرق الأوسط لعقدين او ثلاثة على الأقل وقد بدأت ملامحه بالظهور من دمشق ومحورها ..

ومن الواضح أن ماسهّل ذلك هو الاندفاعة الدينية للاسلاميين “الاسبارطيين” التي جعلت العالم كله متوجسا منهم .. ونما عدم ارتياح عام من كل الأنظمة والدول ذات النزعة الاسبارطية المغلقة التي لاتنتج الا العنف والتي تعسكر كل شيء .. والسعودية ليست اسبارطة طبعا من الناحية الحضارية على الأقل وليس فيها شيء من انجازات اسبارطة القديمة ولكنها تنتج عقلية اسلامية عنيفة للغاية لاتؤمن الا بالعنصرية واحتقار وتكفير الكل ومحاربته وتتصور أن الاسبارطية “المالية” المدعومة باسبارطية “جهادية” مقاتلة يمكن أن تنتصر على أثينة .. وتجلى ذلك الفهم الخاطئ في استعداء عدة دول مجتمعة بشكل مجنون من اليمن وحتى روسيا مرورا بايران والعراق وسورية ولبنان .. وتبين أن النفور من العقيدة الاسبارطية الاسلامية القتالية هو ماسيشكل الاقليم القادم .. وهذا ربما مايجعل محور المقاومة مطمئنا ويجعل رد فعل فلاديمير بوتين باردا وهو على يقين أن من فجر في روسيا سيتفجر عقله وعقيدته لأن العالم كله صار متفقا على تدميره .. وسيتناثر أشلاء وفق المعادلة الجديدة للعالم القادم الذي ولد في دمشق..

وبالعودة الى تفاعلات هذه المرحلة في الشرق الأوسط التي أنتجت اقليما جديدا سيطل علينا بكل ملامحه في عام 2014 بعد تحطم التجربة الاسبارطية للاسلاميين الجدد .. ومن سورية تحديدا .. اليوم بدأ تفاعل جديد لولادة مرحلة جديدة ستضع الاسلاميين في أضعف مراحلهم التاريخية وربما النهائية .. ولكن من ضمن الأسئلة المحيرة في هذا الاقليم الناشئ يفتش الباحثون عن الوظيفة الجديدة للمملكة العربية السعودية ومدى التغييرات التي ستتعرض لها كونها ضمن المجال الحيوي لأميريكا واسرائيل .. ومشكلة السعودية أنها تشكل بعقيدتها الوهابية القوة الدينية للعقلية الجهادية ثديا للتجربة الاسبارطية الاسلامية الانتحارية التي استمدتها كل التنظيمات الاسلامية والتي رضعتها من نفس الثدي الوهابي بما فيها الاخوان المسلمون ولذلك لن يتم استئصال النزعة العسكرية للتنظيمات الدينية الاسلامية مالم يتم القضاء على الضرع الذي يدر حليب الارهاب المتمثل في السعودية ..

الورطة الأخرى السعودية طبعا هي أنها لم تعد قادرة منذ اليوم على لعب دور قيادي في الشرق الأوسط بعد انفراط علاقتها بدول الاقليم الرئيسية التي كانت السعودية تلجأ للانضمام اليها علنا لتتمكن من الدخول في لعبة القيادة للاقليم .. لأن السعودية ليست قوة ثقافية وفكرية بل فيها وهن فكري وثقافي لايصدق بسبب فقر العقل المبدع الذي تسحقه الأفكار الوهابية الشديدة القمع والتي تحولت الى عقيدة عنصرية فيها العنصرية الاسبارطية التي تمجد الموت والانتحار .. ولاهي رائدة في مجال الثورات الحزبية والتحررية والايديولوجيات .. وهي ليست أرضا للايديولجيات المتطاحنة والمتناطحة والمتفاعلة .. ودورها القيادي كان دوما مرتبطا اما بالتحالف مع دولة قائدة مثل سورية أو مصر أو العراق .. ولذلك يبدو من المحال أن السعودية وحدها تقدر على أن تقوم بدور قيادي بعد اليوم في الشرق .. وهذا ماسيقلل من اهمية دورها الاقليمي .. وهي اليوم خسرت العراق وسوريا كمرتكزي استناد للعب دور قيادي .. وتبدو علاقتها بمصر محاولة للارتباط باحد أضلاع مثلث القيادة الرئيسي العربي لادارة صراعها مع سورية والعراق وايران ولاستعادة دور قيادي بدأ ينحسر وينزلق من بين يديها .. لكن علاقتها بمصر يستحيل أن تكون طبيعية مهما بلغت المجاملات وحملات النفاق المتبادل لأن المنطق والتاريخ يقول بأن هذا اللقاء لايمكن أن يثمر .. ومصر تدرك أن التحالف المصري السعودي عقيم .. فلا السعوديون يريدون الخير لمصر ولانهوضها ولايمكن للمصريين ان ينسوا الدور القذر الذي مارسه السعوديون حتى لحقت بهم هزيمة اليمن وهزيمة 67 وحقيقة التسلل السعودي الى مصر بحجة دعم ثورة “السيسي”.. بسبب انكشاف أوراق مشروعها التي رمت بها على طاولة القمار السورية ..فمن يدعم الاسلاميين في سورية لن يتردد في دعمهم في مصر اذا قرر ذلك ..

ومن هنا تأتي الحيرة والجدال حول ماينتظر المملكة من مصير في سياق انها ستفقد أهميتها بانفصالها النهائي عن المحور العربي المؤثر في الشمال .. وكذلك في أنها تشكل المورد العقائدي الذي تشرب منه الاسبارطية الاسلامية العسكرية التي قد تسبب تفجير العالم بالحروب .. ومثال ذلك استفزازها للروس وللمشاعر القومية لهم وتحرشها بفلاديمير بوتين ..الذي لايحب أن يستفزه أحد..

عام 2014 لايوجد نجم في الدنيا نظر الى حقائبه ودفاتره وفي عيونه .. ولكنه العام الذي انتظرناه كما أعتقد .. سقوط الاسبارطية الاسلامية الشاذة حضاريا .. سيكون عام تحويل الأزمة السورية من عسكرية واعادتها الى أزمة سياسية .. ولاشك أن سقوط الاسبارطية الاسلامية العسكرية وضروعها الوهابية سيتلوه سقوط الاسبارطية اليهودية .. وهذا الشرق قادم لامحالة ..

وليس هذا من مقولات النجوم .. فنحن من قرأ للنجوم طالعها .. ونحن من ستدق النجوم على أبوابهم لتعرف مستقبلها .. فان لم نقرأ للنجوم أقدارها .. فمن سيقرأ لها أقدارها ؟؟

 

  • فريق ماسة
  • 2014-01-11
  • 13408
  • من الأرشيف

الاسبارطية الاسلامية في الفصل الأخير .. من يقرأ للنجوم طالعها؟؟

لن أستمع الى نجم ولا الى قمر .. فعيوني لاتفهم عيون النجوم البراقة .. وأنا لاأشرب من فناجين قهوتها وكؤوس احتفالاتها التي تسكبها بسخاء كلما توفي عام وولد عام .. فهناك تنطفئ النجوم وتذهب الى مقابر السماء أو تحيا وتندلع مساراتها الأبدية.. قولوا ماشئتم عن النجوم والأفلاك وعن الأيام القادمات .. فالشعوب الحرة على الأرض هي التي تقرر طريق النجوم ومساراتها في السماء .. وهي التي تزحزح زحل المنجمين وتهز رأس عطارد وتزيح الزهرة عن الافلاك والمدارات .. الشعوب التي تحرك طريق التاريخ هي التي تز مدارات النجوم .. لقد حاصرتنا النجوم والأبراج والنبوءات الاعلامية منذ ثلاث سنوات .. ولكننا غيرنا مسار النجوم وزحزحناها بأجسادنا ودمائنا وعنادنا .. لأننا نعرف أن الشعوب التي تنتظر دفاتر السماء والنجوم كي تنقلها الى المستقبل ستبقى بلا مستقبل .. وأما الشعوب التي لاتأبه بالنجوم فانها هي التي تملي على النجوم مساراتها وخرائط حركتها .. وها نحن قد كتبنا للسماء دفاترها في السنوات الثلاث الماضية .. فدفاتر السماء تكتبها فقط الشعوب التي تتحدى النجوم .. وهذا العام لن يدق العالم على أبواب النجوم ليعرف مسار المستقبل لأنه عام تدق فيه النجوم على الباب السوري لتعرف طالعها ومساراتها .. ومن أراد استراق النظر الى دفاتر السماء فليمر على ماسيكتب بعد فترة وجيزة في دمشق وحلب وكل المدن والقرى السورية لأن هناك دفاتر عام 2014 .. العالم مشغول في استراق النظر الى دفاتر هذا العام ولكن لايجرؤ أحد على الجزم باليقين .. ولايجرؤ نجم ولانجمة على اطلاق الوعود في الشأن السوري .. وربما كان من لقن النجوم درسا قاسيا في احترام الشعوب الحرة هو المرور في أبواب الأزمة السورية التي أربكت كل المنجمين والفلكيين ودهاة السياسيين .. وربما اكتشف العالم أن الوصول الى قهر الشعب في سورية أصعب من الصعود الى المريخ وترويض القمر .. وأصعب من الهبوط على عطارد .. ابن الشمس ..بعد ثلاث سنوات تبدو اللوحة السياسية والعسكرية معقدة للغاية وعصية على الفهم والتحليل أكثر من أمزجة النجوم .. وتبدو الأسئلة متشابكة وبلا نهايات .. فلا أحد قادر على أن يعرف ماذا سيحدث في جنيف وبعد جنيف أو ان كان جنيف سيعقد أصلا .. ولاأحد يعرف سر هذا الجنون السعودي .. ولاأحد يعرف سر سكوت حزب الله على التحرش السعودي الخشن به؟؟ وهل هو سكوت مايسبق العاصفة؟؟ ولاأحد يعرف سر برود الرد الروسي على تفجيرات فولغاغراد رغم أن الرسالة واضحة ومرسلها معروف العنوان وبصماته لاتزال على الأحزمة الناسفة .. هل السعودية وصل بها الجنون الى حد أنها تريد القيام بمناروة ارهابية مجنونة من الرمادي العراقية غربا الى سورية ولبنان شرقا ومن اليمن جنوبا الى موسكو شمالا ؟؟ وهل تمتلك مملكة أشباه الرجال الجرأة على تحدي ارادة العالم الذي يشد الرحال الى جنيف؟ أم أنها حقنت بالفحولة وهرمونات الرجولة لأنها تتسلح بتفاهمات سرية واسرائيلية وتنسيق لتبادل الأدوار مع الامريكيين لاستفزاز الجميع لتحطيم جنيف بأي حرب تندلع قبله؟؟ وهل يمكن وصف قرارها بأنه تهور ومقامرة ومشروع معركة غير محسوبة أم أنها حسابات دقيقة تستند الى تجربة سعودية سابقة في افغانستان باستمرار حرب المجاهدين المتواصلة الى سنوات حتى يتم ارهاق الخصم لينضج الظرف المثالي لانهياره؟؟ وهذا يقودنا الى سؤال مهم ومثير للقلق وهو: هل هذا العام سيكون دمويا أكثر؟ وان كان دمويا أكثر فأين سيكون الدم؟ هل هو فقط في سورية أم أنه العام الذي سينزف فيه كل من لم ينزف بعد؟؟؟ في الجوار ومابعد بعد الجوار؟؟ أم أنه العام الذي سيفاجئ العالم بحمائمه والصيصان والأرانب التي تخرج من حقائبه بدل الجماجم والقراصنة؟؟ ومن سيكون له الكلام الأخير .. الدبابات أم جنيف .. أم الصواريخ؟؟ .. الوقائع تشير الى أن المملكة تتصرف وكأن مسا من الجنون والهستيريا قد أصاباها وبأنها تتزنر بأحزمة ناسفة وتتقدم بثبات نحو تنفيذ عملية انتحارية تتركها أشلاء .. وتصريحات مسؤوليها وأمرائها خرجت عن مسار الأدب واللياقة الديبلوماسية وعن حتى أبسط الأدبيات الاسلامية من حيث التحدث علنا عن وجود مصلحة حقيقية للتحالف السعودي الاسرائيلي في هذه الظروف الدقيقة .. تبرير لايشبه الا اقرار بالمثلية الجنسية والميول المنحرفة وفتح حدود الاباحيات حتى نهاياتها القصوى .. ولاتشبه ادانتها للدولة السورية التي تتصدى للقتلة الا ادانة الطيور الأبابيل على فتكها بجيش أبرهة الأشرم .. أبرهة لايزال أشرم لكن صارت له لحية ..ومملكة رمال ..ويتسلى بين الحرمين الشريفين .. كل من يراقب المملكة وسلوكها الغريب يصاب بالذهول من هذا المزاج الناري والانتحاري لأمرائها .. وهذا الظهور العلني العاري على المسرح لايدل على تغير أضواء المسرح ولا على تغير الجمهور بل يدل على أن صاحب الدور حتما يؤدي الدور الأخير له في المشهد الاخير .. في الفصل الاخير .. وأنه في حال من التوتر واللاعودة .. وأن هناك شيئا في الكواليس الدولية يثير قلق المملكة الى حد كبير ويدفعها للتصرف بطريقة انتحارية وصلت بها الى حد التحرش بأقوى رجل في العالم .. فلاديمير بوتين .. فهذا الكشف عن الدور السعودي دون تزويق ودون ارتداء لأستار الكعبة كما لو كانت عباءة ربما سيكون أهم خطأ خرج من الحسابات السعودية التي كانت في الحقيقة اللاعب الرئيس في الربيع العربي لأن اسناد الدور العلني لقطر كان حنكة ورغبة سعودية .. لأن السعودية دوما كانت ميالة للطعن في الظلام ولعب دور الراعي الواعي في النهار .. فقطر من ناحية الثقل السياسي والديموغرافي والاقتصادي لاتستطيع التنطح لمشروع ضخم وواسع مثل الربيع العربي الذي ابتلع عدة جمهوريات كبيرة بشعوبها .. ولايمكن لهذه الجزيرة الضعيفة المهيضة التي تطفو بالصدفة على سطح المياه أن تقوم بكل هذه المناورات الكبرى وحيدة وتقلب الأوضاع في خمس جمهوريات عربية لولا دعم لامتناه من قوة مركزية اقليمية خفية ذات ثقل نوعي لكنها تتوارى في الصفوف الخلفية .. وهذه القوة المركزية تتمثل في السعودية التي نفذت مع تركيا ماهو مطلوب منهما من قبل الولايات المتحدة والغرب .. فالراعي الحقيقي للربيع العربي كان المملكة السعودية بثقلها الديني والنفطي والمالي والسكاني والجغرافي الذي يتصل بشكل مباشر أوغير مباشر بالعراق وسورية ومصر حيث مركز القوة الشرقية تاريخيا .. وهذا الدور للسعودية في البقاء متصلة بهذه القوى الثلاث أو أحدها هو رغبة اميريكة ايضا لأن المملكة كانت قادرة دوما على تمرير المناورات الامريكية والمراوغات الغربية والمماطلات الاسرائيلية من خلال علاقة السعودية مع احدى العواصم الرئيسية العربية الثلاث .. لاينظر الباحثون في معاهد الأبحاث الى الأحداث السياسية كما لو كانت كتلا متفرقة بل هي تفاعل متسلسل .. والمعادلة التي لفتت أنظار الجميع هي التفاهم الكيماوي والنووي الذي حدث في الشرق بشكل مفاجئ وتقريبا خلال شهر واحد ينتظرهما جنيفان سوري وايراني .. ولاينظر الى الاتفاقين على أنهما منفصلان بقدر ماأنهما كانا في سلة واحدة ولكن تم الاعلان عن كل واحد منهما على حدة .. وهما اتفاق روسي أمريكي بشكل او بآخر على معادلة شرق جديدة .. وبين هذين الاتفاقين تتلفت المملكة العربية السعودية شرقا وغربا .. فهي صارت بين اتفاقين يضغطان بشدة على دورها ويعصرانها حتى النهاية ويعصران منظوماتها الدينية المنتشرة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ..بسبب دخولنا مرحلة جديدة في الشرق الأوسط .. ولفهم ذلك ربما علينا أن نتذكر أن التاريخ لايحب الاستراحات الطويلة .. وكذلك حاله في الشرق الأوسط الذي يفرز معادلات وأشكال استقرار اقليمية مؤقتة كل ثلاثة أو أربعة عقود تقريبا .. واذا بدأنا بالقرن الماضي فان تفاعلات الحرب العالمية الاولى وماسمي الثورة العربية الكبرى 1916 أنتجت “عصر الانتداب الغربي” وظهور مكونات سايكس بيكو وانتهت هذه المرحلة بنهاية عصر الاستعمار القديم في الأربعينات وظهور الكيان الاسرائيلي .. وبعدها بدأت المرحلة التالية عبر تفاعلات الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية والنزعة القومية العربية للمنطقة حيث تولت ثورة يوليو للقوميين المصريين قيادة هذه المرحلة بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر .. وهذه المرحلة اجتاحت المنطقة بين الخمسينات ووسط السبعينات ومنها انطلقت التفاعلات القومية في ليبيا والعراق وسورية ولبنان والجزائر وولدت منظمة التحرير الفلسطينية .. حيث انتهت هذه المرحلة بحرب أكتوبر 1973 .. وكان موتها باعلان اتفاقية كامب ديفيد عام 1979.. وهنا بدأت المرحلة الايرانية الثورية الاسلامية في الشرق الأوسط ..وتحرك الشعور الديني الاسلامي في المنطقة .. نهوض الثورة الاسلامية التي تزعمها الامام الخميني في ايران مباشرة أطلق المرحلة التالية التي حكمت مزاج الشرق الاوسط وغيرت تفاعلاته القومية (التي ماتت بسرعة أو وقعت في الغيبوبة) الى اسلامية مناوئة للغرب حيث بدأ الاحتكاك والتفاعل العربي الفارسي بشدة سواء بالحرب على البوابة الشرقية أو بولادة مزاج اسلامي مقاوم تجسد في ولادة حزب الله وتنظيمات فلسطينية اسلامية .. الربيع العربي في الحقيقة كان مشروعا لاطلاق منظومة استقرار جديدة تنهي الموجة الاسلامية الايرانية والمزاج المقاوم للغرب الذي ساد المنطقة .. وأما منظومة الاستقرار الجديدة المزمعة فكانت عبر قوى دينية عربية تأكل القوميات والعلمانيات والوطنيات والاسلاميات التقليدية وتبني مشروع دولة اسلامية هجينة لأول مرة في التاريخ .. فهي خليط عجيب من المنظومات الدينية الفاشلة على مر عقود وفتات التنظيمات الدينية العسكرية التي تحطمت عظامها عبر الصراع الطويل مع العلمانية والقومية العربية .. وصارت جميع التنظيمات الاسلامية المندفعة الى الربيع العربي متخمة بالتصورات العسكرية الجهادية والرغبة الجامحة في عسكرة المجتمع والتحرك الاسلامي كحل لفشلها الاجتماعي والدعوي في القرن العشرين وتحولت جميع التنظيمات لتلتهم كل العقود الماضية من التفاعلات الايديولوجية والاجتماعية .. وهنا يجب أن نتوقف لنتأمل هذه الظاهرة المتمثلة في عسكرة التجربة السياسية الاسلامية على نحو شامل وعسكرة المجتمعات التي تنتشر فيها لأنها تخوض دون أن تعلم تجربة دولة اسبارطة القديمة بشقها العسكري دون معرفة بكارثية هذا الخيار في هذا الزمن بالذات ..ورغم المعاني الايجابية لاسم اسبارطة وتجربتها فان سمعتها كدويلة عسكرية تآكلت حضاريا تقدم نموذجا شاذا وغير مستساغ بنهايته الكئيبة المزرية ودرسا لايرغب به الناس .. اسبارطة المدينة اليونانية التي تميزت ببنائها العسكري القوي الاسطوري والذي تحول فيما بعد الى احد اهم أسباب هزيمتها الساحقة واندثارها بالقياس الى حضارة أثينة التي بقيت ولانزال نقطف منها الثقافة حتى اليوم .. فقد نشأ في اسبارطة مجتمع شاذ في التركيب والبنية بسبب عسكرته الفائقة .. حتى تحول المجتمع الاسبارطي الى جيش من المحاربين المهووسين بالحرب والقتال وتمجيد الفدائية والذين يربون أبناءهم على القتال منذ نعومة اظفارهم .. تماما كما تفعل كل التنظيمات الاسلامية الجهادية التي تعسكر كل شيء يقع في يدها من الأطفال الى النساء والى مخيمات اللجوء .. وتدرب انتحاريين من جميع الأعمار والطبقات وتحرك كل الطاقات لخدمة العقيدة العسكرية والعقيدة الجهادية فقط كمدخل وحيد لتفوق المشروع الاسلامي ونجاحه .. حتى الجنس حولته الاسبارطية الاسلامية الى اختراع سمته جهاد النكاح ..وعسكرته لخدمة السلاح والمقاتلين .. المشروع الاسلامي الذي أطلق يعتمد أساسا على محورية الجهاد والمجاهدين والقوة العسكرية للدعوة الاسلامية وتمجيد الموت والانتحار والقتل المفرط .. ولكن هذا الاندفاع لعسكرة التجربة السياسية للاسلاميين الى مداها الأقصى اندفاع متهور غير مدروس وفيه من الحماقة مايفوق التصور وقد بدأ الجميع يدرك خطورته على اي مجتمع وأي عصر .. فالتشابه بين الفكرة الاسلامية الجهادية لكل المجتمع والعقيدة الاسبارطية القديمة يكاد لايصدق .. (وتجلى ذلك في خطاب محمد مرسي الشهير الذي أعلن الجهاد فيه على سورية تلبية لميل جارف نحو عسكرة المشروع السياسي للاخوان المسلمين المصريين كبداية لتعميم النموذج العسكري الجهادي على المنطقة) هذا ما سيضع السياسيين الاسلاميين ومشروعهم الحالم بسرعة على نفس طريق النهاية لاسبارطة “المجاهدة” قبل أن يستقر الوضع للاسلاميين .. فبسبب العسكرة المفرطة للمجتمع الإسبرطي فإن الهياكل الاقتصادية والاجتماعية للدولة كانت هشة جدا ومتهالكة .. لأن فكرة النقاء الوطني والعرقي وتشدد المجتمع الإسبرطي في المحافظة على مفهوم التفوق العنصري والعسكري للاسبرطيين المحاربين فقط أضعف بناء المجتمع وانتاجه الثقافي والاقتصادي لأنه رفض تقبل الآخرين وطور عنصرية طبقية واجتماعية .. فتدهورت طبقة المواطنين أمام طبقة العسكريين والمحاربين مما خلق توترات اضافية بين مكونات المجتمع كلها ناهيك عن التوترات المتواصلة مع الجوار المعادي ..تماما كما هو حال التنظيمات الاسلامية الحالية التي تركز على محورية عقيدة التكفير ورفض الاختلاف وايمانية وقداسة المؤمنين وفكرة الجهاد والموت.. وهذا بحد ذاته نظرة عنصرية فاقعة وعقدة تفوق عنصري بغيضة ونزعة عسكرية تكاد تتطابق مع الفكرة الاسبارطية ونزعة العسكرة الشاملة للمجتمع .. وربما أهم ملاحظة تاريخية كانت هي فقر دولة إسبرطة الفكري والثقافي مقارنة بقوتها العسكرية المتميزة بالمقارنة مع دويلة أثينا عدوتها اللدودة التي تمثل البنية الأساسية للثقافة الغربية الحالية .. فالقتال خارج الأراضي لمجتمع تعسكر والصراع مع الطبقات والفئات الاجتماعية وعقدة التفوق الديني والاصطدام بالواقع والمحيط كلها خلقت ضغوطا تسببت في هلاك هذه الدولة وتلاشيها وتلاشي عقائدها بسرعة فائقة .. وهو حال يشبه المآل الذي وصلت اليه التنظيمات الدينية العربية التي تقاتل في أي أرض جهاد وتنتج مقاتلين يتدفقون في كل مكان ولكنها تعاني من فقر ثقافي وضعف لايضاهى في الانتاج الفكري والعلمي والثقافي والحضاري ويشكل عامل لااستقرار وفوضى..   ولكن درس اسبارطة الذي يأكل الاسلاميون من طبقه بنهم وجوع لن يقتصر اذاه عليهم فقط .. بل وللاسف ربما يؤثر في العقيدة الاسلامية التي تتحول بنظر الكثيرين بسبب سيطرة الفكرة الجهادية العنيفة الى عقيدة اسبارطية ووصفة للهلاك الاجتماعي والثقافي بسبب أسطرة الفكرة الجهادية وعسكرة المجتمع الاسلامي كما يحدث الآن حيث تحل داعش وحاشا والجبهة الاسلامية والقاعدة وكل الفقس من الكتائب المجاهدة محل تنوع المجتمع .. وهو مصير ينتظر كل المجتمعات التي تتعسكر وتؤسطر عقلية القتال والتفوق العسكري والعنصري مثل المجتمع الاسرائيلي الذي لاشك سينتهي دون أن ينحرف درس اسبارطة قيد شعرة عنه .. وهذا على عكس درس الثورة الاسلامية في ايران أو تجربة حزب الله التي تتحول الى قوة مدنية كبيرة بالتوازي مع التركيز على قوة الجيش أو المقاومة النابعة من قوة الحياة المدنية وتنامي النزعة الأخلاقية وتفوقها على النزعة العسكرية .. ونبذ العنصرية المذهبية والدينية والعرقية ..وتجلى هذا الفهم العميق لدرس اسبارطة بوصف شهير للسيد حسن نصر الله الذي قال: ان اسرائيل هي جيش أقيمت له دولة وليس العكس.. وهو المعنى الحرفي العميق للاسبارطية وقراءة استشرافية وتاريخية لمصير اسرائيل التي ستنتهي دون أدنى شك وتنهار كبيت العنكبوت لأنها مجتمع تعسكر وتشرب العقيدة الاسبارطية.. عقلية ومغامرة إسبرطة العسكرية كانت درسا للإنسانية لما مثلته من خطورة تماهي فكرتي العسكرة والعنصرية داخل أي مجتمع فضلا عن استفزازها للمجتمعات المجاورة .. وهو مايفسر الانهيار السريع للاخوان المسلمين نهائيا في المجتمع المصري في زمن قياسي خوفا من نزعتهم العسكرية الطاغية على خطابهم .. ناهيك عن هزيمتهم العسكرية المريرة والثقافية والاجتماعية في سورية .. وماسيلحقها من تراجعات اقليمية على مستوى التنظيمات الجهادية عالميا.. وتراجع الاسلاميين وقبضتهم في تركيا التي تتهيأ رويدا رويدا للاطاحة بهم والتخلص منهم ودفن هذه المرحلة التي كانت لابد ستصل اليها نزعة اسبارطة الاسلامية اذا انتصرت التنظيمات الاسلامية عسكريا في المنطقة وخاصة في سورية .. وانزلاق حزب العدالة والتنمية الى النهاية الحتمية ماهي الا مسالة وقت في هذا السياق .. ومثلما توقعنا أن يندحر الربيع على أسوار دمشق وأن تقطع يده وتفرم اصابعه فان علينا استخدام نفس وسائل الاستقراء والقياس والسبر التي ابتعدت عن الانفعال والتمني ولجأت الى التحليل العلمي والتاريخي للظواهر والمعتمد على كم كبير من القراءات المنطقية والتاريخية للمعطيات الميدانية .. فما نراه الآن تفاعل سياسي عنيف انتهى وبدأت مركباته في التبلور ولابد أن ينتهي الى مكون اقليمي جديد سيحكم الشرق الأوسط لعقدين او ثلاثة على الأقل وقد بدأت ملامحه بالظهور من دمشق ومحورها .. ومن الواضح أن ماسهّل ذلك هو الاندفاعة الدينية للاسلاميين “الاسبارطيين” التي جعلت العالم كله متوجسا منهم .. ونما عدم ارتياح عام من كل الأنظمة والدول ذات النزعة الاسبارطية المغلقة التي لاتنتج الا العنف والتي تعسكر كل شيء .. والسعودية ليست اسبارطة طبعا من الناحية الحضارية على الأقل وليس فيها شيء من انجازات اسبارطة القديمة ولكنها تنتج عقلية اسلامية عنيفة للغاية لاتؤمن الا بالعنصرية واحتقار وتكفير الكل ومحاربته وتتصور أن الاسبارطية “المالية” المدعومة باسبارطية “جهادية” مقاتلة يمكن أن تنتصر على أثينة .. وتجلى ذلك الفهم الخاطئ في استعداء عدة دول مجتمعة بشكل مجنون من اليمن وحتى روسيا مرورا بايران والعراق وسورية ولبنان .. وتبين أن النفور من العقيدة الاسبارطية الاسلامية القتالية هو ماسيشكل الاقليم القادم .. وهذا ربما مايجعل محور المقاومة مطمئنا ويجعل رد فعل فلاديمير بوتين باردا وهو على يقين أن من فجر في روسيا سيتفجر عقله وعقيدته لأن العالم كله صار متفقا على تدميره .. وسيتناثر أشلاء وفق المعادلة الجديدة للعالم القادم الذي ولد في دمشق.. وبالعودة الى تفاعلات هذه المرحلة في الشرق الأوسط التي أنتجت اقليما جديدا سيطل علينا بكل ملامحه في عام 2014 بعد تحطم التجربة الاسبارطية للاسلاميين الجدد .. ومن سورية تحديدا .. اليوم بدأ تفاعل جديد لولادة مرحلة جديدة ستضع الاسلاميين في أضعف مراحلهم التاريخية وربما النهائية .. ولكن من ضمن الأسئلة المحيرة في هذا الاقليم الناشئ يفتش الباحثون عن الوظيفة الجديدة للمملكة العربية السعودية ومدى التغييرات التي ستتعرض لها كونها ضمن المجال الحيوي لأميريكا واسرائيل .. ومشكلة السعودية أنها تشكل بعقيدتها الوهابية القوة الدينية للعقلية الجهادية ثديا للتجربة الاسبارطية الاسلامية الانتحارية التي استمدتها كل التنظيمات الاسلامية والتي رضعتها من نفس الثدي الوهابي بما فيها الاخوان المسلمون ولذلك لن يتم استئصال النزعة العسكرية للتنظيمات الدينية الاسلامية مالم يتم القضاء على الضرع الذي يدر حليب الارهاب المتمثل في السعودية .. الورطة الأخرى السعودية طبعا هي أنها لم تعد قادرة منذ اليوم على لعب دور قيادي في الشرق الأوسط بعد انفراط علاقتها بدول الاقليم الرئيسية التي كانت السعودية تلجأ للانضمام اليها علنا لتتمكن من الدخول في لعبة القيادة للاقليم .. لأن السعودية ليست قوة ثقافية وفكرية بل فيها وهن فكري وثقافي لايصدق بسبب فقر العقل المبدع الذي تسحقه الأفكار الوهابية الشديدة القمع والتي تحولت الى عقيدة عنصرية فيها العنصرية الاسبارطية التي تمجد الموت والانتحار .. ولاهي رائدة في مجال الثورات الحزبية والتحررية والايديولوجيات .. وهي ليست أرضا للايديولجيات المتطاحنة والمتناطحة والمتفاعلة .. ودورها القيادي كان دوما مرتبطا اما بالتحالف مع دولة قائدة مثل سورية أو مصر أو العراق .. ولذلك يبدو من المحال أن السعودية وحدها تقدر على أن تقوم بدور قيادي بعد اليوم في الشرق .. وهذا ماسيقلل من اهمية دورها الاقليمي .. وهي اليوم خسرت العراق وسوريا كمرتكزي استناد للعب دور قيادي .. وتبدو علاقتها بمصر محاولة للارتباط باحد أضلاع مثلث القيادة الرئيسي العربي لادارة صراعها مع سورية والعراق وايران ولاستعادة دور قيادي بدأ ينحسر وينزلق من بين يديها .. لكن علاقتها بمصر يستحيل أن تكون طبيعية مهما بلغت المجاملات وحملات النفاق المتبادل لأن المنطق والتاريخ يقول بأن هذا اللقاء لايمكن أن يثمر .. ومصر تدرك أن التحالف المصري السعودي عقيم .. فلا السعوديون يريدون الخير لمصر ولانهوضها ولايمكن للمصريين ان ينسوا الدور القذر الذي مارسه السعوديون حتى لحقت بهم هزيمة اليمن وهزيمة 67 وحقيقة التسلل السعودي الى مصر بحجة دعم ثورة “السيسي”.. بسبب انكشاف أوراق مشروعها التي رمت بها على طاولة القمار السورية ..فمن يدعم الاسلاميين في سورية لن يتردد في دعمهم في مصر اذا قرر ذلك .. ومن هنا تأتي الحيرة والجدال حول ماينتظر المملكة من مصير في سياق انها ستفقد أهميتها بانفصالها النهائي عن المحور العربي المؤثر في الشمال .. وكذلك في أنها تشكل المورد العقائدي الذي تشرب منه الاسبارطية الاسلامية العسكرية التي قد تسبب تفجير العالم بالحروب .. ومثال ذلك استفزازها للروس وللمشاعر القومية لهم وتحرشها بفلاديمير بوتين ..الذي لايحب أن يستفزه أحد.. عام 2014 لايوجد نجم في الدنيا نظر الى حقائبه ودفاتره وفي عيونه .. ولكنه العام الذي انتظرناه كما أعتقد .. سقوط الاسبارطية الاسلامية الشاذة حضاريا .. سيكون عام تحويل الأزمة السورية من عسكرية واعادتها الى أزمة سياسية .. ولاشك أن سقوط الاسبارطية الاسلامية العسكرية وضروعها الوهابية سيتلوه سقوط الاسبارطية اليهودية .. وهذا الشرق قادم لامحالة .. وليس هذا من مقولات النجوم .. فنحن من قرأ للنجوم طالعها .. ونحن من ستدق النجوم على أبوابهم لتعرف مستقبلها .. فان لم نقرأ للنجوم أقدارها .. فمن سيقرأ لها أقدارها ؟؟  

المصدر : نارام سرجون


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة